أوليات تركي الأول!
مع أن السنوات التي عاشها الأمير تركي الأول بن عبدالعزيز (1313 أو 1318-1337=1896 أو 1900-1918م) كانت قصيرة بالقياس لغيره، إلّا أن سيرته فيها من المعلومات والدلائل ما هو أغزر من هذه السنوات القليل عددها، وهو ما سنأتي عليه في هذا المقال الذي يجمع بين التعريف والتحليل، ويشير إلى أوليات نالها الأمير تركي حتى مع سرعة تحوله عن الدنيا إلى الله والدار الآخرة.
فأول أمر يعلمه الجميع، هو أن الأمير تركي يُعدّ النجل الأول للملك عبدالعزيز (1293-1373=1876-1953م)، وبه يُكنى، وبناء على هذه الأولية صار الأمير تركي الأول الشقيق الوحيد من أبناء المؤسس للملك سعود (1319-1388=1901-1969م)، ولهما شقيقة واحدة، وغدا تركي بذلك الشقيق الأكبر لأول ملك يحكم البلاد بعد رحيل مؤسسها الملك عبدالعزيز.
وقد أسمى الملك عبدالعزيز وليده الأول على جده الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود مؤسس الدولة الثانية (1183-1249=1769-1834م)، ومسترجع ملك الآباء والأجداد. وفي الابتداء بهذه التسمية دون غيرها يتبدى الإعجاب والاقتداء الملكي بالجد الجسور الشجاع، وفي التسمية إيماءة إلى مركزية ذلكم الاسم في الأسرة الملكية العريقة مع غيره من الأسماء للذكور والإناث، وربما أن الأمير تركي هو أول من حمل اسم “تركي” من أحفاد الإمام عبدالرحمن الفيصل (1266-1346=1850-1928م)، ومن أوائل من حملوا الاسم من أحفاد جده الثاني.
ثمّ اجتهد الملك عبدالعزيز في تربية نجله البكر علميًا قدر المستطاع، وعمليًا بالتدريب على الفروسية وركوب الخيل التي أحبها تركي وملك إسطبلًا خاصًا له، وأجاد التعامل معها على الأرض، أو حين يعلو فوقها للقتال والصيد. ومن صنوف التربية العملية المشاركة الحضورية في المعارك للمتابعة وعيش الأجواء الجالبة لقوة القلب والبأس، والاشتراك الفعلي في غزوات مهمة لتوحيد البلاد، وجرت هذه الوقائع في وسط المملكة وشرقها وشمالها. وأسند إليه والده عدة أعمال حربية وعسكرية خطيرة مستقلًا بها، ولو لم يكن لها أهلًا لما جازف الملك الحصيف بمشروعه الكبير، ولما ألقى بنجله الأكبر في دروب المهالك المخيفة.
لذلك فالأمير تركي هو أول المشاركين من أنجال الملك عبدالعزيز في حروب التوحيد والتكوين، وقد شارك من أبناء الملك عبدالعزيز ثمانية في هذه الملحمة وهم على التوالي حسب العمر نقلًا عن حساب تاريخ آل سعود: الأمير تركي، والملك سعود، والملك فيصل، والأمير محمد، والملك خالد، والأمير ناصر، والأمير سعد، والأمير منصور. ومن اللافت أن الأميرين تركي ومنصور (1336-1370=1918-1951) قد أدركتهما المنية في عهد والدهما وحياته، وصارا في ميزان حسناته باحتسابهما عند الله، وعليه فالأمير تركي هو أول أبناء المؤسس وفاة بعد البلوغ والزواج.
هذا الزواج هو الذي صيّر الأمير تركي أبًا لأول حفيد للملك المؤسس، وهو الأمير فيصل بن تركي الأول (1337-1388=1918-1968م) الذي ولد في آخر أيام والده، أو بعد وفاته بمدة يسيرة. وهذا الحفيد يكبر عددًا من أعمامه بالسن، وهو أكبر من بعضهم بثلث قرن! وهو طويل جدًا بل فارع الطول كما يُروى عن “فلبي”، ومثلما تظهره الصور المتوافرة. وقد تيتم الأمير فيصل مبكرًا؛ فتولى تربيته جده الملك عبدالعزيز، وعمه الملك سعود، ومن حرص الجد عليه، وحنانه به، أن أرسله للبصرة عند وكلائه من آل المنديل في رحلة سياحية تعليمية، فاستقبله الوزير الشيخ عبداللطيف باشا المنديل، وأحسن وفادته، كي يدخل البهجة على قلب الحفيد والجد من شدة ولاء آل المنديل الكرام للدولة وحكامها؛ إذ كانوا منذ القدم وكلاء لأئمة الدولة السعودية في الزُّبير والعراق وغيرهما.
