إلغاء الأنظمة والقوانين
القانون كائن حي، ومن طبيعة الكائن الحي التنقل بين أطوار بين ضعف وقوة، و لامفر من حلول الأجل القريب أو البعيد، وهذه خاصية قانونية أساسية، ومعها أن القانون عمل بشري مهما أحكم وصرفت لأجل ضبطه أموال، وكدت أذهان، وأجريت دراسات، فلا مناص من مجيء وقت يفقد فيه قيمته كلها أو بعضًا منها، ولكل أجل كتاب، ولكل شأن شرة ونهوض، وفتور وخمول، والأمر لله من قبل ومن بعد.
لأجل هذا حرصت على القراءة في هذا المعنى، فظفرت ببحث عنوانه: إلغاء الأنظمة في المملكة العربية السعودية دراسة تحليلية للأحكام النظامية في ضوء قضاء ديوان المظالم، كتبه: أ.د.أيوب بن منصور الجربوع، ونشر في مجلة الإدارة العامة الصادرة عن معهد الإدارة العامة، ضمن المجلد الستين العدد الثاني، الصادر في شهر ربيع الآخر عام 1441= ديسمبر سنة 2019م. ويقع البحث في (32) صفحة، وموضعه في المجلة يبدأ من الصفحة (202) حتى الصفحة (234)، وآمل أن يعود إليه القارئ لتعظيم الفائدة من متنه، وتقصير سلسلة السند في نقله، مع قراءة لفظ الباحث مثلما ورد.
يقول البروفيسور الجربوع: إن الأنظمة الصادرة بأمر ملكي وهي: النظام الأساسي للحكم، ونظام مجلس الوزراء، ونظام مجلس الشورى، لم تضع منهجية وصيغة محددة لإلغاء النصوص النظامية، مع أن هذه الأنظمة نصت على أن إصدار الأنظمة وتعديلها وإلغاءها يكون بمراسيم ملكية بعد دراستها من قبل مجلس الوزراء، ومجلس الشورى، وهذا النص يتقاصر دون الأنظمة الخمس الصادرة بأمر ملكي، وهي الثلاثة المذكورة آنفًا، ومعها نظام المناطق، ونظام هيئة البيعة، ويبدو أن هذا النص يمكن أن يفهم منه اختصاص مجلسي الوزراء والشورى بالتشريع والتعديل والإلغاء.
ويظهر الواقع التطبيقي لإلغاء النصوص النظامية في المملكة وجود صورتين للإلغاء هما: الإلغاء الصريح، والإلغاء الضمني وهو الأكثر استخدامًا، ولكل صورة خصائصها. والإلغاء يفقد القاعدة القانونية قوتها الملزمة، وبالتالي فأهمية ضبط منهجية الإلغاء يتجاوز السلطة التنظيمية والتنفيذية، إلى عموم المخاطبين بالقاعدة القانونية؛ ليتمكنوا من تحديد النصوص الملزمة لهم، وهم جمع من القضاة والفقهاء والمحامين والأساتذة وعامة الناس. ومع أهمية موضوع الإلغاء ومسيس الحاجة إليه، فلم يتطرق إليه أحد الباحثين باستفاضة كما ذكر البروفيسور الجربوع حين نشر هذا البحث.
يعني إلغاء لنص القانوني إنهاء سريان هذا النص وتجريده من قوته القانونية الإلزامية حسب التاريخ المحدد للإنهاء سواء بإحلال نص جديد من المنظم مكان القديم، أو بالاستغناء عن النص القديم دون إحلال جديد مكانه. ويختلف إلغاء النص النظامي عن إبطاله؛ فالإلغاء لا يرد إلّا على قاعدة نظامية استوفت شروط صحة وجودها، وصحة أركانها الجوهرية، وبالتالي لا يطعن الإلغاء في صحتها، ولا في صحة تطبيقها في الماضي، وليس للإلغاء أثر رجعي، أما الإبطال فينصب على قاعدة نظامية لم تكتمل شروط صحتها وأركانها، وللإبطال أثر رجعي يقتضي بطلان الآثار المترتبة عليه في الماضي.
ويتحقق الإلغاء الصريح بأن ينص النظام الجديد صراحة على إلغاء النص النظامي القديم إلغاء كليًا أو جزئيًا، ويستخدم فيه عادة كلمة “يحل” أو “يلغي”، ولهما الأثر القانوني نفسه المنهي لقوة القاعدة القانونية. ومن أهم خصائص الإلغاء الصريح للنص النظامي أنه محدد، ويمكن التعرف من خلاله على النصوص الملغاة، وتاريخ نفاذ النص الجديد، والأحوال التي يحكمها، ولا يجد المخاطبون به أو المتعاملون معه أي إشكال في العلم والمعرفة المحتفة به، أو في العمل والتطبيق المنبني عليه.
