سير وأعلام

ابن سعدي ولمحات ناضرة باسقة

ابن سعدي ولمحات ناضرة باسقة

العلماء زينة لزمانهم ومكانهم وأجيالهم، وحين يرتبط العلم بالشريعة فهو أسمى وأرقى، وإذا كان العالم ربانيًا مخلصًا فحينها لا تنتظر العلم فقط، ولا العمل معه فقط، ولا السمت معهما كذلك دون غيرها، بل انتظر العلم، والعمل، والسمت، وفيوض الفتوح والإلهام، والأثر المبارك الباقي عظيم النفع سواء منه المسطور، أو المحفوظ في الصدور، أو المتوارث عبر مدرسة علمية وفية لشيخها ومنهجه وفقهه، وحرية بأن يُكتب لها الخلود والانتشار.

وفي المملكة العربية السعودية -وما يتبعها مجتمعيًا- مدارس علم، وجوامع درس وتخريج، وحواضر تحتضن مسيرة علمية عليّة، ونجد هذه الجوامع والحواضر في الحرمين وجوارهما، وفي الأحساء، وجازان، وعنيزة، وبريدة، وسدير والمجمعة، والزُّبير، وأشيقر وشقراء، وحائل، وفي الدرعية ثمّ الرياض. كما أن لمعاقل العلم حضورًا ظاهرًا وتاريخًا شامخًا في بقية أنحاء الجزيرة العربية مثل اليمن وعمان وبعض بلدان الخليج، ومن المؤكد وجود علماء وأعلام في أماكن أخرى، لكننا نتحدث هنا عن الشهرة والكثرة فقط، وإلّا ففي كلّ البقاع أخيار فضلاء بررة.

لذا فهاهنا تطواف عاجل على بعض اللمحات من سيرة إمام كبير، وعالم متفنن نحرير، شهد له الناس بذلك في حياته، واستيقنوا من عظمته أكثر بعد وفاته، حتى كتبت عنه فصول ودراسات وكتب، وعقدت حوله مؤتمرات ولقاءات، ونوقشت رسائل الدراسات العليا في شيء من علومه وآثاره، ومن غير المستبعد أن يسطع نجمه أكثر بامتداد الزمان والمكان، ويعلو اسمه أزيد مما كان، فقد سمعت بأذني زبائن معرض كتاب دولي يبحثون بلهفة عن مؤلفاته بالتحديد، وبعضهم من بلاد تضيق بعلوم الوحيين المقدسين علانية بلا مواربة ولا حياء، بل إن جماعة المسجد المجاور لمنزل د.عبدالرحمن الشبيلي في باريس يسألون عنه شخصيًا، وجلّهم من عامة مسلمي دول إفريقيا عربًا كانوا أم غير عرب.

ولد الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (1307-1376=1889-1957م) ونشأ، وتعلّم، وعلّم، وعاش واشتهر، وهو لما يبرح بلدته النجيبة المنجبة عنيزة، وهي من مدن القصيم إحدى مناطق وسط السعودية الواقعة شمال عاصمتها الرياض، ومع ذلك نال الشيخ مكانته الرفيعة حتى مع بعد بلدته النسبي عن العاصمة والحرمين الشريفين، وفي زمن لم يكن للإعلام سطوته كما هو حالنا اليوم، وإن السر الذي يقف خلف ذيوع اسمه لسر خفي، بيد أنه يمكن لنا حصر ملامح من سيرة إمامنا ناضرة المشهد، باسقة العلو، وسوف تأتي تباعًا دون أن يكون للترتيب علاقة بالأهمية.

فأول أمر يلفت النظر في سيرة ابن سعدي هو تلك العلاقة المجتمعية المتينة للشيخ مع عنيزة وأهلها، حتى أطبق على محبته الناس من الشرائح كافة، فهو محبوب عند العامي، ومسموع الكلمة لدى الأمير عبدالله الخالد السليم، وخلفه الأمير خالد ابن الأمير عبدالعزيز العبدالله السليم. وقد تجلّت مكانته في وقائع كثيرة يجيء على رأسها فيما أحسب أربعة أحداث مهمة للغاية، أولها حينما طُلب الشيخ إلى الرياض للمناقشة العلمية؛ فأرسل معه أمير عنيزة وفدًا مرافقًا، وسهل له سبل السفر، وتفاعل الناس مع الخبر حتى حثوا التراب على دكاكين بعض من يظُن أن لهم يدًا في الوشاية أو الفرح بما جرى له.