وفيما بعد أصبح الأمير فيصل بن تركي الأول أول وزير للعمل والشؤون الاجتماعية، علمًا أنه ثالث حفيد للملك عبدالعزيز يعين وزيرًا وعضوًا في مجلس الوزراء بعد الأميرين عبدالله الفيصل وفهد بن سعود، وبعد هذه الوزارة أسندت إليه وزارة الداخلية مدة غير طويلة، وخلفه عليها عمه الأمير عبدالمحسن. ومما يجدر التنبيه إليه أن الأمير فيصل هو النجل الوحيد الباقي لوالده مع أخته الأميرة حصة بعد وفاة بقية ذرية تركي صغارًا، ولذلك فإن فرع الأمير تركي من ذرية الملك عبدالعزيز متقدم في السن على من يماثلونه في الطبقة من عمود النسب غالبًا، وهذا الفرع متسلسل من الأمير فيصل بن تركي فقط.
كذلك يتجلّى لنا بوضوح أن موضوع تسمية الأولاد مهم لدى الأسر العريقة، وله قيمته ومدلوله؛ فقد بادر الأمير تركي لإطلاق اسم فيصل على نجله كي يحمل اسمًا مماثلًا لاسم جده الإمام فيصل بن تركي (1202-1282=1788-1865م)، فهذا الإمام من عظماء تاريخنا. وعندما توفي تركي الأول، أعاد والده التسمية على الجد صاحب السيف الأجرب، واختاره لنجله الحادي والعشرين الأمير تركي الثاني (1351-1438=1932-2016م)، ومن الموافقات أن تدرك المنية تركي الثاني بعد مئة عام من وفاة أخيه تركي الأول، غفر الله للجميع ورحمهم.
والذي يبدو أن الملك عبدالعزيز -وهو البصير بالرجال- كان يتوسم في ابنه الكبير القيادة والزعامة والفروسية، ولذا صدّره في عدة مواضع، وتحدث عنه في مراسلاته مع أجانب وغيرهم، وحرص على أن يقابل تركي المبعوثين الغربيين، ويتعرف إليهم، ويتعرفوا عليه، ويلتصق بوالده في بعض اللقاءات والمفاوضات والمجالس التي يحضرها رؤوس الناس، وهذا نوع من الإعداد والتهيئة المبكرة، وربما أراد الملك أن يكون تركي مساعدًا له في تربية إخوانه الأصغر، وتمكينهم بعد تدريبهم.
لأجل ذلك جعله والده أميرًا على حامية عسكرية في منطقة القصيم الإستراتيجية والمهمة إنسانًا وأرضًا وموقعًا، واختاره ليكون نائبًا عنه فيها، حتى مع وجود أمير إداري، وربما أنه أول أمير من ذرية المؤسس يعين على منطقة حتى لو كانت إمارة على حامية، ويشاء الله أن يصبح أحد أحفاده في أيامنا هذه نائبًا لأمير القصيم، وهو الأمير فهد بن تركي بن فيصل بن تركي بن عبدالعزيز، وذلك بعد قرن وربع القرن من إمارة جده. وذكر “فلبي” أنه قابل الأمير تركي مع آخرين في مزرعة العقيلي الوجيه الشيخ منصور بن رميح في بريدة، وأثنى على نبل الأمير وفروسيته، ونقل رغبته في زيارة مصر والعراق، ولاحظ أن الأمير يتعمد الاختفاء عن الأنظار إذا جاء والده الملك عبدالعزيز إلى بريدة إجلالًا له.
ومما يذكر عن الأمير تركي إبان إمارته للقصيم إدراكه لتاريخ المنطقة، وأماكنها، وللأوضاع في حائل، ومعرفته بالأسر القصيمية، وحسن اصطفائه للرجال بعد تفرسه فيهم، ومن هذا الباب استعماله للشيخ عبدالعزيز العبدالله الصقير ليكون رسولًا له مع تجار القصيم في الكويت، وفيما بعد ظهرت في أبي سعود مواهب رجل الدولة الخبير، والسفير الرشيد النحرير، حتى عظم في عين الملك عبدالعزيز وأبنائه.
لكن إرادة الله غالبة، وأقداره تسبق تدابير البشر ومرادهم، إذ دهمت الإنفلونزا الإسبانية العالم كله، وقتلت خلقًا كثيرًا، واحتسب الناس في الجزيرة العربية عددًا من أهاليهم شهداء من هذا الوباء المبير في “سنة الرحمة”، ومنهم الأمير تركي الأول، الذي أصابه الوباء فلم يمهله، والله يكتب له أعظم الأجر، ولوالديه أجر الفقد والصبر، وجاءت رسائل التعازي فيه للملك عبدالعزيز من ملك بريطانيا وغيره. وقد صدر عن مركز الملك سلمان لدراسة تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها كتاب عنوانه: الأمير تركي الأول بن عبدالعزيز آل سعود، تأليف: وليد بن محمد البشر، وإبراهيم بن عبدالعزيز اليحيى، ولم يتيسر لي الحصول على نسخة منه لنفاد النسخ، وعلى أيّ حال فهو جهد مشكور من المؤلفين لصعوبة البحث، وندرة الرواة والمصادر، ويكفي جمع ما تفرق، وحفظ ما تواتر أو يُروى قبل أن يضيع، فلا تعرف الأجيال عن مثل هذه الشخصية العظيمة سوى اسم طريق نابض بالحياة في عاصمة عصرية كبرى.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 05 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1445
18 من شهر ديسمبر عام 2023م