سير وأعلام عرض كتاب قراءة وكتابة

جمال ومحامد في الواردات والسوانح!

الواردات والسوانح كتاب من جزءين يصلح رفيق سفر، وأنيس سمر، بمثله تجتمع المباهج مع الفوائد، ويعرف أهل العصر فضائل الكرام في كل مصر وعصر. وقد اجتمعت فيه الشام مع الجزيرة العربية، بفضل الله، ثم بتوفيقه للشيخين المحمد العجمي، والجمال القاسمي، رحم الله الميت، وحفظ الحي، وتقبله منهما أحسن قبول، ولعل هذا التوافق بينهما مئنة على صدق النية وعظم الحظ من العلم والتوفيق. ولأن شأن الكتاب كذلك اقترحت على شاب تيسر له الحج هذا العام مع أحد ذوي الفضل أن يجعله هدية لصاحب الفضل يوم الحج الأكبر؛ ليكون من أفراح العيد ومسرات أيام التشريق.

العنوان الكامل لهذا الكتاب هو: الواردات والسوانح العلمية لعلامة الشام جمال الدين القاسمي ويليها من مذكراته اليومية للسنوات 1321، 1324- 1327، جمع وتحقيق محمد بن ناصر العجمي، وصدرت طبعته الأولى عن دار البشائر الإسلامية عام (1445=2023م)، ويقع في جزئين فيهما (1360) صفحة، استغرقت مقدمة التحقيق والدراسة منها (240) صفحة، وبعد ذلك جاءت المذكرات مرتبة حسب السنوات، وفي آخر الجزء الثاني مقالات للإمام جمال القاسمي لها صلة بهذه السوانح العلمية والمذكرات اليومية، ثم ثمانية فهارس.

يأتي عقب الفهارس مسرد لآثار المحقق الشيخ محمد العجمي التي يبلغ عددها (89) كتابًا، وبعدها الأجزاء المقروءة في جوامع دمشق ودور الحديث فيها وعددها (16) جزءًا، وإن الارتباط العلمي والأدبي الصرف الخالص من أي أغراض أخرى مع الشام ودمشق بخاصة لملمح جلي في أعمال المحقق الذي زار دمشق مئة مرة تقريبًا، وتتضح هذه العلائق بالصلة بين المحقق وآل القاسمي، هذا غير خبرته بالكتب والمخطوطات والمكتبات؛ ولا غرو إذ عدّد جمعًا ممن كتب يومياته من علماء دمشق وأدبائها؛ وفي هذا الحصر المختصر دلالة على أن “المذكرات واليوميات” ليست حقولًا غريبة عن ثقافتنا ومكتبتنا.

‏ومن فضل الله أن جاءت طباعة هذا الكتاب أنيقة فاخرة في غلافها، وورقها، وخطوطها، وخيوط التوقف الفاصلة فيها، وقد أسهم بتكلفتها بعض الأكارم من المملكة كتب الله أجورهم. أما المحقق الشيخ محمد العجمي فقد تسامى في عمله حتى لو قال قائل إن قلم الجمال القاسمي قد وقع بين يدي المحمد العجمي لما عُدّ مغربًا ولا مبالغًا، ولذا أصاب الكاتب الأستاذ سليمان بن أحمد التركي حينما عبر عن هذه الحقيقة بقوله: “كتبها الشيخ أبو ناصر محب دمشق وعاشق الشام بأسلوب بديع وبقلم متمكن متفنن حتى نافس المحققُ المؤلف في جمال البيان وقوة السبك وجودة المعنى وبلاغة التركيب، ناهيك عن الخدمة الجليلة لكلام الشيخ القاسمي -رحمه الله- بالتعليقات المفيدة المجودة. ولا شك أن لهذا الكتاب حظوة خاصة عند المحقق الجليل بل ربما كان أرضى كتبه عنده لما بذله فيه من جهد كبير لا يخفى على القارئ، بارك الله في جهوده ووفقه للمزيد”.

لذلك سيقف القارئ بواسطة هذين المجلدين على علوم شرعية، ولغوية، وتاريخية، وأحوال بلاد، وأخبار أعلام، وقصص بلاء ومحن تحيط بالفضلاء من الثقلاء المتربصين في كل زمن ومحلة. كما يظهر فيهما آثار الصحبة وجمالها، وبركات الخلوة وجمالها، وعظمة الجدية وجمالها، وكل ذلك استبان في مقدمة التحقيق الذي كتبه الشيخ العجمي عن الشيخ الجمال القاسمي (1283-1332) الذي توفي وهو دون الخمسين من العمر، بعد أن ألّف ضعف هذا الرقم من الكتب المحررة البديعة في فنون عديدة أجلّها تفسيره محاسن التأويل، ثمّ ما كتبه في علوم الحديث فالتاريخ والأدب.

