عبدالعزيز التويجري وحمر النعم!
ضجت الأخبار، وتواترت الرسائل منذ عصر هذا اليوم الجمعة، وهي تحمل بكلمات تقطر حزنًا، وبتعابير تفيض بالتوقير والإجلال، خبر رحيل الشيخ الداعية عبدالعزيز بن عبدالله التويجري (1362-1445=1943-2024م)، أحد أبرز العاملين في دعوة الجاليات بالمملكة، وسوف يصلى عليه بجامع الشيخ محمد بن عبدالوهاب بعد صلاة العشاء هذه الليلة بإذن الله.
للشيخ الجليل منظر مهيب، وإطلالة وقورة، تخفي خلفها همة متوقدة، وروحًا وثابة نحو المعالي، وشفقة في قلبه نحو الناس أن تتخطفهم كلاليب جهنم؛ ولأجل هذه المعاني بادر إلى مشروع مبتكر، يتناسب مع كثرة الوافدين للمملكة لأغراض العمل في الشركات والمنازل والأجهزة الحكومية، وما أكثر الأفكار الراشدة المتاحة، وإنما الشأن فيمن يحمل الراية والهم، ويمضي بعزيمة وإصرار، ويصبر ويصابر خاصة إن لم يسبقه أحد.
وهكذا كان شيخنا الموفق؛ فقد شرع في دعوة الجاليات من تلقاء نفسه، بالتعاون مع آخرين، ثمّ سكنه هذا الهم السامي، حتى آل إلى عمل مؤسسي رسمي، تظلله بجناحها الرحيم الناصح الحكيم مؤسسة حكومية يقف على رأسها عالم كبير، وإداري منجز، وسليم القلب طاهر الجنان واللسان، وهو سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز الذي جعل الله له المحبة والقبول والتأييد من الأطراف المحيطة به الرسمي منها والشعبي، العلمي والعامي.
لذلك افتتح الشيخ التويجري مكتبًا لدعوة الجاليات في بريدة، وتوسع في الافتتاح ونقل التجربة، حتى تجاوز عددها عشرات المكاتب التي ترتبط به مباشرة، والمئات التي قبست من آثار تجربته، وسلكت سبيله ومنهجه. وقد طاف في المجامع التي تكون مظنة توافر غير المسلمين، وغشيهم في أماكنهم، وبادر بجرأة لإقناع التجار والمسؤولين، حتى عمت الدعوة المباركة المصانع والمتاجر والشركات والمؤسسات الرسمية الكبرى العسكرية منه والمدنية.
فظفر الشيخ -بإذن الله وكرمه وتوفيقه- بالبشرى الصادقة من النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قال لصاحبه وابن عمه وزوج ابنته علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: “فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم” والحديث متفقٌ عليه. وحمر النعم هي الإبل الحمر التي هي أكرم الأنعام وأغلاها، وكانت الوصية في سياق حرب من طبيعته القتل والقتال؛ فقدمت الدعوة وهداية العالمين على أي شيء آخر.
ولم يحتجن الشيخ هذه الأجور لنفسه، إذ أعلن عن شركائه في هذا العمل، وهم جمع من الكرام تشملهم البشارة بفضل الله الجواد الوهاب، ففيهم من سانده بالدعوة المباشرة، أو التبرع المالي، أو المؤازرة المعنوية، أو التسهيلات النظامية، أو التوجيه والتقويم، أو المشاركة التقنية والإدارية والإعلامية، أو بالدلالة، أو حتى بمجرد الدعاء لهم بالتوفيق والعون، والذب عن أعراضهم ممن لا يرجون لله وقارًا، وربما كان الممسك عن الخوض فيما لا يعلم مأجورًا.
