يُعدُّ معالي الأستاذ فهد بن سعود الدغيثر (1355-1433=1936-2012م) من أميز الكفاءات السعودية التي جمعت علو الكعب العلمي والعملي في فهم الإدارة وممارستها بتفنن، مع رسوخ المبدأ في النزاهة بلا أي خيار آخر أو قابلية للتفاوض، ومعهما ناصع المثال في الإنجاز دون إحجام، إضافة إلى الجدية البالغة، والصمت الطويل، والنظر العميق، وسمو النفس الضاربة جذوره في بواطن رجل طيب المنبت، والمنزع، والأرومة، غفر الله للجميع ورحمهم.
ينتمي الدغيثر لأسرة عريقة لها تاريخ محفوظ في منطقتها، وكان لوالده صلات وثيقة بالملك سعود، ومشاركات إدارية في مجالس بلدية قديمة. وقد درس فهد في معهد أنجال الملك سعود، ثمّ واصل الدراسة في معهد مكي بيد أنه آثر الانتقال إلى لبنان، والدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت، ومنها حصل على شهادتي المتوسطة والثانوية، وامتاز إبان تلك الأيام بالانصراف التام نحو التكوين العلمي والثقافي؛ فلا يشارك في لعب الكرة، وإنما يستثمر الوقت في مطالعة الصحف والمجلات.
وربما أن هذه السمة صبغت سيرته العملية بالصرامة مع الالتزام وصلابة الإرادة، ولذلك حينما استرجعت الحكومة جميع طلابها الدارسين في الجامعة الأمريكية بلبنان، لم يستجب فهد لطلب العودة؛ بسبب قصر المدة المتبقية عليه كما أخبرني زميله السفير عبدالمحسن السديري، وكانا هما الوحيدين اللذين أتما الدراسة في بيروت، وانتقلا منها إلى مصر، حيث نال الدغيثر الشهادة الجامعية في تخصص الاقتصاد. وقد عاصر إبان دراسته أزمنة الانفتاح، والأمن، وتوافر فرص التقدم التي تهيأت لبيروت والقاهرة حينذاك، فأفاد من محاسنها، ولم يتكبّل بشيء لا ينفع.
بعد عودة الدغيثر للمملكة عمل في مؤسسة النقد -البنك المركزي حاليًا-، ولتميزه الظاهر، وبراعته اللافتة، استقطبه رجل الدولة الكبير الشيخ عبدالله بن عدوان -وزير الدولة للشؤون المالية والاقتصادية- للعمل في وزارة المالية، ثمّ أنيط به تكوين مصلحة الإحصاء، ووضع نظمها وطرق عملها، وإجراء أول مشروع إحصاء سكاني سعودي. ومع صعوبة تدريب فريق التعداد، وعسر إقناع الناس بجدوى العملية وضرورة الصراحة، وكثرة مشكلات النقل والاتصال ساعتها، إلّا أن الدغيثر تجاوزها بنجاح، وعندما أعلن نتائج الإحصاء السكاني بإفصاح شفاف من تلقاء نفسه، ضاق به المقام، وضاقت به عيون ونفوس، فغادر إدارته، والخيرة خفية.
إذ أصبح من مجريات القدر، أن استثمر الشيخ محمد أبا الخيل هذا الحدث، وظفر بالدغيثر نائبًا له في معهد الإدارة العامة، وهو جهاز رسمي حديث النشأة، ومهم لدى الحكومة ورموزها، وأتصور أنه لولا وجود الدغيثر في موقعه لما استغنى المعهد عن أبا الخيل الذي شقّ طريقه إلى مناصب حكومية عليا آخرها وزير المالية لعقدين، وهذا درس لكل إداري خلاصته أن وجود مؤهل كفؤ يخلفك قد يعجل من قرار ترقيتك، خلافًا لما يظن البعض أنه سبيل للمسارعة في تدبير إزاحة المسؤول الأعلى!
ثمّ أمضى الدغيثر زهرة عمره الإداري في معهد الإدارة العامة، قلعة الإدارة والتطوير في الجهاز الحكومي، وله في المعهد من المنجزات ما يشهد عليه الناس إلى يومنا، إذ سعى لتوظيف النابهين والكفاءات والمتفوقين دون أي اعتبارات أخرى، ووقف خلف سيل البعثات المعهدارية، ومن اللطيف الإشارة إلى أن أول بعثة كانت لأربعة طلاب منهم د.محمد الطويل المدير الثالث للمعهد، وقد خرج موظفو المعهد عن بكرة أبيهم لتوديع هؤلاء الأربعة في المطار، وعلى رأس المودعين المدير الدغيثر نفسه.
