أقلامي…
لي مع الأقلام حكايات، أولها أني أحب الأقلام، والقلم الفخم على وجه الخصوص، واحرص على القلم ذي الحبر السائل، أو قلم الرصاص، أما ماكان ناشف الحبر فلا أحبه البتة. وثانيها أنه على كثرة الأقلام الفخمة التي امتلكتها بالشراء أو بإهداء من آخرين لطفاء فضلاء، إلّا أن جلّها فقدت مني في سياق حدث ما في الغالب كما سيأتي. وثالثها أني إذا ارتديت الملابس دون تثبيت قلم في موضعه فسوف يسيطر عليّ شعور بفقدان الثبات، ووجود نقص، وآخرها أن هذه المحبة والعلاقة سرت إلى القلم الإلكتروني، وإن لم يقص المنتج الجديد القلم التقليدي، ولا أظنه سيفعل، والحمدلله أني لم أعاقب مدرسيًا بوضع القلم بين أصابع يدي، مثلما كان يصنع بعض الأساتذة بالطلبة جزاء الإهمال أو العبث، ويا لها من عقوبة بغيضة صادمة!
من قصصي مع القلم أني عثرت على رسائل خطية بين والدي وجدي -رحمهما الله- مكتوبة بقلم سائل، وخط جميل، فسألت الوالد: من المرسل؟ فأجابني: وهل عاش لجدك ولد من الذكور غيري؟ فقلت له: لكن الخط ليس خطك الذي أعرفه! وحينها أخبرني أنه كتب تلك الرسائل بأقلام حبر فخمة تزيد الخط جمالًا، وقد كانت هي أقلامه القديمة، وعندما تقدم به العمر اكتفى بذوات الحبر الناشف، وهي أقلام لا تزين الخط غالبًا، وربما أني بعد أن عرفت السر ازداد تعلقي بالأقلام الفخمة، وبذوات الحبر خاصة، وزاد نفوري من كل ناشف!
لذلك كنت استخدم القلم الحبر من وقت مبكر، حتى وقف أستاذ اللغة الإنجليزية فوق رأسي، وقال لي كلمة إعجاب بالخط مشوبة بالتحدي الذي أخافني ولم يكن له موجب، وسوف أذكر الحكاية كاملة حينما أكتب عن الخطِّ بحول الله. علمًا أن قلم الحبر هو الأصل في أداء الامتحانات المدرسية التي تديرها وزارة المعارف -التعليم حاليًا- ولكني لم أدرك هذه الامتحانات لأنها من تاريخ أجيال سبقتني، وكان الطلبة يعانون من تعبئة القلم بالحبر قبل توافر العبوات الجاهزة، ومما أرويه عن معاين، أن أمير إحدى مناطق المملكة -رحمه الله- ضرب ابنه بساحة المدرسة أمام الطلبة والمدرسين؛ لأن الطالب الشاب كان يملأ قلمه بالحبر من الدواة، وعندما هزّ القلم كالمعتاد بعد التعبئة، تطاير الحبر على ثياب أحد المدرسين، ولم يكن الفتى الأمير متعمدًا في الغالب، وإنما هو قدره الذي جرى به القلم.
من ذكرياتي القلمية أني بعد أن تخرجت في الجامعة إبان دراستي الأولى، أهداني شقيقي سليمان -سلمه الله- طقم أقلام فخم بلون فضي آسر من شركة عالمية كبرى، والطقم فيه ثلاثة أصناف: حبر ورصاص وناشف. أما الثالث فأهديته من فوري زهدًا فيه ولأني لن أنتفع منه، واكتفيت بقلمي الحبر والرصاص، واستعملتهما كثيرًا. وقد كتبت بالحبر بعض التعليقات على أوراق اجتماعات تخصّ العمل قديمًا، ولون الحبر مع طريقة الخطّ لافتة واضحة؛ حتى قال لي زميل: تداولت الشركات وبعض المجتمعين صورة من الأوراق وخطك عليها واضح، وهي ليست أوراقًا سرية؛ لكن ماكان ينبغي لهم نشرها.
