القانوني أم المحامي؟
الانجفال إلى شيء، والانصراف عن آخر، سنّة ملاحظة في حراك المجتمعات وطبائع البشر، ولها أسبابها المعروفة أحيانًا، والمجهولة في بعض الأحيان. وهذا التصرف -إقبالًا وإدبارًا- يشمل الملبس والمطعم، وطريقة الكلام وأماكن السفر، وتخصصات الدراسة وطرائق المناسبات، بل حتى مع البشر، وفي النهاية يستقر الوضع على حال من النضج يذهب معه الوهج الجاذب الخادع، أو يهوي دونه الجدار الحاجز المانع، فيؤول الأمر إلى الاعتدال ومراعاة المقتضى وتحصيل الصواب، بعد أن ظهر شأنٌ وعلا فجأة، ثمّ غاب واختفى بغتة.
من الأمثلة على ذلك ما يتدافع إليه الطلبة من الجنسين، ومن أجيال مختلفة خلال السنوات الأخيرة لدراسة القانون ابتداء، أو عقب الفراغ من تخصص جامعي آخر. وهذا التوجه في أصله حميد، وفي أساسه مطلوب، وإنما غاية المرام ضبط البوصلة، وتصحيح التصور، كي لا تكون غزارة الإنتاج وتوالي أفواج التخريج سببًا في نشوء مشكلات لم يحتسب لها أحد، أو خفض المستوى المأمول والمدى المرتجى من العلم والفهم، ومن الحكمة الماضية أخذ العبر من التجارب والدروس مما كان؛ بمعرفة كيف حدث، وكيف نمنع تكراره.
فمن أكبر إشكالات بعض دارسي القانون أن فئامًا منهم لا يرون أمامهم سوى المحاماة التي أصبح لها نجوم في وسائل التواصل الاجتماعي، واللقاءات المرئية والمسموعة، والبرامج التدريبية، إضافة إلى حضورهم العدلي في المحاكم واللجان، وحاجة الإدارات القانونية لهم. وربما يتصاحب مع هذا الوهج البراق أحلام الثراء السريع، والأرصدة المتعالية، وهي أحلام لذيذة بالمناسبة؛ بيد أنها تبقى مجرد أحلام تتلاشى تحت مطارق الواقع وحقائقه.
طبعًا هذا الهدف مشروع ولا حرج فيه، وإنما موضع الخلل يكمن في استسهاله، والاكتفاء به دون غيره، أو حصر العلم وفنونه فيه، علمًا أن ممارسة المحاماة هي أحد الأسباب الكبرى وراء هذا التدفق الطلابي نحو التخصص، حتى سالت بهم الأدوية والشعاب أو كادت. ومن عوامل هذا الاستقطاب كذلك أن عددًا من كبار مسؤولي الحكومة، ورموز رجال الدولة، هم ممن درس القانون وتعمق فيه، فمنهم من تعلمه داخل المملكة، أو في مصر، أو واصل الدراسة في هَرفَرد والسُّربون وغيرهما، وهذا سبب وجيه حافز آخر، خاصة مع التصريحات الواضحة بشدة الحاجة للتخصص وأهله الأذكياء، وهي تصريحات من ذوي مناصب عليا لا تُلقي القول جزافًا.
لكن هذه الحاجة الملحة والحقيقية لا تقتصر على المحاماة بمعناها المنحصر في الذهن عند انتزاع الحق أو دفع الدعوى وما يتبعهما من فوز بغنيمة مالية، وإنما تتوسع لتشمل باب الاستشارات الاستباقية على أيّ إجراء كي تحول دون الخلاف أو اللجوء للمحاكم، وهذا نوع من المحاماة الوقائية برع به أحد أكابر المحامين في المملكة وقدمائهم وهو الشيخ الراحل صلاح الحجيلان. ومن جملة الاستشارات وأهمها الحذق في كتابة العقود والاتفاقيات ومراجعتها وحسن صياغتها، وهو قسم مهم وحيوي يقي من شرور وعقابيل كثيرة في المستقبل وعند نشوء الخلاف، وما أسعد الشركات بمستشارها من أرباب القانون الذي يفهم الأنظمة بأنواعها، ويحيط بالتعاميم والقرارات والسوابق، ويتفهم الأحوال، ويحسن الصياغة.
كما أن للقانوني حضور مركزي في مسائل الإفلاس، والامتياز التجاري، والتوثيق، والصلح، والتحكيم، والحوكمة، والتسجيل العقاري، والتدريب القانوني، وتسجيل العلامات التجارية، وحماية الملكية الفكرية، وضبط شروط الواقفين، وتفاصيل أعمال التأمين والتمويل والرياضة، وفي معاملات الأوراق المالية، والفصل في المنازعات كافة، وجميع شؤون الشركات قبل بلوغها إلى عتبة المحاكم، وفي موضوعات الإرث والتخارج والتصفية، وبعض الشؤون الأسرية مثل كتابة المواثيق، والحفاظ على تماسك الأسر وعراقتها.
