قراءة وكتابة

تفسير العنوان!

تفسير العنوان!

عنوان العمل الكتابي واحد من أجزائه المهمة جدًا، وهو جاذب أساسي للقارئ، وصارف له كذلك، وخير العناوين ما أتى بزبائن إلى حياض الثقافة، والعنوان الذي هذا وصفه يغلب عليه القصر، والدلالة على المضمون مباشرة أو من طرف خفي، ويكون فيه شيء من الجاذبية، أو الاقتباس، أو يأتي بصيغة سؤال، أو على هيئة رقم، أويستند لعبارة مثيرة، ويتحاشى الكاتب الحصيف الموقر لنفسه وقرائه أيّ غشٍّ أو خديعة في العنوان، ومن وفق لقراءة فتح الباري فسوف يدركه الذهول من براعة الإمام البخاري في عنونة أجزاء كتابه الصحيح المسند، ومن إدراك الإمام ابن حجر وغيره من الشراح لها، وهذا من بركات العيش مع الكتاب والسنّة، وكفى بهما.

ومما يغفل عنه بعض المدربين على الكتابة، أو من يسطرون حول هذا الباب اللذيذ من فنون العلم، الإشارة إلى أن من جماليات الكتابة الابتداء بالعنوان، أو الانتهاء به، أو تضمينه داخل النص، دون اعتساف، وبسياق سلس. وهذا الصنيع يربط بين العمل وعنوانه، وهو مفيد تقنيًا لأنه يسهل العثور على المادة بمجرد البحث الشبكي باستخدام كلمات العنوان أو بعضها، ومع ذلك فيجب ألّا يغدو هذا الإجراء قيدًا؛ إذ يسوغ إغفال نص العنوان داخل المضمون ما دام أن رباطه بالمحتوى جلي غير مستبعد، وليس أمرًا ذا بال توقيت كتابة العنوان؛ إذ يكتب في البداية أو النهاية، وربما في الوسط، والأكيد أن تغييره متاح في أي لحظة.

أقول ذلك تفاعلًا مع سائل عزيز محب، وخلاصة سؤاله عن سبب اختيار عنوان المقال الذي كتبته بعد رحيل الأمير بدر بن عبدالمحسن -رحمه الله-، وجاء السؤال اللطيف الشفيق بعد أن أثنى السائل على ما كتبته، وما فيه من مبادئ وفوائد. فقلت له: هذا العنوان رفيع شأنه للغاية، ففيه الابتداء باسم الأمير، ثمّ وصف لشاعرية الراحل نقلًا عن الأمير الشاعر خالد الفيصل وهو حجة في الشعر الشعبي، وخاتمته عنوان قصيدة  أعجب بها الملك سلمان -حفظه الله-، وحثّ البدر على تكرار إلقائها، ولاشك أن القصيدة التي تعجب كلماتها ومعانيها المقام السامي بما عرف عنه من بصيرة وثقافة لقصيدة متميزة للغاية.

ثمّ قادني السؤال هنا للكتابة عن العنوان واختياره، وبعض القصص حوله، فمن ذلك أن العنوان حين يبرق في الذهن يصبح أحد دوافع الكتابة القوية جدًا التي لا يستطيع حامل القلم لها دفعًا، ومن جرّب عرف. ومن تجاربي في صناعة العنوان الإشارة إلى كشاجم، والسرير الأثيم، والثقة برأي البطن، ومطاردة الكتب، والإشارة غير مرة لإبليس أعاذنا الله وإياكم منه. ومنها الاستناد إلى جوخ نجفي، وقفا نبكي بسبب هنا لندن، والسلام على أمي، والاتكاء على المواسم مع إضافة كلمة لافتة لها. وفيما سبق تحدثت عن معاجم باكية، وسارقة قلم، وخيانة الرخاء، وعن العيون المغربية، وغيرها كثير كثير، والوصول لها ولغيرها يسير بالبحث داخل المدونة، وفي تراث أي كتاب أو شاعر نماذج غيرها يحتج بها.

وأذكر أن أحد القراء أثنى على طريقة انتقاء بعض العناوين، وقال لي غير إنسان متابع: إنها عناوين راقصة! ولا يعني هذا أني حزت التوفيق كل مرة، ففي بعض المرات تكون العناوين عادية بل عادية جدًا، وربما تعرض العنوان لانتقاد من قارئ أو ذي شأن، وأتذكر أني كتبت عن شخصية راحلة مؤثرة، فاعترض بعض أولاده على كلمة في العنوان، ولذلك اقترحت عليهم تطييبًا لخواطرهم عدة كلمات بديلة؛ لكنهم قالوا: أنت الأبصر بالأنسب، فهممت أن أغيّر العنوان لولا أن عارفًا بهم وبي أخبرني أن العنوان أطربهم جدًا، وأن معارضتهم أشبه بالتعويذة أمام سروات القوم فقط لا أقل ولا أكثر!