وقد تعرض القلمان -الحبر والرصاص- لعطب أكثر من مرة، فأعطيتهما للوكيل من أجل الإصلاح على الضمان، وحين تأخر رجوعهما في بعض المرات، تابعت مندوب الوكيل فقال لي: أرسلنا أحدهما إلى سويسرا، والآخر إلى أيرلندا لإصلاحهما في مراكز الشركة الأم! فقلت له ممازحًا: لو ذهبت أنا معهما هناك لكان أجدى، وبعد شهور عادت الأقلام مجددة صالحة، وتكرر هذا الأمر غير مرة لطول عمرهما عندي، ومع الأسف أن الحبر منهما وقع مني بعد أن كتبت به وأنا واقف بالسيارة أمام شركة تأمين، ولم أشعر إلّا بعد وصولي، ونسيت الرصاص في مكان وضوء عام، ثمّ رجعت للموضعين ولم أعثر عليهما.
ومن طريف مواقفي مع الأقلام، أني سافرت قبل ربع قرن إلى بلد عربي لحضور معرض الكتاب الشهير في ذلكم البلد العزيز، وحين هممت بالعودة عبر المطار، مررت من عند جهاز الفحص، فاستوقفني ضابط بثلاث نجمات، وخطف القلم الفخم من جيبي، وشرع يقلبه بين يديه ويكاد أن يأكله بعينيه، وربما أنه انتظر كلمة إهداء مني فلم أفعل، وما أسوأ الإهداء بالإكراه. المهم قال لي: لا بد أن نفحص القلم عن الإرهاب! فقلت له: افحصه، ووقفت إلى جوار جهاز الفحص ليعلم إصراري على أخذ القلم، وحين يئس من ذهابي أعطاني القلم وانصرفت بنشوة النصر.
كما لا أنسى قصة قلم فخم طلبته مني طفلة في مكان عام وأطفالي معي، وقد ادعت أنها سوف تستخدمه مع عائلتها للإجابة على أوراق مسابقة فيما أذكر، فذهب القلم وذهبت الطفلة ولم يعودا، وسبق لي رواية هذه الواقعة كاملة، ووردني عليها تعليقات لطيفة غير أنها أغضبت بعض من حولي! ومن تفاعلات القصة أن أحد الزملاء أقسم أن يعوضني بقلم فخم، وقد أوفى -شكر الله له- بوعده، ثمّ شاء الله أن يسقط هذا القلم مني، ويصبح خردة لافائدة منه إلّا بمنظره الجميل.
علمًا أن واقعة السقوط المباشر للأقلام متكررة معي، ومنها قلم رصاص فخم وثمين من شركة عالمية مشهورة، والغريب أنه حين سقط كان سقوطه على رأسه مباشرة، ففقد معها الذاكرة وطريقة العمل، ولم تفلح جهودي، ولم تحسن الشركة ولا وكيلها للقلم ولا لي مع أن هذا واجب عليهم فيما أظن، وصمدوا على موقفهم الرافض حتى مع إلحاح صديقي على الشركة التي يعمل بها دون جدوى، وبقي القلم بمنظره اللافت محفوظًا لدي، على أمل أن أجد طريقة لنفخ الحياة فيه، ولم أصل بعدُ إلى مرحلة اليأس التي توصف بأنها إحدى الراحتين، والله يعوضني خيرًا.
كذلك أهداني صديق قلمًا فخمًا وغاليًا حتى أني غضبت عليه؛ والغضب ليس من الهدية فهي سنة ومجلبة للمحبة، لكن لأني حين أسديت له معروفًا لم أكن أنتظر المقابل، ولأنه حين تلطف بالإهداء جعل هديته غالية جدًا، بيد أنه قال كلامًا أخجلني، وأسعدني بأن ما صنعته له صار سببًا في أرزاق كثيرة جاءت إليه تسعى والحمدلله. وقد حملت القلم مبتهجًا به، وفي سفرة برية إلى الكويت، نزلت من السيارة بعد وقوفها أمام الفندق، ويبدو أن حزام الأمان قرر أن يسحب القلم معه ويلقيه صريعًا على الأرض، وربما أن القارئ العزيز قد عرف أني حين تفطنت وأسرعت للبحث عن قلمي الفاخر لم أجده!
الشيء الأكيد أن حكايات الأقلام ترد على أكثر أصحابها، فمما قاله لي زميل: إنه اشترى قلمًا جميلًا وفاحش الثمن من إحدى الأسواق العالمية، وحين عاد نصبه في جيب ثوبه، ثمّ شاء الله أن يذهب لأحد الأسواق الشعبية؛ فعلق القلم بطرف شماغ أحد الباعة وضاع، ويكمل الراوي تحسره متمنيًا لو أن صاحب الشماغ يعرف قيمة القلم على الأقل! وقرأت مرة نقلًا عن أستاذ فيزياء عراقي كبير أن بعض من تهجموا عليه ظلمًا حطموا قلمه الذي أهداه له “آينشتاين” أو سرقوه، وكان هذا الفعل الأرعن أشد وقعًا عليه من الضرب ومن سلب حريته؛ هذا إن صحت القصة.