لقد كان الشيخ عبدالعزيز التويجري من خير الناس في عصرنا؛ فهو من أنفع الخلق لعباد الله، وأيّ نفع أعظم من نجاة المرء من النار، وتزايد الحسنات في صحائف العاملين في هذا الحقل، إذ تأتيهم من أجور من أسلم بعد كفر، وأجور أعمال ذرياتهم وأزواجهم، ومن اهتدى عن طريقهم إلى يوم الدين. ولم يقف الشيخ عند هذا الحدح إذ نشر تجربته العملية، ولم يبخل بها، وطاف لأجلها في بلاد قريبة وبعيدة، وعندما سأل عن لباب التجربة أوصى الدعاة بالاحتساب، وتنقية النية، وحسن الاختيار للمواقف، والتزود من العلم الشرعي، وإدامة الالتقاء لتبادل الخبرات والفوائد، وأكرم بها من همة سمت عن التجارة الدنيوية، وسابقت نحو الفلاح الأخروي والتجارة المنجية بإذن الله.
إن الفكرة حينما تستولي على صاحبها تولد لديه اهتمامًا أزيد من غيره؛ فتسكنه وتخالط شغاف قلبه وخلجاته، وتجري على لسانه وقلمه، ويسخر لها وقته وجوارحه، حتى يبدع فيها، وينجز بعد توفيق الله أعمالًا فيها، سبق، وتفرد، وعبقرية، ونموذج قمين بأن يحتذى، وما هو بعسير، وهكذا كان الشيخ التويجري، ومشروعه السباق، وإنه لمشروع استفاد منه مئات الآلاف ممن اهتدوا بعد ضلالة، واستقاموا بعد غياية، وأسلموا بعد كفر، وأفاد منه كل من ساهم مع الشيخ ومشروعات الدعوة بعامة ولو بكلمة أو ريال؛ ففضل ربنا كبير، ومغفرته واسعة، وهنيئًا ألف مرة لمن يمضي من دنيا الناس وحسناته مستمرة، وأعماله الصالحة باقية، والله يجعل الشيخ عبدالعزيز التويجري ومن ساعده من أهل هذه المزية والغنيمة.
أحسن الله العزاء لعائلة الشيخ، ولأسرته العريقة الكبيرة الممتدة، التي اشتهر الشيخ بالبر بها، والإحاطة بأخبارها، مع أنها من أكثر الأسر عددًا في المملكة. والعزاء يتواصل لكل داعية ومصلح ومحسن، ولكل محب للخير وأهله، والله يجعله هذه الليلة وما بعدها في سعْد وسعود متوالية حتى يقوم من برزخه مع الناس لرب العالمين. وإن فاجعة رحيله لفرصة سانحة، ولعلها أن تكون في موازينه، للتذكير بأهمية تجديد فكرة هذه المكاتب المباركة، خاصة بعد أن أصبحت بلادنا قبلة لمن رام التجارة والاقتصاد، أو السياحة والثقافة، أو الترفيه والرياضة، وقبل هذا وبعده هي قبلة للعلم الشرعي، ووجهة لا يوجد لها منافس لمن شاء الحج أو العمرة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 27 من شهرِ شعبان عام 1445
08 من شهر مارس عام 2024م
One Comment
وصلني المقال أدناه بالواتساب، وسوف أنقله هنا كما هو؛ لأهمية المقال وما فيه:
*رحل أبو الجاليات وبقي الأثر ممتداً*
*في وفاة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله التويجري رحمه الله*
في مساء الجمعة 27/8/1445هـ ودّع الدنيا الشيخُ *عبد العزيز بن عبد الله التويجري* -رحمه الله-، حيث صُلي عليه في جامع محمد بن عبد الوهاب ببريدة عشاء يوم الجمعة، وكانت جنازته مشهودة، وكنت ممن قدم من سفر لحضور جنازته، وعادت بي الذاكرة لأتذكر شيئاً من جهود وجهاد الشيخ عبد العزيز في سبيل الدعوة عموماً، وتوعية الجاليات خصوصاً حيث كان *(عذيقها المرجب)*، وقد أمضى في العمل فيها ما يزيد على أربعين عاماً، ولعله كان رائداً في فتح وتعدد مكاتبها، ولا تسأل عن أعداد الذين أسلموا فيها، وبعضهم أصبح من مشاهير الدعاة للإسلام، فلتهنأ بذلك أبا محمد، وكتب الله أجرك، وجعل ما قدمته رفعة لدرجاتك، وتكفيراً لسيئاتك.
