عبدالعزيز بن سعود البابطين وهذه الملامح!
الحديث عن الشيخ الراحل عبدالعزيز بن سعود البابطين (1355-1445=1936-2023م) لم ينقطع منذ إعلان خبر وفاته المفاجيء، وقد تبارى المتحدثون والكتّاب في الإشارة لمآثر الشيخ ومناقبه التي فشا الخبر المتواتر عنها في محياه وعقب مماته. ومن صور الاحتفاء الندوة التي سوف يستضيفها مركز سعود البابطين بحي الصحافة شمال الرياض مساء السبت الحادي والعشرين من شهر شعبان عام (1445)، بالتعاون مع جمعية الأدب والأدباء، وسوف يديرها د.زياد الدريس، ويتحدث من منبرها الكتّاب والأدباء والشعراء والوزراء وشركاء الشيخ البابطين في عمله المؤسسي، وهم: د.عبدالعزيز خوجه، وأ.محمد رضا نصر الله، ود.فواز اللعبون، ود.محمد أبو شوارب ( ألقى ورقته أ.د.عبدالله الحيدري)، وبخلاصة هذا المقال سوف أداخل إذا يسر الله وأعان.
ومع كل ماورد في المنصات من نصوص المراثي والتأبين؛ ففي سيرة الشيخ عبدالعزيز البابطين ملامح من السمو المتفرد، بيد أنها لم تأخذ نصيبها من الثناء والإيضاح؛ لطغيان الالتفات إلى صنائعه العظام التي تسلب وتستولي، إضافة لدخول بعض هذه الملامح ضمن غيرها من باب التبعية اللازمة، أو بمفهوم المنطوق، وبالتالي غاب حظها من النظر، واختفى نصيبها من التباهي بها، ولم تنل من التنويه والإشادة ما تستحقه. وليس المقصود إسباغ مديح على راحلنا هو له أهل، وإنما الغاية منحصرة في نشر القدوة، واقتفاء الأثر، والمسير خلف ضوء المكارم أيًا كان فاعلها؛ فالمجتمع العريق يستمسك بمواطن عراقته، وأسبابها، ومظاهرها.
فمن الملامح البهية في سيرة الشيخ عبدالعزيز التي رافقته مرافقة الظلّ للشاخص ولم تعدِل عنه لأنه عنها ليس بعادل، فنُّ الاستضافة الراقية الكاملة الدائم زمانها، المتنقل مكانها، المتنوعة في إنسانها، وأحوالها، وفئاتها، وأسبابها، وسياقاتها، والبريئة بإذن الله من أيّ غرض سوى محض الإكرام، وإبقاء هذه المنقبة العربية الأصيلة الرفيعة، التي لأجلها قطع أبناء يعرب الفيافي العريضة المقفرة بلا زاد زائد؛ ثقة من العربي بكرم أخيه العربي، وهبّته الفطرية للقِرى والاستضافة، وقد تجاوزت ضيافة شيخنا الإنسان إلى المبادئ والمعاني والعلوم والفنون!
ومن خبر استضافة أبي سعود أنه كان مضيافًا في بلاده الكويت، وفي مصيفه بسويسرا، وهي أماكن إقامة له واستقرار، بيد أنه لم يقتنع بالاستضافة في حال السعة هذه وبها يُكتفى؛ بل استصحب عادته الكريمة معه في أيّ بلد يحل به هو بشخصة متنزهًا، أو قناصًا، أو مستثمرًا، أو راعيًا لمشروعاته الخيرية، أو مشاركًا في مؤتمراته وملتقياته التي أقيمت في بلدان عديدة، وقد شهد على استضافته فيها بقاع وأناس من بلدان عديدة، وعرفها له مواطنوه في حال الرخاء والشدة، في موقف صدق مثله لا يُنسى، وكانت ضيافة البابطين في جميع أحوالها متاحة للموافق والمخالف، وللكويتي وغيره.