وثانيها لما طلب الشيخ المشاركة العامة في إعادة إعمار جامع عنيزة؛ فتنافس الوزير ابن سليمان وأثرياء البلدة بأموالهم وعلاقاتهم مع فقراء عنيزة الذين أحضر بعضهم حفنات من تراب أو رماد للإسهام في البناء حسبما يطيقون. وثالثها عندما توفي الشيخ السعدي فخرجت عنيزة واجمة حزينة على رحيل حبرها الأعظم، وإمام جامعها، وبكته الحرائر في البيوت، واجتمع أكابر البلدة يتحاورون في البحث عمن يخلّف الشيخ الذي خلى مكانه فرقًا من هذا الفراغ الموحش. ورابعها أن سيرة الشيخ طرية عذبة متداولة بين شبان عنيزة وفتيانها الذي جاءوا إلى الدنيا بعد عقود من وفاة ابن سعدي؛ حتى كأنهم قد جالسوه وعاينوه، ونهلوا من أدبه وعلمه.

كما كان للشيخ هيبة في النفوس وجلال في العيون؛ بيد أن هذه المهابة والجلالة لم تمنعه من الحديث إلى الأطفال الصغار، ودعوتهم إلى قهوته، ومشاركتهم في الجلوس من باب التودد إليهم، وممازحتهم، وإهدائهم شيئًا من الحلوى التي يحملها معه كلما عبر بهم في طريقه من الجامع وإليه. ويُروى عن أحد مثقفي عنيزة الكبار أن أول تفاحة رآها في حياته كانت هدية من ابن سعدي، وفي سيرة الشيخ مواقف تُساق مع ظلالها الجميل، وقد وقعت للشيخ مع طفل تفوه بكلمة علنية محرجة في المسجد، ومع حمّال أضاع علبة سجائره، ومع آخرين، وحتى يتضح بهاء هذا الملمح نقارن مع غيره؛ فبعضهم لو قرأ كتابًا واحدًا أو متنًا قصيرًا، فربما تشامخ وتعاظم وناء بوجهه!

وبناء على هذه العلاقة المجتمعية المتداخلة أبى العالم الكبير قبول منصب القضاء بين أهل بلدته، وجفل من هذا الخبر حتى غادر عنيزة إلى مكة وقد ركبه الهم؛ فإن نصف الناس أعداء لمن ولي القضاء هذا إن عدل كما قال شاعرنا وصدق! وهذا غير المسؤولية الأخروية، فضلًا عما لدى شيخنا نحو مجتمعه من غايات إصلاحية وتعليمية قد لا تعينه عليها وظيفة القضاء في بلدة مترابطة كثيرة المجالس والديوانيات مثل عنيزة، وربما أن قبول منصب القضاء مدعاة للتنقل بين الديار، والتحول عن المرابع وأهلها، وهو الفراق الذي لم يرده الشيخ، ولا يطيق عنه أهل عنيزة صبرًا.

مع ذلك فإن الشيخ بما جُعل له في القلوب من محبة، قد انتقل -وهو المستقر في عنيزة- مع تجار بلدته وطلاب العلم المرتحلين منها إلى أصقاع المعمورة، ومن المحتمل أن اسم ابن سعدي طرق الآذان من خلال أولئك التجار الذين جابوا الدنيا شرقًا وغربًا مع قوافل العقيلات في العراق والشام ومصر والهند، أو في رحلات أهل عنيزة صوب الخليج والزُّبير. كما أن عنيزة كانت تقع في بعض طرق الحج، وهي مقصد من قبل القادمين للمملكة من الخليج والعراق والشام، ولبعضهم صلة بابن سعدي، مثل العالم الكبير الشيخ الشنقيطي أحد مؤسسي مدرسة النجاة الأهلية بالزُّبير الذي أفاد الشيخ من طريقته التدريسية بما لم يُعهد قبله، سواء بمستوى المناقشة وتحريك الذهن، أو تفتيح أبواب السؤال، وتقريب المعلومة، وتغليط النفس لإثارة الانتباه، واختبار مستوى متابعة الطلبة.

كما كان للشيخ عبدالرحمن صلات بعلماء ومفكرين في أنحاء العالم الإسلامي، وقد تعرف إليهم وتعرفوا إليه عبر المراسلة، وقراءة الكتب أو المجلات، وبواسطة أهل عنيزة الآفاقيين، هذا غير ما يكون في مواسم الحج الذي من بركاته التقاء أهل الذكر والعلم والعمل. وربما أن الشيخ أفاد من علاقات أشياخه العابرة للحدود، ومنهم قاضي عنيزة الكبير الشيخ صالح بن عثمان القاضي (1282-1351=1865-1932م) الذي درس في نجد والحجاز والجامع الأزهر، وله فيها أشياخ وأقران، ولربما أن هذه السعة مع حب الانصاف والتعاذر، قد جعلته نصيرًا لأشياخ وأساتذة قدموا من الأزهر للتدريس في عنيزة، حينما ضاق بهم ذرعًا آخرون بناء على اجتهادهم.

