محمد بن أحمد الصالح مع الشريعة والحياة!
حين شاء الله أن يسلب البصر من وليد ليلة المنتصف من شهر شعبان عام (1361) التي تصادف أواخر شهر أغسطس عام (1942م)، وهبه الرحمن الكريم القدير من البصائر والمناقب ما يتفوق به على عدد من أولي الأيدِ والأبصار، فالحمدلله الذي وهب بعدما أخذ، وجبر الكسر، وعوض عن المفقود بما هو خير؛ حتى غدا الشيخ علمًا في مجتمعه، ومقدمًا في أسرته العريقة حسبما لاحظت في مجلتهم الدورية، وبمثابة الأخ الوالد لأشقائه وإخوانه مثلما أخبرني أخوه المبارك فهد، والله يكتب لشيخنا الشفاء والأنس في المحيا، ويدخله الجنان العالية حين يلقاه.
يمتاز الشيخ أ.د.محمد بن أحمد الصالح بالنفس الفقهي اللافت، والعمق في الفهم والتحليل، والقدرة على الحوار والإقناع؛ ولذا أصبح السعودي الأول في عضوية مجمع البحوث الإسلامية التابع لجامعة الأزهر. ومع تمسك الشيخ بأصوله العقدية والفقهية، إلأ أن له من الاجتهاد وسعة النظر ما يجعله متقدمًا على بعض فقهاء عصره وأبناء جيله، وهذا الملمح بيّن من كتبه وأبحاثه التي لم ينقطع الشيخ عن إعدادها، وإلقاء بعضها، ونشرها في كتب تطول أو تقصر، وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت خلف مرادها الأجسام.
وللشيخ ذائقة لغوية وأدبية تبدو سافرة للعيان في أحاديثه المستطابة، ومؤلفاته الغزيرة، وهذه خصيصة يرتقي بها المرء، وهي عند ذوي الهيئات من العلماء والوجهاء أزين وأوقع. ومع هذا الذوق الأدبي استطاع الشيخ أن يكون حلو الأحدوثة، جميل الطرفة، ولا ريب أن يكون الشيخ فقيها وأديبًا، فقد سمع في طفولته من كلمات التحفيز ما جعله كذلك؛ فهو المرشح لخلافة الشيخ العنقري الفقيه في المجمعة، ومثيلًا للأديب طه حسين في مصر. وقد أعانه على تحصيل العلم وضبطه، ووعي الأدب ونشره، حافظة قوية على مثلها يغبط، وعلى مثلها الرب يشكر ويحمد، إضافة لجديته، وحرصه على الصحبة المفيدة المتنوعة، وموافاته لمعرض الكتاب بالقاهرة، ليشتري منه الكتب، ويجلدها، ويضيفها لمكتبته العامرة، وتصبح من موارده العلمية التي يستمد منها.
كما أن شيخنا طاهر القلب نقي السريرة تجاه الناس حتى مع بعض من جرى بينه وبينهم خلاف، ومن دلائل ذلك أنه يدع للصلح موضعًا، ويتذكر صحبه ناسيًا ماكان من اختلاف في وجهات النظر، ولا يبخل بشفاعة أو عون قدر وسعه. ومنها أنه حينما يذكر الآخرين يسهب في سرد فضائلهم ومآثرهم، وكم من مرة ومرة اتصل بي، أو راسلني بواسطة نجله البار المحامي عبدالله، للثناء على ما كتبته عن آخرين، ويفيض بكلمات الشكر والتبجيل حتى لكأنه هو المكتوب عنه، وتلك لعمركم خلة غير عامة، ولا ينبئك مثل خبير، فقد وجدت من بعض الناس غصصًا في حلوقهم عندما يشاد بغيرهم!