كذلك من خبرها أنه استضاف الناس في البر والجو، ولا أعلم عن البحر! ومن المحفوظ عنه أنه استضاف الآخرين على اختلافهم في المدن والحواضر، وفي البراري والبوادي والمخيمات. وحين جلس على موائده سراة الناس وسادات الدنيا لم يُحرم منها االفقراء والمنكوبون، إذ استضافهم بنفسه مباشرة، أو بماله ومشروعاته بواسطة مؤسسات الإغاثة والعون. ومن استضافات البابطين النادر حدوثها، أنه استضاف حكومة الكويت عدة شهور عقب عودتها إلى ديارها المحررة من أثيم العدوان، فأضحى ديوانه الأندلسي المقر المؤقت للديوان الأميري الكويتي، إلى أن تهيأت القصور وجهزت لاستقبال أهلها.
ومن بديع شأن الاستضافة عند الشيخ البابطين أنه لم يقصرها على الأحياء فقط، إذا استضاف بمعاجمه ومؤتمراته وملتقياته آلاف الشعراء من أعصر غابرة وحاضرة، ولم يكتف أبو سعود بهذا الصنف الوفي من الاستضافة، الخلي من الأغراض، إذ أكرم وفادة الشعر في زمن هان فيه ديوان العرب على بعض أهله، فأنزله شاعرنا مكانًا عليًا، وموضعًا سنيًا، فغدا خير مضيف للشاعر، والشعر، وأحسن معزٍّ لمادة الشعر الثرية، ولوعائها النفيس المستقى من اللغة العربية، ولعمركم إنها لبَابٌ فيها لُبابٌ من الاستضافة المعنوية الفائقة التي قلما يُلتفت إليها!
ويضاف لها من بابها الفخم دلالة، الصعب موالاة، أن الشيخ أمضى نصف قرن دون توقف، وهو يستضيف طلاب المنح من بلاد إسلامية شتى للدراسة الأزهرية، أو يبتعث أبناء الخليج والجزيرة العربية لإكمال الدراسات العليا، وقد استضاف الطلبة في الحالين، وتكفّل بمعيشتهم وتعليمهم، واستضاف علومهم التي حملوها معهم لبلدانهم فنفعوا بها وخدموا. ومن أنواع الاستضافة المعنوية استحياء معاني المقاومة للاحتلال والتغريب والبهتان عبر الشعر الفلسطيني، ومناهج التعريب، وبرامج التدريب للمرشدين سياحيًا، وللخطباء، وكم في استضافة هذه المبادئ التي تكاد أن تعود غريبة من شجاعة قلب، وكرم محتد، ورقي همة، وسمو مطلب!
ثمّ يتجلّى لنا الملمح الثاني في العلاقة الوثقى بين الشيخين الشقيقين عبداللطيف، وعبدالعزيز، إذ احتضن عبداللطيف أخاه صغيرًا ووليدًا، واحتسبه كبيرًا وفقيدًا، وفيما بين الاحتضان والاحتساب، قامت العلاقة بينهما على مسابقة كل واحد صوب الآخر بالتجلّة والتوقير؛ إذ كان الشيخ عبدالعزيز دائم الاعتراف بفضائل شقيقه الأكبر وإحسانه منذ أدخله لمجالسه الأولى مع أرباب الكلمة والبيان، ثمّ حين تشاركا أو تسابقا إلى المحامد بالاستثمار الثقافي القليل جنسه عبر الكتب والمخطوطات والمكتبات والمراكز والندوات وغيرها، وقد صار الشيخ عبداللطيف لإخوانه بمثابة الأخ الوالد، وأنعم به من مقام فيه برٌّ وصلة واكتناز للأجر والثواب.
ليس هذا فقط؛ بل أجاد عبدالعزيز وفاق أقرانه وسواهم، حتى ابتهج الشقيق الأكبر عبداللطيف به، وتواتر عنه مدح شقيقه الأصغر، وإشاعة أخبار مكانته العلية، ومنجزاته الرفيعة، وإظهار الفرح به وبها، والسعادة السليمة من أي أوشاب، والمودة التي لا تكدرها منغصات، ولا تفصم عراها الحوادث، فضربا مثالًا على صادق الإخوة في زمن جفاء وشقاق ونزاع، وقد أحسن الشيخ عبدالعزيز في محياه بنسبة ما قبسه من أخيه إليه دون نكير، وأحسن حينما جعل مفاخره تسابق الريح المرسلة بالخير حتى يفاخر به وبها أخوه الأكبر، ويشاء الله أن يسبق أبو سعود كبيرَه بالرحيل ليكون المصاب به، والصبر على القدر الذي وقع، من الحسنات المكتوبة في ميزان الشيخ عبداللطيف، ويالها من إخوة تقتفى، ويالها من قصة تحكى.