وفي الكتاب انتصار للسنة على البدعة، وبيان مستطاب سامي، وشواهد عذبة مبينة، وكل الصيد في جوف الفرا، فلكأن القارئ يتنقل بين دمشق وبلدان الشام أو في دواخلها، متنعمًا بالهواء العليل، والماء الفوار، والخضرة الحسنة، والنضارة الوقورة، والجمال المحروس بسياج الدين والفضيلة. وفي الكتاب أيضًا طرف من التزاور بين ذوي المنازل العالية من العلماء والأعيان، والمشاركات العلمية بالإصلاح والبيان قدر المستطاع، وفيه شواهد من خبر القراءة والبحث والكتابة، ودلائل على آثار التخصص الظاهر بعناية الشيخ العجمي بدمشق وأعيانها، حتى أخرج كثيرًا من كنوزهم مجلوة يلوح منها البهاء والرواء للناظرين بغض النظر عما يعتمل في القلوب من جنة الرضا أو نار الحسد.

كذلك يحتوي الكتاب على كلمات مختصرة جامعة، ومنقولات فريدة نافعة، وأبيات من الشعر رائقة، وجميعها زاد شهي للكاتب والخطيب في الاستشهاد؛ إذ نعتها العجمي بقوله: “وقد وقع في أثناء هذه “المذكرات” كلمات مغموسة برحيق الحكمة، عليها بهاء العلم والحلم؛ فصيحة الفاظها، كأنها نجوم الثريا في دجنة الليل”. ولن تعبر بالقارئ العالم المثقف بله الشادي والناشيء صفحة دون فائدة واحدة على الأقل، وهي فوائد مبثوثة في الكتاب، مستعلنة غير خافية، سافرة للقراء بلا عناء ولا تناء، وجميعها من محامد الجمال القاسمي، أو من جمال المحمد العجمي، وتلك نعمة من الله ومنّة وفضل على عبديه أن سخرهما لبعض دون لقيا، ثمّ أشاع علومهما في المكتبة العربية والإسلامية التي تأنس بأي سفر يفيدها ولا يعتدي عليها أو على أصول حضارتها ومكونات ثقافتها.

ولأنها مذكرات فسوف تلوح منها معالم الحب للوطن، والولاء له، ولهذا حفظ الشيخ الجمال تاريخ دمشق، وأنباء الواردين عليها، وسيرة جامعها الأموي وحركة العلم والثقافة فيها. وسيرى الناظر أعمالًا جليلة من البر بالأب والإخوة والأولاد والعائلة خاصة النساء وما في صلتهن من فضيلة وروح وسعادة. وسوف يتضح للقارئ شبكة علاقات الجمال بالعلماء والأعيان من نجد والعقيلات والعراق ومصر والمغرب، ويتابع الزيارات والرسائل المتبادلة بينهم، ويشاهد مباشرة الجمال خدمة ضيوفه بنفسه، وعنايته برثاء الصحب الذين وصف رحيلهم بأنه “انتقاص بلا عوض، وانثلام بلا خلف، يذهب الأخيار ولا نرى من يسلينا عنهم…”.

ومما في الكتاب تلك المودة الراسخة بين الجمال والكتب، فهو يتابع أخبارها، ويشتري الجديد منها، ولا يكتفي بذلك بل يجلد كتبه إكرامًا لها، حتى اجتمعت لديه مكتبة حافلة تعرضت للتفتيش ظلمًا وبهتانًا. ومن علائم المودة رابطته المبكرة مع الكتاب والقراءة، وحرصه على كتابة التعليقات، وتدوين الفوائد في دفاتر ومفكرات، وديمومة مباحثة العلماء ومجالسة الأدباء، والاشتغال بالتصنيف والخطابة والكتابة ونشر آثار السابقين، وقد قيّض الله له من يعتني بكتبه إبان حياته بتقريظ الشيخ محمد رشيد رضا لأي كتاب منها، وبعد وفاته بجهود أصحابه وآله ومحبي تراثه. وقد كان من وصايا الجمال الحرص على النظر في المجلات الجادة، وهذه لفتة تغيب عن بعض الباحثين والمثقفين، فكم في بعضها من كنوز وعلوم.