كذلك طلب مني أحد القراء تغيير كلمة واحدة في عنوان مقال كتبته، والكلمة هي “فن” والسبب أنها ابتذلت كثيرًا مع إيمانه برقي الكلمة معنى ورشاقتها مبنى، وقد فعلت إكرامًا له، كما عدلت بعض العناوين تماشيًا مع مقترحات بعض أصحابنا الأعزاء ذوي الفضل عليّ في الشأن الكتابي، وهم شركاء في بعض الأعمال بما أفادوا ونقلوا، ولهم حق الشفعة، ولي معهم حكايات حول بعض ما كتبته عن استعراض الكتب، وربما حدثت جفوة بيننا أزالها الرز البرياني المحبب جدًا عند صاحبنا المفيد.

ومما حدث معي أن أستاذًا جامعيًا قال لي: أنت تكتب كثيرًا عن الكتب، لكنك تجعل عنوان المقال مغايرًا لعنوان الكتاب خلافًا للمنهج الأكاديمي المتبع! فأجبته بأني مع تقديري لرأيه إلّا أني لا أكتب لأغراض أكاديمية، وربما يكون عنوان الكتاب طويلًا أو مملًا ولا داعي لتقييد نفسي به، علمًا أني أضع عنواني في بعض الأحيان مماثلًا لعنوان الكتاب، أو جزءًا منه، وهذا فيه فائدة أثناء البحث الشبكي بسرعة الوصول للمقال.

وقلت لمحدثي العزيز أخيرًا: إن ملاحظات الأكاديميين على أعمال غيرهم، وحديثهم عن المنهج ليست عين الصواب دائمًا، ولا حتى شعرة رمش منه، فما أكثر ما ينتقدون أشياء يقعون في أضعافها إذا شرعوا في عمل من جنس ما أوردوا عليه الملاحظات، وأحلته لما كتبه علماء كبار عن هذه المسألة مثل شيخ العربية محمود محمد شاكر، وربما أنه امتعض من رأيي، ومن إحالتي.

لكن للإنصاف ففي رأيه صواب بيد أنه ليس مع كل كتاب، وهذا الرأي أيضًا يساق عندما يكون العمل الكتابي عن سيرة إنسان أو كيان أو مكان، فالأفضل، والأكثر جاذبية، والأيسر في البحث، أن يذكر اسم صاحب السيرة في العنوان إذا وجد الكاتب لذلك سبيلًا، وإذا لم يجد ففي كلمات العربية الكثيرة مندوحة وسعة؛ لأن بعض الأسماء طويلة جدًا، أو تستوجب بعض الألقاب التي تثقل العنوان، والعنوان الأكمل هو المائل إلى القصر، والعنوان الأرشق هو الذي يحفظ ويلتصق بالذهن فلا ينسى.

كذلك مما يرد على اختيار العنوان مسألة التشابه مع عناوين سابقة، ومن عادتي ألّا ألتفت لذلك، ولا أبحث أصلًا عن وجود عنوان مماثل لما اخترته من عدمه، ولهذه الطريقة حسنة تحفظ الوقت، وتقلل الحيرة، وتؤكد الاستقلالية، وربما كان التوافق دليل تزكية للعنوان، مع أنه عند بعض من يفرحون بسوء الظن يضحي سبب إدانة إذا وافق عنوانًا لشخص لا يحبذونه، والأمر فيه النهاية يعود لتفضيلات صاحب العمل، علمًا أن سوء الظن أو اعتساف التفاسير يطال العنوان كثيرًا، مثلما يحدث مع المضمون، وسياق الزمن والحال والمكان، فوارحمتاه للكتّاب والشعراء والصحفيين ممن يبعدون النجعة، ويسيرون مثل أصحاب التيه دون وجهة صائبة في مهامه تفسير العنوان!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 29  من شهرِ شوال عام 1445

08 من شهر مايو عام 2024م

Please follow and like us:

5 Comments

  1. مقال جميل ويعد هوالأهم على المهم *** لقد قيل : ( يقرأ الكتاب من عنوانه ) فهو حقيقة خلاصة إبتداء وانتهاء وما بينهما

  2. مقالة جميلة والتقاطة بديعة حول موضوع مهم؛ بل هو لبّ الحكاية، جوهر المقالة ونهاية القصة بعنوانها، والعنوان دلالة الابتداء وخاتمة الانتهاء وقوة الوصف بحسن انتقاء عنوان مناسب لما يُصف به، ” لا يمكن للقلم أن يكون أقوى من السيف إلّا إذا كان (عقل الكاتب )يعرف جيّدًا كيف يستخدم كل كلمة بمهارة شديدة..من ضمنها عنوان مقالته!
    [توني بوزان – قوّة الذكاء الكلامي]

    هذا بخصوص العنوان البديع؛ أما بخصوص كاتبنا وأستاذنا المتميز ا/أحمد الذي أناخ مطايا الكلمات بعذوبة حرفه، وكتاباته التي تأخذنا إلى حيث الجمال أقول كما قال أحدهم” أنا ممتنٌّ جداً لكل كاتب بليغ متأنِّق حبَّبَ إليَّ الكتابة، لكل كاتب جعلني أقترب منه حتى أُصابَ بعدوى الكتابة.. هذا الداء المُضني اللذيذ!”
    شكرًا جزيلا لحرفك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)