الشيخ محمد بن عبدالله المهنا وتلك النفس الزكية!
في ليلة أنيسة، استضافتنا أسرة كريمة عريقة، وكان على رأس المستقبلين، وفي صدر المكان مع الجالسين، شيخ يناهز التسعين من العمر، لا تملك حين تراه إلّا أن تذكر الله، ثمّ تستحضر ما يقال عن نور الوجه عند العبّاد والمخبتين، فيا لله أي طلاقة محيا، وأي سكينة نفس، وأي انشراح قلب بدا على الجوارح حتى فاض وشعّ وكان مشاعًا متاحًا لمن اقترب منه أو رمقه بعين المحبة، أو جلس إليه وقريبًا منه، فكانت تلك الليلة البهية من سعادات الدنيا بمن حضر فيها وعلى رأسهم شيخنا الأجل الأكمل، وبما فيها من بشاشة وترحاب وأحاديث وقرى، حتى أن الشيخ صرّح غير مرة بأنه استعاد إبان هاتيك الأمسية شيئًا من الحيوية والشباب، وهذا القول -وهو حق منه لا مجاملة فحسب- من تمام الفضل والتحبب للزائر والضيف.
ذلكم هو الشيخ محمد بن عبدالله بن سليمان المهنا (1356-1445= 1937-2024م)، الذي ولد في بلدة آبائه الصيد الميامين في البرة الواقعة شمال غرب الرياض، والتابعة إداريًا لمدينة حريملاء، وبلدانيًا لإقليم المحمل. وقد ارتضع من تربيته الأسرية، ومن توارث العراقة فيها، ومن محتده الشمري الأصيل طيب المعشر، وكرم النفس، والهبة الصادقة للخدمة، والبشاشة بالضيف والضيفن، في جملة من الخصائص والخلال التي تعود على صاحبها قبل غيره بالحبور والكثير من الأجور، فضلًا عن الذكر الحسن ولسان الصدق في الباقين والقادمين إلى يوم الدين.
وقد كان من خبر شيخنا أنه مارس التجارة مبكرًا تحت كنف والده الذي تولى إمارة غير بلدة في عهد الملك عبدالعزيز -رحم الله الجميع-، ومن أسمى ما في مآثره العملية أنه رفع نداء الحق بالآذان لمدة ستين عامًا، واشتغل بالحسبة لأزيد من أربعين عامًا، فما أسعد من كانت أعماله لخير الخلق في دنياهم ومعادهم، وما أكثر بركة الأوقات التي يمضيها المرء وهو في عبادة إن تاجر أو أذن أو احتسب، وتلك منزلة ينالها من سأل المولى بصدق أن يجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، ولا يحرمها العبد الصالح الذي أراد الآخرة ولم ينس نصيبه من طيبات الحياة الدنيا.
ثمّ وفق الله شيخنا المبارك إلى البر الكبير المشهود بوالديه، والصلة الوثيقة العميقة بشقيقه الشيخ القاضي سليمان الذي ترأس المحكمة الكبرى بالعاصمة الكبرى الرياض، حتى أن الشيخ محمدًا أقام العزاء في منزله بعد وفاة أخيه الشيخ سليمان ورحيله عن الدنيا تعظيمًا لقدر الأخ ومنزلته. ومن جلائل أعمال شيخنا حرصه على أسرته العريقة، وحسن تربيته لأبنائه وبناته، حتى كانوا صالحين في أنفسهم، وبررة لمجتمعهم، ومصلحين فيما وهبهم الله من ذرية، يراها الناظر في أحفاد أبي سليمان وأسباطه، فيحمد المولى عليها، وهل أزكى من كمال التربية، وجمال الثمرة، ونجابة الذرية؟!