ومن الملامح التي تبدو في سيرة الشيخ عبدالعزيز البابطين أنها سيرة نالت من الناس القبول وترداد الرواية لتفاصيلها أو مجملاتها، ونال صاحبها محبة ممن سمع أو قرأ حتى من دون أن يعاين أو يستفيد مصداقًا لقول المتنبي:
وَقَيَّدتُ نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّةً **** وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا
لذلك لم يجد المنظمون للقاءات عقدت عنه بعد وفاته أيّ ممانعة من متحدث، أو مدير لقاء، أو معقب عليه؛ بل ربما بادر بعض الفضلاء بطلب المشاركة تقديرًا للبابطين الذي تغازرت فيه الخصال الكريمة، وتكاثرت منه الأفعال الحميدة، حتى غمرت ما سواها، وحتى حقَّ له لو كان حيًا أن يردد مع أبي الحسن التهامي قوله:
لا ذنب لي قد رُمت كتم فضائلي ***** فكأنما بَرقعتُ وجه نهار
وسترتها بتواضعي فتطلّعت ***** أعناقها تعلو على الأستار
أسأل الله الرحمن الرحيم أن يغفر للشيخ عبدالعزيز بن سعود البابطين وقد وفد إليه فردًا، وأن يتقبل منه أحسن الذي عمل؛ حتى يكون في في روضة من رياض الجنة ابتهجت حسنا وَطاب بها للنازِل النزل. وأضرع لربي أن يديم فينا أهل النبل والفضل الذين بمثلهم ومثل ثمارهم نفاخر أي فخّارٍ من العالمين، وبمثلهم يزدان زماننا، وتبقى المكارم مهما حلّ بالناس من ضيق أو مسغبة.
والله المرجو أن يجعل في الخلف عوضًا عن السلف، وأن يوفق ذوي السلطان في بلاد المسلمين للمزيد من تقدير هذه النماذج، وإيجاد ما يعين على كثرتها، فإن الناس على ديدن الحكام وطريقتهم؛ وهؤلاء الأماجد لا يحتاجون إلّا لقليل من ماء وأنوار وتربة تحفظ ولا تلفظ؛ كي يبدو سناهم، ويفوح عبيرهم، وتزداد عطاياهم، وفي النهاية فهم معدودون من جملة حسنات أكابر العصر وزعماء البلاد.
هذا وإن الواحد من هؤلاء الأئمة في المنح والإنفاق والهبات، لا يحتاج من الباقين بعده على ظهر الأرض عقب مغادرته الدنيا، سوى المخلص الصادق من الدعاء:
تسائلني هل في صحابك شاعر | إذا مت قال الشعر وهو حزين | |
فقلت لها: لا هم لي بعد موتتي | سوى أن أرى أخراي كيف تكون | |
وما الشعر بالمغني فتيلا عن امرئ | يلاقي جزاء… والجزاء مهين | |
وإن أحظ بالرحمى فمالي من هوى | سواها وأهواء النفوس شجون | |
فَخَلِّ فعولن فاعلاتن تقال في | أناس لهم فوق التراب شؤون | |
وإن شئت تأبيني فدعوة ساجد | لها بين أحناء الضلوع حنين |
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 20 من شهرِ شعبان عام 1445
الأول من شهر مارس عام 2024م
One Comment
كلمة مختصرة، جامعة مانعة، عن الشيخ الأديب ، خادم اللغة العربية ، وحامي عرينها، الشيخ / عبدالعزيز بن سعود البابطين ، رحمه الله ، وبارك الله في خلفة ومن يخلفه.