وفي الكتاب موضوعات نادرة أو كان التطرق لها مبكرًا، مثل بعض الأحكام والآداب في الرياضة والسباحة، أو ركوب القطار، أو خواطر وأفكار عن إصلاح القضاء، وواجبات النائب في المجالس. ولا تخلو من مسائل طبية مثل البواسير، وذكر متكرر للشاي وأدواته والقهوة التي أعجب الجمال بها في مجالس عقيل. وفي كتابنا فوائد تربوية مع العائلة والأولاد، وشيء من معالم الذوق والأدب في الأكل والشرب واللباس والزيارة، وبعض أحوال الجو، وما وقع في النفس من حب لبعض البلاد عقب زيارتها مثل مصر، ومن أجلّ منح الكتاب ما يكتشفه القارئ من الحرص على الوقت واستثماره على كل حال، والضن به عن الضياع والتفريط، واتخاذ أماكن للخلوة والإنجاز، وهذا لعمركم درس عملي بمثله يكتفى لمقاومة الانغماس فيما لا يحسن بأولي النهى النظر إليه ولو ببعض طرف.

إن هذه العلاقة العلمية والروحية بين الرجلين العالمين بما فيها من كمال وجمال، ومحامد ومغانم، لجديرة بأن تبرز؛ لأنها تأكيد على رحم العلم، وروابط الصلة بين السابق واللاحق، ولو سخر الله لكل عالم وأديب من يقوم بتراثه كما صنع الشيخ المحمد العجمي مع آثار الشيخ الجمال القاسمي لما فات علينا شيء من الكنوز والمآثر والمفاخر؛ ففي هذا العمل الطويل المجهد علوم ومعارف، وأخلاق ومسالك، وعطر وريحان، ونبل ووفاء، وشوارد وأوابد، وجمال حسي يرفده جمال معنوي، والحمدلله أن جعل فينا مثل أولئك الكرام في الأوائل والأواخر.

لقد وصلني هذا الكتاب بعد منتصف ليلة الخميس الماضي، وصاحبني في أكثر من مستشفى، وسلوت به عن آلام مبرحة تصنف بأنها من أشد ما يصيب الإنسان من الآم بعد مخاض الولادة الذي تقاسيه الأمهات كتب الله أجورهن، ومن بركاته أن كان أثره لي قبل الجراحة وبعدها مثل المسكن الذي يحبط الألم، ولولا هذا العارض، مع توافق الوقت مع أيام الامتحانات؛ لبسطت القول عن شيء من منتخبات هذه السوانح والمذكرات، بيد أن خيرة الله غالبة، ولعل القارئ الكريم أن يسابق إلى الاقتناء وجني هاتيك الدرر الغرر، وملامسة تلك السوامق البواسق، من الجمال والمحامد التي يسرها المولى فغدت دانية نفوز بحلاوتها، دون المشاركة بما صاحب الكتابة والتحقيق من مرارات الصدود، وعناء التمنع عن التعاون.

ahmalassaf@

الرياض- الاثنين 19 من شهرِ ذي القعدة عام 1445

27 من شهر مايو عام 2024م

Please follow and like us:

5 Comments

  1. ألإبن الأديب / أحمد عبدالمحسن ألعساف *** دمت بفضل الله مبدعا وموفقا مقالتك ألمبدعه بلسما أغناني وأفادني بموضوعه وكأنني قد قرأت تلك ألدرر من الجمال والمحامد بفضل إعدادك وصنعك وتقديمك للقراء ( كمن قام بإعداد وصنع وتقديم وليمة فخمة لضيوف أبهرهم جمالها ورا~حتها وإعدادها قبل الشروع في تناولها ) جزاك الله خيرا لقد أجدت وأحسنت أحسن ألله إليك وغفر لنا ولك ولوالدينا ووالديك *** إلى الأمام والأفضل والأجمل

  2. الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه ، قيل ما كتب قر وما حفظ فر ، وانت تكتب من مقالات مفيدة وهادفة ، وممتعه لقراءك تسر نفوسهم ،وتفيدهم في أمور دنياهم وآخرتهم ، ادام الله العلي القدير عليك دوام الصحة والعافية ، واطال في عمرك ، وجعل ماتكتب من فواءد في ميزان حسناتكم وحسنات والديكم

  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الاستاذ الفاضل
    بارك الله فيكم على هذا التأثير العميق في النفوس …. وهذا من ثمرات الصدق والصفاء .

    أكرمكم الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)