سير وأعلام

هذه وتلك شهادتي!

هذه وتلك شهادتي!

كنت قد فرغت للتو من أداء صلاة العصر في يوم إجازة أسبوعية، حينما وردني اتصال من رقم لا أعرفه، وأنا مع الاتصالات الهاتفية مثل ذلكم الشاعر العربي القديم الذي يأنس لعواء الذئب، ويكاد أن ينخلع قلبه من صوت الإنسان! وهذا الشعور لا عن ذنب، ولا خوفًا من شيء، لكن السلامة مع وضع السكون آكد، وخمول صوت الرنين أدعى للراحة.

ثمّ بعد السلام والتعريف، علمت عن برنامج يستهدف عرض السير الذاتية عرضًا مرئيًا، وأنه سوف يبث على القناة الثقافية، وهي قناة حديثة التشغيل عن طريق وزارة الثقافة. وقيل لي بأني حال موافقتي سأكون الضيف الدائم في حلقات البرنامج خلال موسمه الأول، بعد إجراء بعض الاعتمادات الرسمية. وعقب الإجابة عن بعض الأسئلة التي ذكرتها، وافقت على المشاركة.

ومما علمته أن اسم البرنامج المقصود “تلك شهادتي”، وهو اسم يعبر عن مضمون البرنامج؛ فلا بد أن يكون للشخصية المتحدث عنها مادة يخبر بها عن نفسه، وقد تكون هذه المادة سيرة ذاتية مكتوبة، ولا شيء يمنع من الاتكاء على مواد منشورة بطريقة أو أخرى، كي لا يحجر البرنامج واسعًا في المستقبل، فبعض الأعلام لم يكتب لكنه تكلّم أو روي عنه من عارفيه ومعاصريه.

كما عرفت أن البرنامج سوف يستخدم تقنيات عديدة لإثراء حلقاته، فغير الاستضافة، والمادة المعدّة سلفًا، سوف ينشر “تلك شهادتي” مقاطع سمعية أو مرئية لصاحب السيرة نادرة أو غير مسبوقة، وسيعمد للاستعانة بأرشيف من الصور الثابتة والمتحركة التي تصف المكان الذي عاش فيه فارس الحلقة كما هو بالضبط، وتنقل لمحات عن بعض الوقائع المهمة في سيرته، وسيكون الرسم الوسيلة الأخيرة لإكمال النواقص، وسدّ أي ثغرة في المحتوى المشاهد.

ولتوثيق السير عبر برامج مرئية أكثر من فائدة، منها:

  1. تمتين التجارب ونقل الخبرات وإفادة الأجيال.
  2. وسيلة تثقيفية سريعة ومباشرة، ويسهل الوصول إليها.
  3. مادة تجعل الشاشة ممتعة ومفيدة في آن واحد.
  4. فرصة للإفادة من الوقت خلال السفر أو الطرق الطويلة أو الانتظار.
  5. زيادة المحتوى العربي والمحلي الرزين في المنصات العالمية.
  6. بناء مكتبة سيرية مرئية ليست بديلًا عن المطبوع، وإنما تكمله أو تشوق له أو تحول دون الجهل التام به.

وقد سعى فريق البرنامج إلى اعتماد سياسة التنوع في الشخصيات التي سوف يروي شهادتها، وهذا من محاسن “تلك شهادتي”، وينفي عنه الملل أو التحيز لأيّ سبب، وهو عامل جذب للجمهور الذي قلّما يتفق على شيء واحد، ومن المهنية والتركيز أن أسندت كتابة مادة كل حلقة لمن يشارك صاحبها في التخصص والاهتمام. أما المعايير التي حكمت اختيار شخصيا البرنامج؛ فيمكن باستعراض الحلقات أن نحدد بالاستقراء بعض المعايير مثل:

  1. أن تكون الشخصية مؤثرة في مجالها.
  2. أن يكون قد كتب سيرته الذاتية أو جزءًا منها؛ فعنوان البرنامج واسمه حاكم على مضمونه بأنها شهادة صاحب السيرة نفسه.
  3. أن يوجد للشخصية محفوظات مرئية أو سمعية يمكن الوصول إليها لاستحياء تراثه.
  4. أن يكون في الحلقة إمكانية لإثراء المشاهد، واطلاع الجمهور العريض المستهدف على شيء جديد.
  5. التنوع في الزمان، والمكان، والاهتمام، لشخصيات البرنامج التي ترحّل غالبها عن الحياة.