– عرفت المرحوم -إن شاء الله- حريصاً على الدعوة، باذلاً وقته وماله وجهده في سبيل ذلك.
– كثرت أسفاره خارج المملكة لا مجرد سياحة، لكنها دعوة وبلاغ ونشر للإسلام.
– قُدّر لي أن أصحبه في سفره خارج المملكة قبل ما يزيد عن سبعة عشر عاماً (1428هـ)، وكان حديثه وهجيراه الحديث عن الدعوة وعن إسلام عدد كبير من غير المسلمين، حتى ذكر أنه في حرب الخليج أسلم قرابة *خمسة وعشرين ألفاً من الجنود الأمريكان*!!
– كانت همته في السفر والدعوة والزيارة للخيّرين ضرباً من الخيال، وأتذكر أنه عرض علي يوماً زيارة الشيخ *(أحمد ديدات)* -رحمه الله- حيث كان مريضاً فوافقته على السفر، وكنت أظن أنه في أحد مستشفيات المملكة، فاتصل بعدها يطلب جواز سفري، فاستغربت وقلت لماذا ونحن سنسافر إلى (جُدة)؟ قال : ألست وافقت معنا -وكان معنا الأخ الكريم (عبد المحسن العمري) للسفر لزيارة الشيخ ديدات؟
قلت : بلى، لكن أليس السفر إلى جدة؟، قال : لا، وإنما السفر إلى جنوب إفريقيا حيث يرقد الشيخ مريضاً هناك، فاعتذرت عن السفر، وأكبرت همة الشيخ وسهولة السفر عنده.
– وكان الشيخ عبد العزيز -يرحمه الله- له همّة أخرى في تأمين وجمع الكتب المترجمة بعدد من اللغات لتوفيرها لغير المسلمين حسب لغاتهم ليقرأوها ويسلموا بعدها.
– كما كانت له همّة أخرى في الحج والعمرة لعدد من هؤلاء المسلمين الجدد، وربما بلغت بعض حملاته للحج والعمرة فوق ألف شخص، وكان يطوف بهم على المشايخ وفي مقدمتهم *الشيخ ابن باز* -رحمه الله-، وكان يجد منه وأمثاله -كما ذكر الشيخ- التشجيع والدعم.
– أما حرصه على جمع المال والإحسان لهؤلاء المسلمين الجدد الفقراء، فكان لا يوصف، يزور هذا، ويكاتب ذاك، ويبذل وقته وجهده في سبيل ذلك، ومن أبرز من يذكرهم سمو *الأمير سلطان بن عبد العزيز -يرحمه الله-، وسمو الأمير عبد العزيز بن فهد.. وسواهم من أصحاب السمو الأمراء،* وعدد من أصحاب الأموال في بلادنا الحبيبة، وأيضاً عدد من العلماء والدعاة الذين شجعوه وساندوه.
– وفوق ذلك كان للشيخ عبد العزيز يرحمه الله جهد مشكور في افتتاح عدد من مكاتب الدعوة لتوعية الجاليات، وإذا كان أول مكتب للجاليات افتتح في بريدة قبل أربعين عاماً، فقد تكاثرت المكاتب بعده في عدد بل ربما في كل محافظات المملكة، ولا تزال تقوم بجهد مشكور -وفق الله العاملين فيها وجزاهم خيراً، وكتب أجر المؤسس الأول لها، وجزاه عمّا قدم خيراً.
