سير وأعلام عرض كتاب

السديس والفالح في رثاء مختلف!

السديس والفالح في رثاء مختلف!

          قرأت صبيحة اليوم كتابًا مختصرًا عنوانه: الطيب المضمخ الفائح في رثاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الفالح رحمه الله، وهو من إعداد معالي الشيخ الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، وإمام وخطيب المسجد الحرام. يقع الكتاب في (38) صفحة كتبها الشيخ في العشرين من شهر شعبان المنصرم، ونشرها حساب رئاسة الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي على منصة إكس يوم أمس، ويبدو أن الشيخ الكاتب أراد مراجعتها بعد فراغ موسم رمضان الذي يحتشد له الشيخ مع العاملين فيما يخصّ شؤون المسجدين الأقدسين الدينية والإدارية، وهنيئًا لهم العمل في رئاسة من واجهات بلادنا.

          امتاز الكتاب على إيجازه بعدة مزايا، منها أنه رثاء من شيخ لشيخه، وفي الوقت ذاته تأبين من زميل لزميله، ومن رئيس لمرؤوسه. وفي هذه المرثية النثرية دليل -بإذن الله- على تصافي النفوس وسموها، وشهادة بالحق والفضل لمن يستحقهما، إضافة إلى أنها تنفي عن المرء دعاوى التفرد بالإنجاز، وتنسب المحاسن لأصحابها، وتعترف بالمناقب التي لا يضر العاقل اتصاف غيره بها، وتتعالى على المناطقية والفئوية. وفي النص مفردات لغوية فصيحة معتادة من الشيخ الكاتب الخطيب، ومرويات جميلة، وحصر لما كتب عن الشيخ الراحل عبدالعزيز الفالح (1360-1445) شعرًا ونثرًا، والله يجعل الجميع في مستقر رحمته إخوانًا على سرر متقابلين.

          ابتدأ الشيخ السديس بالإشارة إلى الحزن على رحيل الشيخ الفالح، وتحدث عن نسبه ونشأته الطيبة في بلدته الزلفي، وحفظه للقرآن الكريم منذ صغره، وتلقيه للعلم على بعض المشايخ وفي عدة معاهد وكليات، ثمّ ابتعاده عن القضاء والانشغال بالتدريس. ولبراعته اصطفاه معالي الشيخ أ.د.عبدالله التركي ليصبح عميدًا لكلية اللغة العربية التي استقطب لها الفالح علماء لغة كبار مثل الدكتور عضيمة الحائز على جائزة الملك فيصل في الدراسات الإسلامية. وبسبب تميزه بالضبط الإداري والعلمي والمسلكي واللغوي خاصة في باب الصياغة عرض عليه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز العمل أمينًا عامًا لهيئة كبار العلماء، وهو ماكان.

          ثمّ بعد تزكية من سماحة الشيخ سليمان بن عبيد -رئيس شؤون المسجدين حينها- جعله الملك فهد نائبًا للرئيس العام لشؤون المسجد النبوي، فقضى فيها خمسة وثلاثين عامًا، وجزم الشيخ السديس بأن المسجد النبوي لم يمر عليه في عصوره الحديثة مثل الشيخ ابن صالح في الإمامة، والشيخ الفالح في الإدارة، ولا ينبئك مثل خبير، فالشيخ أ.د.عبدالرحمن السديس من قدماء أئمة الحرمين، وقد مضى عليه أزيد من أربعين عامًا في الإمامة والخطابة، أمتع الله به ووفقه، وهذا التفضيل لا ينفي الخيرية والمزية عن غيرهما.

          فمن منجزات الشيخ الفالح إبان نيابته على شؤون المسجد النبوي سعيه لفتح الأبواب وزيادة أعدادها سواء للمصلين أو للجنائز، موسعًا بذلك على الأحياء والأموات وسع الله عليه. ومنها حرصه على إيجاد ما يعين على تسوية صفوف المصلين؛ فباستواء الصفوف تستوي القلوب والأحوال. كذلك من أجلّها العناية بصيانة الحجرة النبوية إكرامًا لنازلها وصاحبيه بعيدًا عن البدع والشركيات والله يجعلنا وإياه وإياكم من رفقائهم في الآخرة. ومما أشار له الشيخ الكاتب حرص الشيخ الفالح على اختيار أفخر أنواع البخور للمسجد النبوي، وزيادة عدد مرات تطييب المسجد من مرة لعشر مرات، وإن الطيب لسنة ليس فيها سرف، والله يطيب مقامه البرزخي، وسيرته في الباقين.