كذلك أفاء الله على الشيخ محمد فجعله عظيم النفع داخل أسرته الكبيرة، وعند جيرانه، حتى أنه يدعو المصلين في مسجده لمجلسه اليومي المفتوح، وإنّ فتح المجالس لصعب عسير إلّا على من ملك نفسه وأطرها؛ فغدت نفسًا رضية مقبلة سمحة، تستوعب وتحتوي، وتصفح ولا تقف عند كل شاردة وواردة، وتجيد تدبير أمورها وضبط أوقاتها ومواعيدها، وتسأل الرب الرحمن في كل آن وحين أن ينشر لها من رحمته ويهيئ لها من أمرها مرفقًا. ولا غرو أن يغدو حال الشيخ مع الضيوف والزوار كذلك وهو القائل: “إنني أكون أحيانًا مريضًا فإذا كثر الضيوف أطيب”، وإن كثرة المجالس، ومتانة الصلات بين الناس، لمن ركائز العراقة المجتمعية.
ولشيخنا مع التأله شأن وأيّ شأن، فالصلاة دائمًا في الصف الأول خلف محراب الإمام، ولا ريب إذ تعلّق قلبه بالمساجد، والمصحف الشريف لا يفارق يده الندية العطرة، ولا يكاد أن ينقطع عن صيام يومي الاثنين والخميس إلّا إن حجبه حاجب من عذر المرض والسفر، أو حبسه حابس من قيد شرعي في الأعياد وأيام التشريق، وهو صاحب قيام ليل وخلوة بالعزيز الحكيم. ومن عمله الصالح المتقبل -بإذن الله- سعيه لأن تستفيد جماعة مسجده من طلبة العلم بإلقاء الكلمات بعد استضافتهم في دارته العامرة، ومن ملامح عون الله له مشاركاته في المناسبات الاجتماعية دون أن يحول بينه وبينها مشقة العمر وأحوال الصحة؛ إذ يتقوى عليها بالهمة والصبر، ومنه سؤاله المتكرر عمن يعرف وعن أحوالهم، وسعيه في قضاء الحاجات قدر استطاعته، ونجدة الملهوفين، وهي عبادات تفوق ثواب الاعتكاف في المسجد شهرًا.
لقد شاء الله أن يقبض إليه عبده كما وصلني صباح اليوم عبر رسالة واتساب حزينة، وصلي عليه في مسجدهم بحي القيروان عصر اليوم الأحد، وهذا من الحكمة ليشارك الجيران في الصلاة عليه رفقًا بهم، ويتأكد منهم العفو والصفح حتى لو كان الراحل بسماحة شيخنا الذي اختار المسجد ووقت الصلاة عليه، وأوصى بهما رحمة بالمصلين وتيسيرًا عليهم. وقد وددت المشاركة في الصلاة والتشييع، لولا بقية من آثار إجهاد حراري تلازمني، ولذا كان أقل الواجب بعد الدعاء له بالرحمة والغفران، والثبات عند السؤال، والأمن في البرزخ، وأخذ الكتاب باليمين يوم المبعث، وعالي الجنان بعد ذهاب الثقلين لمنازلهم الخالدة، أن أكتب هذه الكلمات حتى يدعو له من يبلغه الخبر، وليعظم أجره عندما تقتدي الأجيال بمحاسنه التي لا تخفى.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 17 من شهرِ ذي الحجة عام 1445
23 من شهر يونيو عام 2024م
2 Comments
رحمه الله رحمةً واسعة
ما أطيب قلبه صاحب بشاشةٍ لا تنقطع
وترحيب وتهليل لمن يواجهه
كاتبنا العزيز؛ إذا قلت لم تترك مقالًا لقائل، وإن صُلْت بكتاباتك عن شيخ جليل او رمز او علم فإنك تجيد الحديث الخالص عنه بذكر مآثره وفاء له. ” حتى يدعو له من يبلغه الخبر، وليعظم أجره عندما تقتدي الأجيال بمحاسنه التي لا تخفى”؛ غفر الله لشيخنا الجليل من تلك الأسرة العريقة المنجبة للكرام الأفاضل أخلاقهم أعذب وكالمسك تُرْبُ مقاماتهم وتربُ أصولهم أطيبُ، وتلك أقدار الله تردُ في أوقاتها، وسهام حزن في القلب تجري بنا إلى غاياتها، ولا يمكن لنا أن نرد قدرًا عن مداه، ولا يرجع لنا عزيزًا بالبكاء والاعتراض، لكن علينا أن نساير المحنة بالصبر، وان قضاء الله في عبده نفذ، غفر الله له ورحمه وصبّر أهله وذويه ومحبيه..