بل تجاوز الشيخ الموفق هذا الإحسان إلى أمور أخرى، فقد تطوع من تلقاء نفسه لإفادتي بمعلومات ثمينة عن شخصيات كتبت أو نويت الكتابة والتدوين عنها، وكرمه هذا منسجم مع كرم نفسه ويده وسفرته، ويعظم صنيع الشيخ في النفس والعين إذا عرفنا أن في الناس من يضنُّ بالخبر والمعلومة، ويتأبى حين طلبها منه، ويقف حارسًا على منافذها وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه! وأزيدكم خبرًا؛ فللشيخ شفاعات واقتراحات تخص غيره من الناس وطلبة العلم والحفاظ، وأضيف أنه هاتفني ذات مساء يسأل عن مكان مقبرة الشيخ ناصر المنقور في لندن، ورقم القبر، حتى يزوره مسلمًا داعيًا في سفرة لندنية له، والوفاء للراحلين وفاء أصيل برئ من الأغراض.
هذه الرحلة اللندنية اعتاد الشيخ عليها في مصيفه، وله مع السفر الداخلي والخارجي حكاية لم يحل بينه وبينها فقدان البصر، فعزم على إسعاد نفسه وأسرته في البقاع المقدسة، وداخل المملكة، وخارجها، ويعرف مسالك بعض المدن والطرق أحسن من ذوي العيون. ومن عنايته حرصه على الالتقاء بالسعوديين، والمسلمين في بلاد الغربة، وهم يأنسون بمقدمه، إذ بمجيئه يأتي العلم والأدب والسماحة، ويقتبسون من علمه وفتاويه التي تراعي الحال والمكان والزمان، ولا يخلو بيت الأسد من عظام؛ لذا لا يغادر الشيخ أولئك القوم دون فوائد وفرائد وبركات.
كذلك فإن الشيخ أستاذ كبير في حسن التربية وفي التشجيع والمؤازرة، وحين يحضر المرء مجلسه الذي يرتاده أناس من مشارب مختلفة، يلاحظ أنه مع ضيافته الآسرة، يذكر كل واحد من جلاسه بما فيه من محاسن، فسمعته مرة يعلن انجذابه لتلاوة قارئ حافظ موجود معنا، ويصرح متمنيًا أن يصبح إمامًا في الحرمين، ومرة أشاد بخطيب وخطبته عن عمر بن الخطاب، وثالثة يمدح فيها أساتذته وزملاءه بما يستأهلونه من حسنات سواء أحضروا هم أم أنجالهم، ولم يتركني من فيوض نبله؛ إذ أغرقني بحسن ظنه، ورائع وصفه، ورفيع إعجابه.
فالحمدلله الذي لم يجعل من العوائق سببًا في صدود الشيخ الفقيه الأديب أ.د.محمد الصالح عن مجتمعه، ويسر له بناء شبكة واسعة من العلاقات فيها أمراء وعلماء وكتّاب ووزراء ووجهاء وأثرياء ودبلوماسيون وأساتذة وأطباء وغيرهم من شتى الطبقات والفئات، الذين يغشون مجالسه بحبور وفرح، أو يأنسون بزيارته ومشاركته لهم. والحمدلله أن صيّر الشيخ حجة للمدرسة الشرعية في بلاده، وملاذًا للدارسين والباحثين، حتى أحبه طلابه واختزنوا ذكرياتهم معه إن في قاعة الدرس أو في ساحات البحث، والحمدلله أن جعله فقيها في الشريعة، وأستاذًا في الأدب، وخبيرًا بالحياة، محبًا للوطن ورموزه، والله يسبغ عليه من ألطافه ومعونته بما يبهجه ويسره على كل حال.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 28 من شهرِ شوال عام 1445
07 من شهر مايو عام 2024م
2 Comments
أحسنتم وسلمكم الله وفتح عليكم وأثابكم؛ والشيخ يستاهل ماكتب فيه، والسمة البارزة في الشيخ حفظه الله هي الوفاء، ومواقفه وأياديه البيضاء كثيرة وجليلة تشهد على ذلك، أتم الله عليه العافية وحفظه
الله يمتعه بالصحة والعافية
وسلمت أناملك ❤️