– أما اللحظات الأخيرة في حياة الشيخ فلي معها وقفة وذكرى، فحين علمت بمرض الشيخ اتصلت بابنه *(منصور)* وكل أبنائه كرام عندي، فسألته الخبر لأطمئن على صحة والده، فأخبرني أنه يرقد في *(العناية المركزة)* بمستشفى الملك فهد التخصصي ببريدة، وسألته عن الزيارة، فكأنه اعتذر بلطف لأنه غائب عن الدنيا -ومع ذلك قال لي مشكوراً- : أنت منّا وفينا فحيثما أردت الزيارة فلك ذلك، وهو في الغرفة رقم (5) في العناية، فرأيت من حق الشيخ عليّ أن أزوره وإن لم يعرفني، وحيث وقت الزيارة محدد من 2-3 ظهراً في الوقت المحدد، فأصررت على زيارته ولو بعد ذلك، فذهبت للمستشفى الساعة الرابعة، وحين اقتربت من الباب وجدته مغلقاً، وفجأة فُتح الباب فدخلت مسرعاً، وتوجهت لغرفته فسلمت على عجل ودعوت له، ولحقت بي موظفة العناية وقالت : *(أنت الذي زرقت قبل شوي، وأنا أصلي؟)*، قلت : نعم، قالت : ممنوع الزيارة، فاعتذرت منها وقلت : معك حق، والله يبارك في الصلاة التي أشغلتك عني، وأنا زائر خفيف، والشيخ له عليّ حق … وكأن الله أرادني أن أودّع الشيخ الوداع الأخير.
– وفي يوم الجمعة -اليوم الذي توفي فيه- كنت خارج بريدة، فلما علمت خبر وفاته ترددت أن أقطع سفري، وأحضر جنازة الشيخ وأعزي أهله وذويه، أم أستمر في سفري وأدعو للشيخ في ساعة استجابة الجمعة؟، وألحق فيما بعد على تعزية أبنائه؟ لكني ما لبثت أن قررت العودة لبريدة للصلاة على الشيخ، وقلت في نفسي : ليس ثمة موتة أخرى ولا جنازة أخرى للشيخ غير هذا ورجعت … وبفضل الله أدركت صلاة العشاء في جامع الشيخ محمد بن عبد الوهاب -حيث يُصلى على الشيخ-، وقد فاتتني ركعة فقضيتها وأدركت الصلاة عليه، ثم حضرت دفنه، وعزّيت أبناءه وإخوانه ومن عرفت من قرابته ومحبيه..
– وأخيراً، يُغبط الشيخ على جهوده … ويُغبط على شهود جنازته، ويُغبط على صلاح أولاده، وعسى الله أن يجعل فيهم بركة، وأن يجعلهم ممن يصِلون عمله ولا ينقطع *(أو ولد صالح يدعو له)*، وغفر الله للشيخ وأسكنه جنته، وعزاؤنا لكل أهله ومحبيه، وإنا لله وإنا إليه راجعون..
– وبعد، فكم في الموت من *عبر ودروس*، وكم في رحيل الأخيار من موعظة بليغة.. فالموت حق لكن ماذا بعد الموت هو المهم .. وحري بكل واحد منا -وهو يوقن بالموت- أن يسأل نفسه : *ماذا قدمت لهذا الغائب المنتظر؟، وأي ذكر سيكون للمرء بعد موته؟* وليس عُجباً ولا رياءً .. ولكن موعظة واستعداداً .. وإذا كان شوقي يقول : *(والذكر للمرء عمر ثان)* فأبلغ منه قوله -صلى الله عليه وسلم- : *(الناس شهود الله في أرضه)* فمن شهد له بخير فهو على خير..
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك، واجعلنا ممن يُذكر بخير، واغفر لنا ولأموات المسلمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون..
وكتبه : د. سليمان بن حمد العودة
الأستاذ بجامعة القصيم سابقاً
28/8/1445هـــ