درايات عن الأمير مانع المريدي
لا يوجد لدينا ما يكفي من الروايات عن الأمير مانع المريدي -رحمه الله- ، وهذه الندرة بقدر ما تحزن الباحث والقارئ للتاريخ؛ إلّا أنها تفتح له الباب إلى عالم لافت من الدراية والتحليل، حتى وإن عدمت أو حجبت عنه كثير من المرويات والمعلومات؛ فربما تكفي معلومة واحدة، أو سمة عصر، أو طبيعة موضع، ليفاد منها في إبداء رأي يقع موقع اليقين أو الظنّ القريب منه، وقد يكون في هذا العمل الذهني الجليل العزاء عن النقص والقصور في الأخبار والآثار، وربما صار مثل الراية الباسقة التي تشير لما وراءها.
فأول دراية يمكن الإشارة إليها هي أن الأمير مانع بن ربيعة المريدي عندما غادر هو أو آباؤه مواطنهم الأولى، لم يبتعدوا كثيرًا عنها ولا عن جزيرة العرب، ومهبط الإسلام، وموئل قبيلتهم بني حنيفة المتفرعة عن بكر بن وائل، وهذا الارتباط الوثيق بالأرض والتراث ظلّ صفة بارزة لدى مانع وذريته من بعده، وهي من دلائل الأعراق النبيلة، ومناهج الأسر العريقة، التي لا تهجر شيئًا يرتبط بكينونتها مهما كانت الأسباب أو المغريات.
ثمّ تتأكد سمة الوفاء هذه بعودة مانع إلى دياره ومرابع أسرته من جديد منتصف القرن التاسع الهجري، ويستوي في هذا الأمر إذا كانت عودته من تلقاء نفسه، أو تلبية لدعوة ابن عمه عبدالمحسن بن سعد بن درع، أو التقت الرغبتان فكان ما كان. ويضاف لهذه الدراية جرأة الأمير مانع في التنقل، وهي جرأة تستبين إذا علمنا صعوبة الارتحال في ذلكم الزمن العسيرة أحواله، وإذا كان المستأجر في أيامنا يتأفف حين يضطر للنقل من منزل لآخر، فكيف بالأمة من الناس في زمن صعب يفقد جميع تسهيلات عصرنا في الحركة والخدمة والانتقال؟
ويزداد تقدير هذه الجرأة إذا علمنا أن الرحلة لن تكون قصيرة؛ فالمسافة بين البقعتين طويلة، ويحتاج قطعها لزمن بسبب العدد، وضرورات التوقف للمسافرين، وأحوال الجو، وبناء على ما تحتاجه الإبل من إراحة وغذاء، وأشدّ من ذلك كله المخاوف التي تكتنف الطريق، إن من وحوش البراري والصحراء، أو من وحوش البشر وعوادي الناس، إضافة إلى احتمال فقدان الماء، أو حدوث ما يكُره. ويبدو أن الأمير وصحبه استحضروا هذه العوائق، واستعدوا لكل وارد محتمل؛ مما يشير إلى شجاعة قلب، وتهيئة نفس، وحسن تدبير، لمواجهة أي طارئ وإن سالت منه الدماء.
كما أن الأمير مانعًا اختار عقب عودته أن يستقل في جزء من الأرض لا تعود ملكيته لأحد من قبله دفعًا لأي دعوى أو منافسة، وأيًا كان هذا قراره أم رأي ابن عمه الذي وجد في نفس مانع القبول والإقبال، فهو يدل على توجه مبكر نحو الاستقلال، ففي ذلكم الزمن، وتلك الديار، يبدأ نشأة المدينة الدولة بمثل هذه الطريقة، ولست بمغرب لو اعتقدت أن مانعًا قد أدرك هذه الطبيعة فيما حوله من بلدات وأسر، وأراد أن يصنع لنفسه وأسرته هذه المدينة المستقلة ولو بعد حين، وحتى لو كان الهدف المراد سيتم على يد ذريته القريبة أو البعيدة، وهو عين ما حدث.
لأجل ذلك أقام الأمير مانع بلدته الجديدة في المكانين اللذين وهبا له، وهما المليبيد وغصيبة، وأسمى بلدته الجديدة “الدرعية”، ولا يهم كثيرًا إن كانت التسمية على بلدتهم القديمة في شرق الجزيرة العربية، أو إكرامًا لابن عمه ابن درع، فكلا الوجهين يدلان على الوفاء، ويشيران إلى أن التسمية تحمل في داخلها إرادة التميز، ونية التأسيس، والإصرار على الاستقلال، ومن أسمى شيئًا ففي الغالب يسبق التسمية بتصور وخيال غدا فيما بعد واقعًا معلومًا ومشاهدًا.
ومن المؤكد أن الأمير مانع المريدي حينما استقر في هذا المكان قد جلب معه أسرته وبعض أقاربه وعزوة يتقوى بهم؛ حتى يضمن لفكرته الأمن والسلامة، وكي يتدرج في المضي صوب المأمول رويدًا رويدًا. ولم يتوان من فوره عن التوسع بالعمران وأسبابه، والسعي الحثيث لضبط المدينة الجديدة، وجعلها محط أنظار الراغبين بالاستقرار، وموقفًا لقوافل الحج والتجارة. ولم تغفل ذرية الأمير عن مبتغى أبيها الكبير؛ فتناسلت وزادت أعدادها، وإنما النصر والغلبة والعزة لمكاثر بعد تمكين الله ونصره.
لقد بذر الأمير مانع المريدي البذرة الأولى لفكرة الدولة، وسار لأجلها سيرًا حثيثًا مرة، ومكيثًا مرة أخرى، وتعاهد بنوه وحفدته هذا الغرس حتى تصاعد من تحت الأرض وظهر للوجود، واستمر في الارتفاع فوق الأرض، والارتقاء نحو المعالي، مع بقاء الرسوخ والثبات في الجذور والمنابت، حتى وصلت الأمانة للحفيد السابع الإمام محمد بن سعود سنة (1139=1727م)، فأقام الفكرة التي كانت في ذهن جده الأمير مانع على الأرض بتأسيس دولة مضى من عمرها ثلاثة قرون تقريبًا وهي لم تبرح حدودها لمسافات بعيدة، فجعلها الحفيد المؤسس دولة ناشئة ماضية منذ ابتدأها، ومستمرة طوال ثلاثة قرون من التأسيس، والاتساع، والعمران والاستقرار، والحمدلله.
وأصبحت الأسرة الملكية السعودية العريقة تحكم اليوم، وخلال ثلاثمئة عام مضت، منطقة كبيرة من جزيرة العرب ومأرز الإسلام، وقد تعمقت صلتها بالدار وأهلها حتى قامت ثلاث مرات بعد سقوطين في واقعة نادرة الحدوث. ولم تنمح من ذاكرة أسرة آل سعود، ولا من ذاكرتنا الوطنية، تلك اللمحات السيرية للأمير مانع المحفوظة بالتوارث الشفهي أو المكتوب على ندرته، ولأجل ذلك خلد اسم الجد المؤسس الأول الأمير مانع المريدي، وبقيت الأجزاء اليسيرة المتداولة من سيرته، وهي على قلة ما تحوي تنبيء عن شخصية أمير بصير مقدام موفق، وسوف تظل هذه السيرة حاضرة حتى وإن اختفى اسم صاحبها من شجرة الأسرة الملكية في الأزمنة المتأخرة، مع أنه ما من مانع في أن يعود إلى الشجرة العريقة من جديد مانع!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 18 من شهرِ شعبان عام 1445
28 من شهر فبراير عام 2024م