سير وأعلام

إسماعيل بن عتيق وحياة مع الدعوة والأدب والرحلة

إسماعيل بن عتيق وحياة مع الدعوة والأدب والرحلة

انتقل إلى الدار الآخرة صبيحة هذا اليوم الشيخ إسماعيل بن سعد بن إسماعيل بن الشيخ العلامة حمد بن عتيق (1357-1446=1938-2024م)، بعد حياة طويلة حافلة قضاها في العلم وطلبه وتعليمه، وفي الدعوة وممارستها داخليًا وخارجيًا عبر الرجلات العديدة خلال ستة عقود. ولم يمنعه طول الترحال من الكتابة والتأليف والنشر، حتى حفظ الله به شيئًا من السير والأخبار والنوادر، ومن حفظ تاريخ رجل مؤمن فكأنما أحياه ونصبه للناس ماثلًا يرى ويُعرف، والأجر من الله مكتوب لمن روى المكارم وبثها وأبقاها حاضرة تقاوم طوفان المادية، وتصد سيل الشهوات والشبهات.

عرف عن الشيخ الراحل ملازمته لعالمين كبيرين من علماء البلد والعالم والإسلامي في عصرنا، هما سماحة المفتي الأول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وسماحة المفتي الثاني الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز -رحمهم الله-، ولعل هذه الملازمة هي التي جعلت الشيخ إسماعيل كثير بالعناية بشؤون العلم والتعليم والدعوة، مع الابتعاد عن القضاء الذي استعفى منه مبكرًا. وقد أعانه هذا القرب اللصيق بالمشايخ الكبار ومن يطوف بهم أو يزورهم أو يتواصل معهم فأصبح من أقدر الناس على رواية الأخبار عنهم، وفي تلكم الروايات غير الأخبار الكثير من الدروس والعبر.

كما حمل الشيخ ابن عتيق هم الدعوة داخل المملكة وخارجها، وبرز ذلك في نشاطه الدعوي المنبري والكتابي، والخطابة في المساجد يوم الجمعة حتى أنه صلى إمامًا وخطيبًا بالملك فيصل -رحمه الله- مدة من الزمن. ومن الطبيعي أن يمتد اهتمامه بالدعوة إلى خارج البلاد؛ خاصة أنه المسؤول عن شؤون الدعوة تحت إدارة الشيخ ابن باز، ويترتب على هذا الوصف الوظيفي ضرورة ارتباطه بصلات مع أشخاص ومؤسسات بما أودعه الله فيهم من تنوع واختلاف، إضافة لدخوله في حوارات ونقاشات، وسعيه لتقريب وجهات النظر، وجذب وجوه أهل البلاد الإسلامية من علماء ومفتين ورموز إلى ما يجعلهم أقرب لبلاده ومنهجها، وكان للشيخ في رحلاته منهج يعتمد على التداخل مع اهل البلاد بعوائدهم المقبولة في اللباس والكلام والشؤون الدنيوية؛ كي يقبلوا منه ويقبلوا عليه، وحتى يبصر حالهم بصورة أوضح.

ولم يفت على الشيخ وهذا من توفيق الله له، أن يبادر إلى التقييد فالكتابة ثمّ التأليف والطباعة، حتى أن عدة الكتابة ولوازمها ترافقه في السفر والحضر ولا تفارقه، ولو أن كل قادر خصص للكتابة بضع دقائق يومية لكان المنجز التأليفي أكثر من الموجود، وأعمق، وأنفع، خاصة إذا تعرض للمراجعة وإعادة النظر. ولأن الشيخ عني بهذا الباب فقد صدرت له عدة كتب، وربما أن بعضها في طور الطباعة أو شارف على الانتهاء، وعسى أن تجد مشروعاته القديمة من يعيد بعثها، والجديدة من يتمها ويخرجها؛ فهذا أقل الواجب له.