وللأقلام حضور في سير الزعماء؛ فكم من زعيم أهدى قلمه لكاتب أو شاعر، وقد حفظت الصور الحية ممازحة الملك فهد -رحمه الله- لوزير البرق والبريد والهاتف د.علوي كيال بعد توقيع بعض الأوراق في وزارته، فأعجب القلم الملك فهد ووضعه في جيبه، وعندما جاء طفل إلى الملك عبدالله -رحمه الله- في ملعب الجوهرة بجدة، أهداه قلمه الثمين، وتعمّد الملك سلمان -حفظه الله- طلب قلم لتوقيع بعض الأوراق وفي حضرته تاجر كبير راحل الآن -رحمه الله-، فأخرج التاجر قلمه من جيبه، ونزع الغطاء منه، وأعطاه للملك كي يوقع الأوراق، فقال له: إنما فعلت ذلك لأشاهد منك هذه الحركة المشتهرة عنك فقط!
إن القلم يعظم بما يكتبه من حق وعلم وفضل، وبمن يستخدمه من أهل العلم والمروءة والنبل، وبطول عمر ثماره، وعظيم نفعها، وعميم خيرها، وأما الفخامة والأسماء اللامعة فشيء من البلوى التي يحمد الله من عوفي منها، والله يجعلنا وإياكم من حملة الأقلام بصدق ونفع واستعلاء بالحق ودحض للباطل، ويعيذنا من شهود الزور، ومن كتابته، ويجعل ما تخطه أقلامنا مما يثبت في الصحف والسجلات في قوائم الحسنات لا السيئات، والله يعفو ويغفر ويتقبل.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين تاسوعاء من عام 1446
15 من شهر يوليو عام 2024م
6 Comments
ومن طريف مواقفي مع الأقلام، أني سافرت قبل ربع قرن إلى بلد عربي لحضور معرض الكتاب الشهير في ذلكم البلد العزيز، وحين هممت بالعودة عبر المطار، مررت من عند جهاز الفحص، فاستوقفني ضابط بثلاث نجمات، وخطف القلم الفخم من جيبي، وشرع يقلبه بين يديه ويكاد أن يأكله بعينيه، وربما أنه انتظر كلمة إهداء مني فلم أفعل، وما أسوأ الإهداء بالإكراه. المهم قال لي: لا بد أن نفحص القلم عن الإرهاب! فقلت له: افحصه، ووقفت إلى جوار جهاز الفحص ليعلم إصراري على أخذ القلم، وحين يئس من ذهابي أعطاني القلم وانصرفت بنشوة النصر.
هذي قصة بالفعل ظريفة ، ضحكت بصوت عالي في المكتب الله يسعدك
أعجبني مقالك *** وخصوصا من وجهة نظر شخصيه أنك تلقيت عقاب إهداءك القلم الناشف الذي لا تحبه *** واحتفظت لنفسك بما تحب القلم السائل والرصاص والله يقول : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) هذه الأولى أما الثانية فكنت أفضل لك إستخدام كلمة ( بالغ ألثمن ) بدلا عن فاحش الثمن *** وخصوصا في مثل هذا المقال المميز **** أتابع مقالاتك لإعجابي بمضامينها *** ورقي أساليبها ولغتها *** بارك الله فيك وإلى الأمام واصل مسيرتك الراقيه متمنيا لك التوفيق والرقي يحفظكم الله ويحميكم من الشر والأشرار
رعاكم الله وحياكم دوما
الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه ، بارك الله فيك فيما يخطه قلمك من مقالات تاخذ القاريء إلى حداق غناء بأنواع الزهور ، ، ، حبك لااستخدام قلم الرصاص وقلم الحبر ، ان دلت على شيء انما تدل على صفات الإنسان العربي الأصيل ، ولقد احببت المقال كثيرا ، وفقك الله لما يحبه ويرضاه وان كنت أنا ايضا من جيل اكبر منك ولكن احب استخدام الأقلام الرصاصية يوميا اكتب بها وحفظ الله ابنتي الصغرى التي تزودني بها باستمرار ،
مقال جميل، ماتع ورائق..
بوركت أستاذنا الحبيب، وبوركت أقلامك؛ بمدادها المشوّق، المليء بالفوائد👌
شكرا لكم أستاذنا الكاتب العزيز، والرأي من مثلكم له قدره ومكانته.