ويشاء الله أن يأتي يوم يكون فيه عدد مبتعثي المعهد أكثر من عدد مبتعثي وزارة المعارف المسؤولة عن الابتعاث كله حينها، مما يشير إلى نشاط معهدي ونفوذ دغيثري. وليس هذا فقط؛ إذ أرسى الدغيثر مع زملائه للمعهد سمعة في قوة التعليم، وجدوى التدريب، وملائمة البرامج، والمسابقة لأي جديد مفيد، واشتهر هذا الجهاز الحكومي بالحزم في الانتظام بالعمل، ولا غرو فمدير المعهد هو أول الحاضرين في بواكير الصباح، ولا يأنف من تقليم الأشجار قبل بدء ساعات العمل، ويمضي الجزء المتبقي في فحص القاعات والمكاتب للتأكد من جاهزيتها، قبل توافد الموظفين والطلبة والمتدربين.
كما كان من منجزات معالي المدير الدغيثر التعاقد لبناء مقر مناسب للمعهد، بتكلفة أقل من المعتاد وقتها، وبكفاء أعلى من المعهود حينها، إضافة إلى جمال تراه المقل البصيرة في التشجير والتصميم، ومتابعة دقيقة في الصيانة الذاتية لا تخفى على ناظر، فصيرت هذه الإضافات من المبنى قصة تروى، وأصبح المعهد مزارًا لأضياف المملكة، ومنطلقًا لمحاضرات وبرامج تثقيفية وترفيهية، وغدت أشجاره النادرة مطلوبة حتى من أجهزة حكومية عليا، فضلًا عن الكفاءات والعقول التي تنتسب للمعهد، ولا يخلو منها حتى لو استنزفتهم أجهزة أخرى بأكثر من صورة؛ فالمعهد منجب لا يعرف العقم. ولا يمكن إغفال مكتبة المعهد المتميزة عربيًا، ومجلته المثرية، وبرامجه المؤثرة في العمل الحكومي مثل برنامج الأنظمة، وبرنامج اللغة الإنجليزية، والبرامج المكتبية، واحتضانه للجان إدارية رفيعة، وتقديمه لخدماته الاستشارية محليًا وإقليميًا وعالميًا.
وقبيل نهاية عمل الدغيثر في المعهد، تسابقت إليه أجهزة حكومية، إذ طلب منه الأمير مساعد بن عبدالرحمن ضبط العمل في جهاز الجمارك، وهو جهاز حساس، فوجد الدغيثر أن طول سلسلة الإجراءات سبب لبلايا آخذ أعناقها بأعناق بعض، مثل التأخر والفساد وما يتلوهما من تبعات، فقصّر السلسة من فوره، بما يجعل الإجراء أسلس وأوضح، ويضيّق المنافذ على من رام خلاف الأمانة ومقتضيات العمل، وارتقى تقييم الجهاز عربيًا بعد أن كان دون المأمول. وفيما بعد أسند إليه ولي العهد الأمير -الملك- فهد رئاسة الشركة العقارية، وأثمرت سنواته فيها عن مباني ومشروعات لازالت إلى يومنا شامخة قائمة.
وقد آثر صاحب المعالي والمحامد الأستاذ فهد بن سعود الدغيثر الابتعاد عن العمل الحكومي، والانهماك في القراءة، واستقبال الزوار، والاستمتاع بأجواء الأسرة، إلى أن شاء الله حلول أجله، وارتحاله عن الدنيا، قبيل شهر رمضان بأيام، تاركًا وراءه اسمًا ووسمًا ورسمًا يجتمع فيها السمو مع الحسم، وشرف التطلع صوب المصالح العامة والعليا، ولأجل ذلك استمر العزاء متواصلًا فيه عدة أيام، وشارك ولاة الأمر في تخفيف المصاب عن أسرته، وتوالت المقالات للكتابة عن مآثره التي أحاطت بمسيرته، ولها وهج من ضياء منير، وشذى من عبير زكي فواح.
