يوم وليلة!
ما أعظم فضل مولانا الرحمن الذي نستشعره ونؤمن به بمجرد النظر للنفس فضلًا عما جاوزها، ثمّ نستيقن بضخامة هذا الفضل بعد تأمل الأسماء الحسنى والصفات العُلى للرب الحميد المجيد سبحانه. ومن جملة نعم الله ربنا علينا أن اختصنا بمواسم مباركة ميمونة على قصرها، وجعل نصيبًا منها بالليل، ونصيبًا آخر بالنهار، وصيّر قسمًا منها يرتبط بزمن، وآخر يرتبط بمكان أو زمان، وثالث حسب المواضع، أو الأحوال، وهي أمثلة على أصناف من المنن الربانية التي لا تُحصى، وهذا كرم رباني جبر به نقص الأعمار، وفتح فيه الباب على مصراعيه للطائعين والأوابين.
فمنها على سبيل المثال فرصتان مرتبطتان بالزمن أكثر من غيره، وبينهما تشابه كبير وإن اختلفا في بعض التفاصيل. وهما: ليلة القدر، ويوم عرفة، فكلاهما يقع في أيام عشر، هي العشر الأخيرة من رمضان وهي أفضل ليالي العام وتقع فيها ليلة القدر، والعشر الأولى من ذي الحجة وهي أجلّ أيام السنة وفيها يوم عرفة، وبين شهري رمضان وذي الحجة روابط حتى في عدد الأيام. وليلة القدر غير محددة بالضبط خلافًا ليوم عرفة الذي لا يختلف الناس فيه.
وكلاهما يقتطع جزءًا من اليوم؛ فليلة القدر اختصت بالليل من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر، ويوم عرفة يبدأ من شروق الشمس إلى غروبها، وإن كان وقته الأهم من بعد الزوال، وقد يمتد في أحوال الضرورة إلى انبلاج الفجر بعده بليلة، وهذه ميزة انفرد بها يوم عرفة؛ إذ أن الليلة التي تعقبه تتبعه في الحكم خلافًا للمعتاد. وفي الليلة واليوم فرص عظيمة للدعاء، والابتهال، والاستغفار، والتقرب من المولى الرحيم الودود، وتحيط بهما عبادات عديدة، ومواسم تعين على التبتل والتأله والتوبة.
كما يرتبط يوم عرفة بفريضة الحج، وترتبط ليلة القدر بفريضة صوم شهر رمضان، وهما من أركان الإسلام الجامعة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأركان تثبيت للأمة، وتأكيد لعراقتها. ويتسابق الناس في يوم عرفة وليلة القدر لصنائع المعروف وفعل الطاعات، ويحرص الموفق على أداء طاعة لا يقوى عليها غيره مثل: إنفاق الثري، وعفو السلطان، وتوسيع الأب، وغيرها. وبعد نهاية الليلة المباركة واليوم الميمون يستقبل المسلمون العيدين: عيد الفطر المبارك بعد رمضان، وعيد الأضحى المبارك في شهور الحج، ويالها من دلالة طيبة على القبول بإذن الله، وياله من تشريع للفرح بالعيد الشرعي بعيدًا عن البطر والمآثم.
وليوم عرفة خطبة مشهودة، وربما تتوافق ختمة القرآن الكريم مع ليلة القدر، ومن مشتركات هاتين المناسبتين الكريمتين كثرة الذكر والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، فليلة القدر لها دعاء معروف ثابت بالسنة يسأل العباد الله فيه العفو الذي يحبه، وفي يوم عرفة ذكر صحيح فيه إعلان التوحيد الخالص لله رب العالمين، فاللهم هب لنا عفوك فأنت العفو، واجعلنا من الموحدين حتى نلقاك، وإن السعيد هو من اغتنم وسأل؛ فكم من مرة ومرة لم يحل حول على الدعاء إلّا وقد استجيب، وخيرة الله خير لنا سواء تعجلت الإجابة أو استأخرت.
وفي يوم عرفة ينزل الرب الجليل ويباهي بعباده الوافدين إليه، وفي ليلة القدر تنزل الملائكة بأمر ربها من الفجر تباعًا إلى الفجر، حتى تمتلئ بهم الأرض، ويعم السلام والاطمئنان في أرجائها، وفي ثلثها الآخر يكون النزول الإلهي المتكرر كل ليلة بما يليق بمقام الرب الجليل. ومن فرائد ليلة القدر التي تدل على أهميتها أن جبريل عليه السلام انقطع عن الأرض بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه يتنزل للأرض مرة واحدة كل سنة في ليلة القدر فقط.
كذلك مما يلاحظ في هاتين المناسبتين أن مستوى التغيرات الفردية والمجتمعية للأحسن تغدو لافتة للعيان، وهذا يشير لبقاء الإيمان والفطرة، وتراجع مشروعات الاجتثاث والتجفيف والتغريب، وبقاء حب الخير وأهله في النفوس، وانصراف عامة المسلمين لدينهم وكتاب ربهم وشعائر دينهم، ولا غرو فهما وقتان يذكران بالنبي ومكة والقرآن والرعيل الأول. وبالمقابل ففيهما كدر وغم للشيطان الرجيم وذريته وأعوانه، ولا عجب فهما من أرجى مواسم الغفران والعتق من النيران، وأجزم أن صورة الجموع المتعبدة المقبلة على دينها تطعن في قلوب المفسدين طعنًا طعنًا.
وبيوم عرفة تفتتح أركان الحج في الغالب، وتأتي ليلة القدر مع خواتيم شهر رمضان، وهي إشارة إلى أن زمن الابتداء ووقت الانتهاء لهما من الخصوصية في العبادة بما يجعل الإقبال على بقيتها قويًا بلا فتور، وبما يمنح الفرصة لمن فرط في البداية أن يدرك الموسم المبارك على نهايته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فاللهم اجعلنا من الفائزين في مواسمك؛ في أولها ووسطها وآخرها وخواتيمها، واكتب لنا القبول والرحمة، واجعلنا من قوم صلاتهم ونسكهم ومحياهم لله رب العالمين، خالصًا من أيّ شوب مهما قل.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 25 من شهرِ رمضان عام 1445
04 من شهر إبريل عام 2024م
3 Comments
اللهم ارزقنا زيارة بيتك الحرام وأكرمنا بحج وعمرة مقبولة إن شاء الله في القريب العاجل
اللهم آمين
جزاك الله خيرا ، الكاتب الفاضل والاديب احمد حفظه الله ورعاه ، كما عودت قراءك على مقالاتك القيمة التي تفيده في دينه ودنياه ، جعل العلي القدير في كل ماتكتب ، في ميزان حسناتك وحسنات والديك ،