أما الشخصيات السعودية التي أعيد الحديث عنها في البرنامج، ففيها توثيق لمراحل تاريخية مرتبطة بالمجتمع وتطور الدولة، وتحمل رسالة داخلية لجيل رؤية المملكة (2030)، ولمواطني المملكة عامة، وفحوى الرسالة أن أولئك النابغين من آبائي السالفين، وجزء من أمجاد البلاد وتاريخ نهضتها؛ ولذلك فعلى هذا الجيل مسؤولية خلاصتها أن يبحث عن سيرهم وسير غيرهم من النبلاء الأماجد، ويستفيد منها قدر وسعه، فمجتمعنا عريق بماضيه وحاضره ومستقبله.

كذلك فيها إيصال خبر إنساننا السعودي لأبناء البلدان العربية الذين لا يستطيعون الحصول على الكتب، أو يصعب عليهم القراءة الطويلة وهي علّة عامة، ومن ظلال هذا الخبر أننا قوم متصالحون مع ذواتنا، ومع ماضينا الجميل على ما فيه من نقص لم يسلم منه مجتمع البتة. وسيغدو البرنامج فرصة لتصحيح نظرة بعض الإخوة العرب لنا، وهذا التصحيح شفقة عليهم ولأجلهم بالدرجة الأولى؛ لأن انتقاص المجتمع السعودي انتقاص للعرب قاطبة، وحطٌّ من مستوى العراقة لدى أيّ فرد عربي يتجاوز أو يتعالى، فينال من موئل أصله وأساس عرقه، ومنبع دينه ومأرزه، ومستودع تاريخه وقوميته، ومنبعث لغته وحضارته.

ولأن الاعتراف بالفضل واجب يتجاوز مجرد الوقوف عند مقتضى المروءة، فقد اجتهد فريق الإعداد الموفق في بناء مادة البرنامج، ورجع لمصادر أصلية وثيقة الصلة بصاحب السيرة، ثمّ بحث بحثًا بمرتبة النبش والتفتيش عن أيّ مادة مسموعة أو مرئية، حتى ظفر بقسم لم يعرض أو لم ينتشر سلفًا، وظهر هذا جليًا في حلقات الكرام الشيخ يوسف ياسين، ود.عمر فروخ، ود.عبدالرحمن الشبيلي، الذين تفاعلت أسرهم الوفية مع فكرة البرنامج، ولم تبخل بما لديها.

لأجل ذلك لا يمكن الغفلة عن ملمح ظاهر في البرنامج، إذ عرض لشخصيات لا يوجد عنها أيّ مادة مرئية عربية مثل الدكتور فروخ، والشاعر سيميك. وتناول زوايا جديدة أو غير مطروقة في سير شخصيات أخرى مثل الشيخ يوسف ياسين الذي نقله الملك عبدالعزيز من الكتابة إلى السياسة، ولفت النظر إلى سير نادرة مثل سيرة الرئيس الكوري ميونج باك، والممثل العالمي شابلن، واحتفى بسيرة محمد أسد متجاوزًا الملحوظات عليها، وهذه الشخصيات التي لا ينتمي أكثرها للسعودية، دليل على انفتاحنا المنضبط، وإنصافنا لمن يستحق.

أيضًا أضاف “تلك شهادتي” مقاطع مرئية تحوي عبق التاريخ عن المدينة النبوية، ونجد القديمة، وطرق الرحالة في الجزيرة العربية، وأحداث الحروب العالمية، وبدايات إعلامية وفنية وتعليمية، وهي مشاهد تنعش ذاكرة المشاهد المسن والخبير، وتوقف الشاب الغضّ، وحديث الارتباط بالثقافة، على معالم ليس له بأكثرها عهد. وفي كل الأحوال سوف يجزم المشاهد أن فريق الأعداد البارع نجح بالتفرد والسبق في النقل أو التحليل في جلّ الحلْقات، وجزء مما مضى في هذا المقال، كان محور حديثي في برنامج “مساء الثقافية” بعد ختام حلقات موسم “تلك شهادتي” الأول.

طبعًا سيثور سؤال مشروع عمّا يؤخذ على البرنامج في نسخته الأولى، ولن يخلو عمل بشري من ملحظ، فمن الملاحظات أن بعض الشخصيات تكرر الحديث عنها كثيرًا، ومع صحة هذا الإيراد إلّا أن وجود مادة جديدة يضفي على التكرار وجاهة، وفي النسخ المقبلة فسحة للحديث عن آخرين. ومنها اختيار موعد العرض الأول بعد العشاء من يوم الجمعة، وغالب الناس في اجتماعات بعيدة عن الشاشة آنذاك، وأظنّ أن جعل الموعد في ليلة يوم العمل الأول من كل أسبوع أفضل وأنفع، والله يبارك في جهود أيّ عامل مخلص متقن محسن؛ فما على المحسنين من سبيل!

 أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 25 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1445

07 من شهر يناير عام 2024م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)