كذلك من سبل الانتشار التي تظهر في سيرة الشيخ ابن سعدي، كثرة المكاتبات والمؤلفات، وطباعة الكتب التي لم تكن ممكنة آنذاك إلّا في الشام أو مصر على وجه الخصوص، ومثله شراء الكتب والمخطوطات، فالشيخ متقدم في الكتابة والتأليف على كثير من أهل عصره، حتى بلغت مؤلفاته أكثر من خمسين كتابًا، وهذه الكتب تحتاج في تأليفها لمراجع تستجلب من الحواضر العلمية الأشهر، ولا بد في طباعتها ومراجعتها من التواصل مع القاهرة ودمشق وبغداد. والشيء بالشيء يذكر؛ إذ عكف الشيخ على التأليف والكتابة مع انتفاء ما يجده أهل عصرنا من يسر في الوصول للمعلومات وكثرة الأعوان بمقابل، وكتب بخط يده، في مكان ضيق محدود، دون أن يتحجج بالبحث عن مكان أنيق، وأضواء منيرة، وقهوة ساخنة مع تغريد أطيار!

يضاف إلى ذلك أن الشيخ لم يقطع الصلة مع طلابه وإن ابتعدوا، وفي مراسلاته مع تلميذه الشيخ ابن عقيل دليل على مسلكه الحكيم هذا. وبما أننا وصلنا إلى هنا فلا بأس من الإشارة إلى أن المنهج التعليمي لدى الشيخ متميز جدًا في الاستدلال والاستنباط وتحريك العقل دون تقديمه على صريح النقل الصحيح. ومنه ذكر الخلاف والأقوال مع بيان الأدلة وما يراه الشيخ مبرئًا لذمته، وهذه السمة المنهجية لم تكن شائعة في نجد حتى استغربها بعض طلبة العلم من ابن سعدي، وربما ناله شيء من سهام طائشة اجتهادًا أو حسدًا، وهذا لا ينقص من قيمة الشيخ وقدره، وهو القدر الرفيع الذي جعل أحد أكابر علماء البلاد يقول عنه فيما يُشاع: لم يظهر في نجد خلال عدة قرون عالم فقيه مثله، ولقد حسدوه! ومع ذلك نال الشيخ منزلة عالية حتى قال له الملك عبدالعزيز -فيما يُروى-: إنك اليوم لدينا مكين أمين!

وقد ارتبط الشيخ ابن سعدي بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وبتراثهما العلمي العميق، دون أن يعتقد لها الصواب الدائم، أو ينفي عنها احتمالية السهو أو الخطأ، وهي سمة نفت التعصب المقيت عن الشيخ ومدرسته حتى غدت مقبولة لدى المخالف العاقل قبل الموافق المقبل؛ فمن لم يقتنع بمذهب ابن سعدي، فسوف يبقى موقرًا للطريقة العلمية المتبعة، ولجمال الأسلوب واللفظ والحوار. ولعلّ أحد أسباب هذا المنهج السعدي بعد توفيق الله له، أنه درس على عدة أشياخ تلقوا العلم في نجد والحجاز والعراق ومصر والشام والهند، وبالتالي تأثر تأثرًا حسنًا اتسعت معه آفاقه الفكرية ومداركه العلمية بمزيج فريد؛ هذا غير أن عنيزة من طبيعتها المجتمعية الانطلاق المنضبط، والتوسع الحميد.

لذلك نرى أن هذا الأسلوب الذي وفق إليه الشيخ جمع العلم مع الأدب، والرسوخ في الموقف دون مصادمة متعمدة، حتى مع إعلان الحق الذي يعتقده بلا مواربة، لكن دون مخاشنة وإغلاظ كما في آرائه عن بعض من زاغ وانحرف من علماء ومفكرين. وقد بدت هذه المحاسن في تفسيره الذي كتب له الذيوع والانتشار، وهو تفسير كامل للقرآن الكريم لم يُسبق بمثله من حنابلة نجد المنصرفين لكتب العقيدة أو الفقه، وهذه يد للشيخ على البلاد وعلمائها مثلما قال الشيخ بكر أبو زيد آل غيهب، إذ جمع التفسير الاختصار، والبيان الواضح، والنفائس الإيمانية، والفرائد العلمية.

