مئة عام بين الميلاد والليوان!
مضى قرن من الزمان أو حوله بين اللحظة التي استهل صارخًا فيها وليد جميل في منزل أسرته العقيلية بدير الزور بسورية، وبين اللحظة التي وجد فيها المشاهدون أنفسهم أمام حلقتين مختلفتين من برنامج الليوان مع التاريخ والأدب والدبلوماسية، ومع الأوليات والمعاصرة النادرة والروايات الفريدة، وقد حدث ذلك حينما استضاف الإعلامي الأستاذ عبدالله المديفر الوزير والسفير الشيخ جميل الحجيلان، في برنامجه الرمضاني المعروف بليوان المديفر، واستمر اللقاء في حلقتيه إلى قريب من ثلاث ساعات.
ثلاث ساعات! نعم ولم يتسرب الملل إلى مشاهديه بل طالبوا بالمزيد كما يظهر من سيل التعليقات على موقع اليوتيوب، واقترح بعضهم تسجيل سلسلة من الحلقات المتلفزة مع الضيف، وربما يتعجب القارئ إذا عرف أن هذا الشعور وجده حتى من اطلع على سيرة الحجيلان كاملة، وعن نفسي أتحدث، والإنسان على نفسه بصيرة! وإن هذا الإجماع أو شبه الإجماع على قبول الحلقة والاستمتاع بها وتكرار مشاهدتها من أجيال عمرية مختلفة خلال مدة قصيرة من غير ملل ليوجه رسالة مختصرة واضحة لمنابرنا الإعلامية فحواها أن الجمهور يبحث عن المفيد والثمين، وليس حقًا مطلقًا أن الجماهير منساقة خلف التفاهة وعوالمها.
أما لماذا انبهر المتابعون بظهور الشيخ جميل الحجيلان في هذا اللقاء، فيمكن ذكر جملة أسباب تجتمع في المشاهدين أو تتفرق بينهم، منها اللغة المهذبة الجميلة الراقية التي يتحدث بها الشيخ جميل، وهاهنا أمران أولهما من نتاج التربية المنزلية والذاتية التي تصنع من لسان المرء أداة طاهرة لا تتفوه بما يسوء أو يشين، ولا تعود على صاحبها بمسؤولية ومساءلة، والثاني يعتمد على التعليم واكتساب الثقافة، ولا يكون هذا إلّا بدرس أدبي ولغوي فائق، وللشيخ جميل مع الأدب واللغة خبر مبسوط في سيرته المنتظرة.
ومنها الشهادة التاريخية التي يحملها الشيخ جميل، فقد عاصر ملوك السعودية السبعة منذ عصر الملك عبدالعزيز إلى عهد الملك سلمان -رحم الله الراحلين وحفظ الملك سلمان-، وليس هذا فقط، بل أدى معهم جميعًا أعمالًا رسمية، وهذا الذي يميزه عن بقية الوزراء المعاصرين لهذه العهود. ثمّ إنه تولى من المهام ما يلفت النظر؛ إذ ترجم للملك عبدالعزيز وهو شاب حديث عهد بوظيفة رسمية، وأصبح في حكم الملك سعود أول سفير في تاريخ الكويت المعاصر، ثمّ غدا في زمن رئاسة الملك فيصل لمجلس الوزراء أول وزير للإعلام، وتنقل قبل ذلك وبعده دبلوماسيًا في بلدان عدة، وكاد أن يصبح ممثلًا للبلاد في هيئة الأمم المتحدة ليكتسب الأولية الوطنية فيها، وصار في عهد الملك فهد أول سعودي تسند إليه أمانة مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي وجد المشاهد نفسه منشدهًا مندهشًا منجذبًا غير منصرف ولا قادر على المغادرة أمام خبرة رسمية لستة عقود تقريبًا، وكلها صدر التوجيه فيها بأمر ملكي!
كما أن الشيخ جميل اقترب من أحداث محلية وعربية وعالمية مفصلية ومهمة، وهذا الاقتراب يجعل الرجل على بصيرة قلّما تتوافر للبعيد، ولا يدرك كنهها وحقائقها من المحيطين بها إلّا اللبيب الثقف اللقن، والنبيه الفطن المتيقظ كما هو وصف الشيخ جميل، الذي يمتاز بالجرأة المحسوبة، والخطوة التي لا يضعها في وحل أو رمال متحركة، وإنما يتحين لها الأرض الصلبة أو المعبدة، أو يمهد الطريق قبل سلوكه، ثم يمضي بعد سنوح الفرصة لا يلوي على شيء، ويسند ذلكم كله قراءة تاريخية متواصلة، وهموم وطنية وعربية وإسلامية لا تنفك عنه البتة، وتلكم من سمات رجل الدولة الأساسية.