أما إذا أردنا اختصار أبرز سمات الدغيثر الإدارية؛ فسوف نجد أنه مع الاجتهاد والجد، صوّب ناظريه وجهوده نحو تحقيق المصالح الأساسية للدولة حكومة ومجتمعًا، ولم يصرف مهاراته ومواهبه للتقرب أو الاسترضاء، بل جعل منجزاته ومناقبه تحكي عنه بأصدق برهان وأفصح بيان. كما كان من خصائصه أنه صلب لايرضخ لموجة أو آراء مهما كانت جارفة، ويهمه الكيف أكثر من الكم؛ ولهذه المزية يُعزى ابتعاده عن العمل حينما طغى الكم على الكيف. ومن منهجه الإداري الحرص على العمل في أجواء مفتوحة في المعنى والمبنى قدر الإمكان، والمبادرة لصنع القرار واتخاذه وتنفيذه ومتابعته متى تبينت في ذلكم القرار آية الرشد والصواب. ومنها إرساء ثقافة تنظيمية وإشرافية شديدة الالتزام، وتضييق الخناق على الواسطة، وحسن انتقاء الموظفين، والتركيز على اختصاص المعهد، والاستعانة بذوي الخبرة من المسؤولين وخبراء القانون.
وهو رجل لا يأبه بالمظاهر دون الحقائق، ولأجل ذلك نزع الغترة والعقال في المكتب كثيرًا، وكتب “فكر” في مدخل مكتبه تعظيمًا للعقل والتدبر، وليست المسألة في نزع العقال والغترة المنتشر نزعهما كثيرًا هذه الأيام، وإنما فيما هو داخل الرأس، وفي القلب، وبين الجنبين والجوانح، وفي كيفية الاستخدام ومنهجيته. ولم يكن من شأن الدغيثر الدخول في لجج أو نقاش بلا عائد، ومن ذلك أنه تضايق من كثرة تحفظات مستشار قانوني يعمل مع وزير المالية الأمير مساعد بن عبدالرحمن الذي يرأس مجلس إدارة المعهد، وحين همّ الدغيثر بإبداء انزعاجه توقف وقال لمن حوله: إن المستشار صاحب يراع وقلم، وصادق فيما يبديه من رأي، ووجوده يخدمنا ولا يضرنا، وأنهى بذلك المسألة.
كما قطع أبو زياد المصلحة الشخصية بينه وبين أيّ موظف آخر، ولم ينافس العاجزين على الفرص المتاحة، ومن هذا الباب تكفله على حسابه الشخصي بابتعاث أنجاله: زياد وإياد وعماد وفؤاد وسعود وبدر وعبد الله ونوف وفدوى، مع أنه خدم آخرين بضمهم لبعثات الحكومة، بيد أنه فضّل إفساح المجال لغيره بناء على قدرته، ولو أفسح كل مقتدر لغيره المجال لما صال شرٌّ، أو جالت شرور! ومن خصال أستاذنا نصحه الصادق لزملائه وطلابه ومجتمعه وحكومته، وهو نصح بالفعال، ونصح بالأقوال صدقته الأعمال.
إن هذه السيرة الطيبة لأحد رموز الإدارة السعودية لجديرة بالجمع من قبل معهد الإدارة على وجه الخصوص لاتصالها بتخصص المعهد، وارتباطها بمديره الثاني وهو مدير تاريخي مؤسس، ويمكن استكتاب معاصريه ماداموا حاضرين، وضم المكتوب عنه سابقًا إلى هذا المشروع الوفي النبيل، وفرز محتويات أوراقه ومكتبته. وإنها لسيرة رجل ترد محاسنها على كل لسان في محياه وبعد رحيله، ويكفي أن خلفه د.محمد الطويل يصر على نسبة فضل التأسيس وما بلغه المعهد إلى الدغيثر، ولا يمنع دموع عينيه أو يخفي مشاعره حينما يتحدث عنه، وهذه من الأحوال النادرة بين متعاقبين على منصب واحد، ولا عجب فعلى أبي زياد وأمثاله تزيد الحسرة، مع بقاء الأمل بوجود العوض من المخلصين المنجزين البعيدين عن هواجس المجد الشخصي، الطامحين إلى غايات باسقة سامية، مثل معالي الشيخ فهد الدغيثر الذي نال العلو في الإدارة والنزاهة والإنجاز، وهو لعمركم علو في الحياة والممات.
الرياض
الخميس 09 من شهرِ شوال عام 1445
18 من شهر إبريل عام 2024م
2 Comments
ألف شكر وتقدير أستاذ / أحمد على هذا التدوين و التوثيق لقامة إدارية بوزن معالي الأستاذ فهد الدغيثر … أحسنت صنعاً حفظكم الباري و رعاكم .. الدغيثر رحمه الله ترك إرثاً هائلاً وبنى وأسس صرحاً كبيراً سيبقى للأجيال القادمة ..🌹🙏🏻🌹
مقالة مركزة وافية لرجل لم اقابله لكن اعرفه بأثره و بصمته ليس على المعهد وحسب و إنما على الإدارة العامة بالمملكة .
كان إدارياً من طراز فريد ووطنياً مخلصاً .