أيضًا مما وفق الله له الشيخ أن جعله في حله وترحاله من مفاتيح الخير، الذين لا يبخلون بفكرة، أو جهد، أو مال، أو تشجيع، أو تقريب الآراء وردم الفجوة وتقليل الجفوة، أو بحسن الظن وصادق الدعاء على الأقل، وإن المحروم من الخلائق هو الكز الغليظ الذي لا يصنع معروفًا، ولا يدل عليه، ولا يترك السائرين في دروب الخير حسب اجتهادهم دون همز أو لمز، والعياذ بالله من حال أهل الإرجاف أيًا كانت طريقته، وأيًا كانت دوافعه، وأما النقد الصادق الذي يبتغى به عين الصواب والمنفعة فهو واجب على كل قادر.

وبما أن للشيخ علاقة مع الكتاب والكتابة والتوثيق، فقد افتتح مكتبة ودار نشر، واجتمعت له مكتبة فيها نفائس وربما نوادر، وبعد أن تقدمت به السن لم يتركها لعوادي الزمن، وجوائح النسيان، بل أهداها لهيئة كبار العلماء، ولدارة الملك عبدالعزيز، وهي مؤسسة رسمية تحفظ ذاكرتنا الوطنية والتاريخية، وجاءه على إثر ذلك كتاب شكر من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله ورعاه-. وإن العناية بمصير الكتاب والمكتبة الشخصية بعد الرحيل لمن الهم الذي يراود أصحاب المكتبات الخاصة، والحمدلله أن نشأت في الرياض أول جمعية سعودية وعربية للعناية بالمكتبات الخاصة، وسيكون لها حديث آخر لاحقًا بحول الله.

أما الشيخ في خاصة نفسه، فقد عاش يتيمًا مع انتمائه لأسرة علم عريقة معروفة، وبالصبر والاجتهاد بنى نفسه، حتى كبر وتزوج فرزق بذرية طيبة أسأل المولى أن يبارك لها وعليها. وكان للشيخ ورد قراني يومي لا يتركه حتى لو بقي في المسجد وحيدًا يقرأ على الطريقة النجدية، والورد الثابت يستتبع ختمة دورية للكتاب العزيز، وما أسعد من يعمر وقته بتلاوة كلام الله وتدبره. وللشيخ مجلس مفتوح يستقبل فيه العامة والخاصة، ولا يستنكف عن الظفر بالفائدة ولو وردت على لسان شاب في عمر أبنائه، وامتاز بجمال الأحدوثة وعذوبتها، ولطف الأخلاق وسماحة النفس، وله صلات طيبة مع علماء المملكة ورموزها مثل المشايخ ابن سعدي الذي استضافه في منزله خمسة عشر يومًا، وابن حميد، والخريصي، والحكمي، وسماحة المفتي، وغيرهم.

أسأل الله الرب الرحيم الرحمن، مع ساعة الأصيل، أن يسمع الدعاء الذي تضرع به المصلون والمشيعون لعبده البعيد عن التكلّف الشيخ إسماعيل العتيق بعد أن صلوا عليه عقب نهاية صلاة عصر اليوم السبت في جامع الأمير فهد بن محمد بحي الحائر جنوب الرياض، ثمّ شاركوا في مواراة جسده بالمقبرة حسب السنة، والله يتقبل منه أحسن العمل، ويطيل له الصالحات من آثاره، ويبارك عليها حتى لا ينقطع أجره ولا تنتهي حسناته، ويجيب دعوات محبيه الذين كتبوا عنه وابتهلوا بالدعاء له، ومنهم صاحبه الوفي الشيخ أبو إبراهيم عبدالكريم بن عبدالمحسن التركي الذي اقتبست في هذا المقال الكثير مما كتبه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 14 من شهرِ محرم عام 1446

20 من شهر يوليو عام 2024م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. رحمهم الله جميعا *** وبارك في الخلف وجعلهم خير خلف لخير سلف *** آمين آمين آمين يارب العالمين أكررها آلاف آمين

  2. جزاكم الله خيراً
    وبارك في علمك
    وقلمك أستاذي الكريم أحمد العساف
    ورحم الله الشيخ إسماعيل بن عتيق وغفر له جزاه خير الجزاء على ما قدم في نفع العباد والبلاد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)