          كما شارك معالي شيخنا عبدالعزيز بن عبدالله الفالح إبان عمله الطويل في ترشيح الأئمة والمؤذنين للمسجد النبوي، ونأى بنفسه عن التدخل في شؤونهم وتركها لهم فيما بينهم، فلم يجعل -وحاشاه- الترشيح أو الصفة الإدارية سببًا لحشر الأنف في كل صغيرة وكبيرة، أو التضييق على أولي الفضل والفضيلة، ولعمركم إنها لخصلة راقية نادرة؛ فبعضهم لو استطاع لألزم الأئمة والمؤذنين والخطباء بعدد الأنفاس والسكتات، وبمقدار الحركات والسكنات!

          ولم يفت على الشيخ السديس الإشارة للبراعة اللغوية والنحوية التي وهبها الله للشيخ الفالح، والتقدير العظيم الذي حظي به من الملوك والأمراء والعلماء حتى همّ سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ بتقبيل يده. ومصداقًا لذلك فحين توفي الفالح شارك في الصلاة عليه الأمراء والعلماء والوجهاء وزملاء العمل. كذلك أشاد شيخنا الحافظ أ.د.السديس بانصراف شيخه الفالح عن التصدر للتعليم أو الظهور في الإعلام، مع سعيه لتمكين الآخرين من مساعديه وغيرهم، ودأبه على تطوير العمل في كبير الشؤون ودقيقها، ولا غرو فقد سكنه المسجد النبوي في سفره وحضره، وفي يومه وليلته؛ ولذا يمضي جلّ وقته في المسجد، ويقطع سفره لمتابعة ما قد يحدث من مطر أو حريق.

          ومن لطيف ماذكره الشيخ السديس أنه كان طالبًا في ثانوية المعهد العلمي، وذهب إلى مكتب الشيخ الفالح وهو عميد لكلية اللغة العربية كي يدعوه لحضور احتفال المعهد، فهش له الشيخ وبش، وأكرمه وشرب السديس عند الفالح “مئ” وهو الماء بنطق أهل الزلفي؛ ولي -بالمناسبة- مع كلمة “مئ” حكايا! ثمّ بعد أن صدر الأمر الملكي بإسناد الرئاسة للشيخ السديس فرح الفالح بمنصب تلميذه الرفيع الذي سيصبح الفالح بموجبه تابعًا تبعية إدارية للسديس، وكان الشيخ الفالح دائم الثناء على جهود الشيخ السديس ونجاحاته وتلاواته، وهذا نموذج من نماذج نقاوة الداخل، والفرح بالخير للغير، والحرص على المصلحة العامة، والتغلب على النوازع الآدمية المردية.

          وقد اقترح الشيخ في خاتمة كتابه أن يتفرغ الدارسون للتنقيب في سيرة الشيخ، ولعلي أن أضيف على المقترح، أن يختص بعض الدارسين والباحثين بتتبع نماذج من الإدارة المشيخية لأجهزة عديدة: تعليمية، ودعوية، وقضائية، ونيابية، واحتسابية، وإدارية في هيئات ورئاسات ووزارات، وهو باب أخصّ من الوقوف عند السيرة العلمية أو العملية بإجمال على نفعها وبركتها، والغاية من ذلك إبراز القدوات الإدارية، والقدرات المشيخية في هذا الباب؛ حتى لا يزعم زاعم أن بين المشايخ والإدارة حجاب حاجز، أو جدار فاصل، وكي يستبين لكل ذي قلب وعينين أن في بني عمك رماح، بل منهم رجال دولة كبار!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 11 من شهرِ شوال عام 1445

20 من شهر إبريل عام 2024م

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)