هذه السمات التي يتصف بها رجل الدولة برزت بجلاء في لقاء الحجيلان، حتى جزم المشاهد أنه يرى بعينيه مثالًا حقيقيًا على رجل دولة وطني مخلص، ويحمد المحب لبلاده الله مرارًا على أن البلاد فيها منذ القدم إلى يومنا من المخلصين الصادقين عدد غير قليل. وإن سير رجال الدولة لباهرة نافعة، وإن أفعالهم لتستقر بلا ممانعة في موضع القدوة والاحتذاء والدرس، وفي أقوالهم من الحكم ما يضمن لها التداول والخلود دون مدافعة، ولأجل هذا تعاقبت الأجيال على حمل أخبار رجال الدولة الكبار، ولذلك شعر الشاب والمكتهل وهم لا يستطيعون مفارقة شاشة المديفر والحجيلان أن هذا اللقاء الثري يضيف لخبرتهم خبرة عميقة، ولأعمارهم عددًا من السنوات دون أن ينوء أحد منهم بأثقالها على ظهر أو ركبة، ودون أن يعاني من أوجاعها في عين أو رأس، وعليه ظلّ المشاهد يعي مضمون كل فقرة، ويترقب أختها بلهفة.
كذلك لفتت نظر المشاهدين الذاكرة الجميلة التي وهبها الله للشيخ جميل الحجيلان، وهذا من فضل الله عليه، ثمّ من توالي الاطلاع والقراءة والسماع، والحوار مع زواره ومحبيه، فاللهم هب لنا ذاكرة تحتفظ بالنافع الطيب المبارك، وتنجح في استحضاره متى شاءت. وأيضًا طربت آذان المشاهدين لنغمة صوت الحجيلان وأدائه الإذاعي المتقن، وهذه نعمة ربانية، وقد طورها أبو عماد مبكرًا حينما كان يلقي بنفسه بعض المواد الإذاعية، والأخبار المهمة، وفيما مضى قابلت رجلًا في الثمانين من عمره، ومما قاله لي: نغمة صوت الحجيلان تترد على مسامعي منذ التقطتها عبر الإذاعة قبل ستين عامًا.
ومما زاد في جمال اللقاء مع جميل، ذلكم الهندام الأنيق الذي يرتديه الشيخ جميل، وهذا ليس بمستغرب عليه، فهو أنيق في أحواله كافة، ومن تمام الزينة الاعتناء بالمظهر، وطريقة الجلوس، وبعض التفاصيل الصغيرة، وهي مطلوبة خاصة من الأعيان حتى لا تقتحمهم العيون، فللعين على المنظر حكم يسبق حكم الأذن والعقل، وعادة الناس استقبال الآخرين بالهيئة واللباس، والموفق من ودعهم بالنظر الصائب للعقل والقلب واللسان، ولقد أعطي الشيخ الأمرين معًا؛ فمنظره جاذب، ومخبره لذوي الألباب سالب.
بقي أن أقول إن الشيخ جميل الحجيلان كان يحب في طفولته التاجر العقيلي الشيخ حمد المديفر بسبب لطفه البالغ؛ إذ يحمل الشيخ المديفر معه من دمشق أقلامًا جميلة للطفل العقيلي الذي يستضيفهم منزل والده في دير الزور ويستضيف كل نجدي عابر بالمدينة السورية الحدودية، وإن القلم لأداة محببة عند كل كاتب، بيد أن الحكاية لم تنته عند أقلام المديفر الأول المهداة للطفل جميل، حتى آلت الحكاية إلى برنامج المديفر الثاني الذي أهدى -بتعاون بين طاقمه وضيفه- للشاشة والمشاهد ولعالم البرامج المرئية هذا اللقاء البارع الذي حظي بمشاهدة كثيفة وتعليقات جمة، وأهدى الشيخ الحجيلان للمديفر وطاقم برنامجه هذا اللقاء الاستثنائي الذي يصنف على أنه ثاني أهم لقاء للمديفر بعد الحوار الرمضاني الشهير مع سمو ولي العهد.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الخميس 18 من شهرِ رمضان عام 1445
28 من شهر مارس عام 2024م
3 Comments
التفاتك للقلم الذي كان الشيخ حمد المديفر رحمه الله، يُفرح به الصغار، جميلة في موضوع جميل كتب عن رجل جميل اسما ورسما يا أستاذ أحمد. سلمت يداك.
رعاكم الله، وإنما يدرك الجمال أهله، وهذا ليس بمستغرب عليكم يا كاتبنا المتألق.
وين اقدر أقابلك أستاذ تركي
انت لاتقل أهمية عندي بثقافتك وفكرك ومؤلفاتك عن اصحاب المعالي حفظهم الله وللجميع حقه في التقدير ولكن أنا متابع لك من طفولتي ( اعذرني ما أبي أكبرك )