بينما في الإلغاء الضمني لا يوجد نص نظامي جديد ينص صراحة على إلغاء النص النظامي القديم إلغاء كليًا أو جزئيًا، وتأتي عادة فيه عبارة “يلغي هذا النظام كل ما يتعارض معه من أحكام”. ويتحقق الإلغاء الضمني في حالتين هما: الإلغاء الضمني بالتعارض بين نص جديد ونص قديم، والإلغاء الضمني بتنظيم الموضوع نفسه من جديد. وفي حال وجود نص قديم وجديد يستحيل معه الجمع بينهما، فعندئذ تكون الأحكام الجديدة قد ألغت ضمنًا أحكام النظام السابق. أما إذا كان التعارض جزئيًا فلا يكون الإلغاء إلّا للأحكام المتعارضة من القديم مع التشريع الجديد، شريطة أن تكون هذه الأحكام من طبيعة واحدة، من حيث العموم والخصوص، وعليه فلا يتعارض نص عام مع نص خاص، وإنما يتقيد تطبيق النص العام بواسطة النص الخاص، سواء أكان النص الخاص من النظام الجديد أم من النظام القديم.
وعندما يضع المشرع قانونًا جديدًا ينظم به أي موضوع تنظيمًا كاملًا، فهذا يعني أنه استغنى عن النظام السابق، واستعاض عنه بأحكام النظام الجديد. ومع أن عبارة “يلغي هذا النظام كل ما يتعارض معه من أحكام” هي الأسهل في الصياغة، والأحوط والأسلم من النسيان أو السقوط، إلّا أنه يترتب عليها بعض الإشكالات مثل:
- تعذر تحديد الأحكام التي يلغيها النظام الجديد لعدم الوضوح، أو لاعتبار أن التعارض بين النظامين تعارض بين نص عام ونص خاص.
- يترك الإلغاء الضمني عبء تتبع ما يلغيه النظام من أحكام إلى اجتهادات الآخرين وقد يؤدي لتدخل القضاء في حال حدوث منازعة.
- قد توجد أحكام أو قرارات لا تتعارض مع أحكام النظام الجديد وتظل سارية حتى بعد صدوره.
- قد يتعارض النظام الجديد مع أحكام المعاهدات والاتفاقيات الدولية بما لها من قوة نظامية.
- لا يتوافق النص على إلغاء النظام الجديد لما يتعارض معه من الأنظمة القديمة مع الضوابط المطلوب مراعاتها عند إعداد مشروعات الأنظمة واللوائح وما في حكمها.
كذلك يبقى السؤال عن السلطة المخولة بإلغاء الأنظمة قائمًا، وهو ما تحسمه مواد واردة في الأنظمة الأساسية مثلما جاء في المادة السبعين من النظام الأساسي للحكم، وفي المادة العشرين من نظام مجلس الوزراء، وفي المادة الثامنة عشرة من نظام مجلس الشورى، وقد أشارت هذه المواد إلى أن إلغاء النص النظامي يتم بالإجراءات ذاتها من قبل السلطة المختصة نفسها؛ فلا بد أن يصدر قرار من مجلس الوزراء، وقرار من مجلس الشورى، ويصادق عليهما بمرسوم ملكي أي بالأداة ذاتها، ويبدو أن تطبيق منطوق هذه المواد ومفهومها يحتاج إلى مراجعة وتوضيح، باستثناء وضوح أن الأنظمة الأساسية الخمس الصادرة بأمر ملكي غير داخلة في موضوع هذا البحث البتة.
كما يجدر التنبيه إلى أنه ليس من صلاحية المؤسسات القضائية إلغاء النصوص النظامية بأحكام تصدرها، فليس لها سوى الامتناع عن تطبيق النص النظامي إذا كان يتعارض مع الكتاب والسنة. وقد طبق الباحث على أمثلة داخلة في سياق بحثه؛ كي يجمع التطبيق مع التنظير، وجاء تطبيقه على بعض أحكام ديوان المظالم التي حملت عبء تتبع ما يلغيه النظام من أحكام، وإن الرجوع إلى هذه الأمثلة بقراءة فاحصة لمما يفيد رجل القانون وعضو الرواق العدلي أيًا كان موقعه فيهما.
ثمّ خلص الباحث أ.د.أيوب الجربوع إلى ضرورة تضمين الأنظمة التي تلغي غيرها نصوصًا صريحة تحدد ماذا يلغى بتفصيل واضح، وعقب ذلك تختم الأنظمة الجديدة بجملة “وما يتعارض معه من أحكام”. وأكدّ باحثنا على أهمية التزام المؤسسات الحكومية بضوابط إعداد مشروعات الأنظمة وإدراج جدول يبين الأنظمة والأحكام الملغاة بموجب المقترح الجديد، وأخيرًا فلا مناص من صدور أمر صريح يخول السلطة المختصة بتعديل الجوانب التنظيمية الوارد في أنظمة المؤسسات العامة، وهو ما يدعو إليه الكاتب في بحثه.
إن الإلغاء قد يكون ضرورة واقع أو منطق أو تطور جديد، ومع ذلك فمن الحكمة التريث قبل المصير إليه، لأن التعجل بالإلغاء قد يوقع في حرج إذا استبانت حتمية الرجوع عن الإلغاء مستقبلًا. ومع أن من يملك الإصدار يمتلك الإلغاء، ومن يملك الكل يمتلك الجزء، سواء كان ذلك بالإلغاء الصريح المتمثل بصور منها ما سبق إضافة إلى تحديد مدة للقانون ينتهي ببلوغها، او بالإلغاء الضمني كما مضى، إلّا أن ثمت مؤثرات وعوامل قد تعجل بإلغاء قانون أو تعديله أو وأده حتى، وهو ما سيكون موضوع مقال آخر بحول الله وقوته.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 16 من شهرِ محرم عام 1446
22 من شهر يوليو عام 2024م