ومن فضل الله أن تزايدت في السنوات الخيرة العناية بالقرآن وعلومه الكثيرة في بلادنا إن في المساجد أو بالتعليم العام والجامعي والعالي، حتى أصبح لدينا أكبر مجمع لطباعة المصحف الشريف وما يختصّ به، وصارت تلاوات الحرمين الشريفين مسموعة عبر منصات كثيرة، ومقلّدة من أئمة وقراء في بلدان من علومها الإقراء والقراءات والتفسير، وهي العلوم التي برع فيها مؤخرًا عدد من الأئمة والعلماء والقراء والحفاظ السعوديين مثل الشيخ د.علي الحذيفي وغيره كثر، وهذا استطراد اقتضاه الحديث عن تفسير ابن سعدي.

ثمّ كان من نعم الله على الشيخ الجليل أنه لم يكتف بالحضور المجتمعي، والخطابة والإفتاء في الجامع، أو التأليف والمكاتبة، وتكوين المكتبة واستجلاب الكتب والمخطوطات لها بواسطة تجار عنيزة، ومساندة مدرسة المربي ابن صالح، وإنما وقف عمره وجهد على التعليم والتدريس وتربية الطلبة، في فنون عديدة، ومستويات مختلفة، حتى تخرجت على يديه جموع غفيرة من العلماء الأكابر المشاهير، والقضاة الأعلام، مثل المشايخ العثيمين، والعقيل، والبسام، وغيرهم، وإنها لمدرسة قائمة مستمرة في عنيزة إلى يومنا، وسيكون لها اسم رفيع في التاريخ العلمي لأمتنا وحضارتنا وبلادنا.

ومما يلفت النظر أن الشيخ الفقيه محمد بن صالح بن عثيمين (1347-1421=1929-2001م) هو أحد أبرز طلبة المدرسة السعدية، وأبعدهم شهرة وتأثيرًا، وله مؤلفات كثيرة مثل شيخه، وطريقة بديعة في التعليم والتدريس على نهج شيخه كذلك، إضافة إلى طلبة، ودروس، وخطب، وفتاوى، ومحاضرات، ومشاركات مجتمعية، ومحبة في القلوب، فكأنه واصل حمل منهج شيخه تمامًا. وبعد وفاة الشيخ ابن عثيمين أقام له البررة من الأبناء والطلاب مؤسسة علمية شامخة، حافظت على إرثه وعلومه، وفوق ذلك شاركت بالمحافظة على التراث العلمي لابن سعدي من خلال جهود ورقية ورقمية، فمن أراد الوصول لعلوم الشيخين، وفتاويهما، فيمكنه بلوغ مناه عبر جهاز مهما صغر حجمه، وذلكم الفضل من الله الكبير المتعال، وعسى أن يكون صنيع هذه المدرسة الجميل قدوة لطلبة علماء كبار آخرين ولأبنائهم.

إن الشيخ عبدالرحمن الناصر السعدي، العالم الفقيه المفسر الأصولي، والعابد المتأله المتبع للسنة في أدق شؤونه، لمثال باسق نضر على العالم الرباني الزاهد، ومثال على صاحب التأثير المجتمعي النبيل، وحسن التعامل في المنزل حتى كفى أهله مؤنة خدمته. وما أجدر أجيال المسلمين بمعرفته، والوقوف على علومه ومنهجه، بما فيها من رسوخ متين، ووضوح باهر خال من التعقيد، وفقه ثابت الأصول مع مراعاة لوازم المقاصد، وسبق للعصر ببعض الآراء والفتاوى، مع النأي عن التميع والاعتساف والتعسير، إضافة إلى ما اشتهر به من عبادة دائمة، وزهد حقيقي في مغريات الدنيا، وجمال صحبة، ولطف معشر وأحدوثة، وسداد طريقة في التعليم والحياة، واستقلالية لا تنقاد لغير حق معتقد، أو مصلحة معتبرة، أو نظم مرعية.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 06 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1445

19 من شهر ديسمبر عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. مولانا حراااام هذه النفائس حبيسة الأنترنت وإن كانت قراءتها ستكون أكثر بحكم تيسر ذلك لأقصي القراء بعدا لكن ما أجمل الكتاب حين يضم مثل هذا المعلقات والتي لا أقول مقالات تنزيها لها عن كثير مما يوصف با المقالات وهو أقرب للسخافات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)