ومن أجلّ أعمال القانوني المشاركة الأصلية باقتراح الأنظمة والقوانين، وكتابتها، ومراجعتها، والتأكد من حسن صياغتها، ووضوح مقاصدها، وإتقان شرحها وتفسيرها، والإصابة بتكييف الوقائع، والإفادة بالفتاوى القانونية، وهذا عمل يتداخل فيه العقل مع العلم بالشريعة والقانون، والبيان باللغة وفنون الكتابة، والإدراك للواقع والبصيرة بسلوك المجتمع وثقافته وتاريخه ومحركاته وآماله، وإنه لعمل عظيم خطير؛ لأنه يتعلّق بمصالح الناس، وتدبير أعمال الحكومة، وإقامة العدل، ورعاية المصالح العليا والعامة وبعيدة الأمد، وهو ما تعمل عليه هيئة الخبراء في مجلس الوزراء، التي يحفظ تاريخها ويبرز حاضرها أسماء لامعة من رجال القانون مثل الشيخ صالح الحصين، ود.مطلب النفيسة، ود.محمد الجبر، ود.عصام بن سعيد، وأ.محمد العجاجي، ود.عمرو رجب، وأ.بدر الهداب، وأ.خالد آل الشيخ، وغيرهم ممن سيلي زمام الأمر بعدهم؛ لأن المستقبل سيكون لأهل نفاذ البصيرة، وكمال الثقة، ومتين العلم، مع الذكاء والزكاء.
كذلك فمما يطلب من القانوني أن يكون له إسهام مجتمعي من خلال إتاحة خبراته النظامية بقدر ما للكيانات المجتمعية والأهلية، أو المساعدة في تأسيسها وعضوية مجالس إداراتها. ومن مهامه العامة الجليلة الجميلة أن يرفع الوعي الحقوق في المجتمع؛ كي يعرف كل إنسان ما له وما عليه، فيحمي نفسه وحقوقه، ولا يقع في زلل أو يغدو موضع مساءلة، وهذا واجب يزداد مع تتابع صدور الأنظمة الجديدة، أو تحديث القديم منها، وما أكمل المتخصص الذي يكون مباركًا في بيئته، ونافعًا أينما حل، وممن يدافع عن الحق، ويدفع الباطل قدر وسعه وطاقته. ومن مسالك النفع التي يفتح الله بها على القانوني إنشاء مؤسسات أهلية قانونية في أفرع مختلفة، ومن بابتها الانضمام لتجمعات قانونية قائمة ترتقي بأفرادها، وتعين على نقاوة الحقل، واكتمال الأدوات، وزيادة المعارف، وترسيخ أخلاق المهنة والتعامل بها ومعها، وتؤدي خدمات ممكنة ومجانية للضعفة والفقراء.
غير ما سلف؛ فمن الضرورة التأكيد على أن القانوني -أيًا كانت ساحته- هو فرد من مجتمع، وللمجتمع دين وثقافة وحضارة ومكونات وأعراف، وفي المجتمع حكومة سائدة تضبطه وتحكمه، ولها أنظمة ومصالح وأهداف وعلاقات واتفاقيات، وعليه فدوائر القانون لا تخرج عن هذه الأطر والحدود، إنما تزيدها تماسكًا وقوة، وتحرص على إصلاحها والإصلاح بها دومًا، وتجعلها سلّمًا لوأد السفاهة، وتحجيم التفاهة، ونشر العراقة، وبثّ المبادئ العليا؛ فالحصيف الدائر في هذا المجال الخصيب من أهل الاختصاص يسعى إلى الموائمة والبعد عن القفز والجنوح، والتقارب إلى الذي هو خير وأصلح، بما تسود معه مبادئ العدل والأمن والنماء والسلم، وتعلو به الحقوق المرعية للدولة حكومة ومجتمعًا، وللناس جماعات وأفرادًا.
وهذا كله على صعوبته يتأتى من كمال الاستعداد وجديته؛ فلا يكفي الحصول على شهادة، أو قراءة كتب المناهج الجامعية فقط، وإنما هما مثل رخصة البدء في مشوار طويل يستلزم بلوغ الغاية من التأهيل والمكنة، والحرص على الإلمام بالعلوم الشرعية والأدبية والإنسانية المتشابكة مع القانون التي قد تغفل عنها كثير من كليات القانون وأقسامه، ومثلها رفع سقف القدرة على الصياغة والتحرير ونظم الكلام والكتابة القانونية، وإتقان مهارات الحوار والإقناع والحجاج، وإجادة طرق التفكير القانوني الرشيد، بعد النظر في تاريخ القانون ووعي فلسفته، وحفظ مصطلحاته، مع التحلّي بصفات الرزانة والأناة، وسمو اللفظ وبديع المعني، وحسن التوصل للمراد، وهي مطالب غير يسيرة؛ بيد أنها ليست معجزة أو مستحيلة، فمن وضع قدمه على الخطوة الأولى؛ ستكون له الحظوة والفوز كلما قطع الخطى، ومن سار على الدرب الطويل الشاق وصل ولا محالة.
قد يقول قائل: ليس لي بهذا العناء من طائل، ولا فيه لي من جدوى، وإنما غايتي عقد صفقات، وقسمة إرث وتركات، وربما أحيانًا على مذهب البردوني الانتصار للمطلقات! فيجاب عن هذا الرأي بأن أمد الآراء واسع، ومجالها فسيح، وما لا يمكن كله لا يُستهان ببعضه، ومن الطبيعي أن يخالف فيه أقوام مخالفة كلية أو جزئية، ومن الحتمي أن سيعجب به آخرون ويجدون فيه مادة مناسبة للتبني والتطوير، وهذا هو المبتغى مع العذر لغيرهم، عسى أن نبلغ مرحلة الإعذار والإيضاح، فما أبهى الدنيا وأحلاها عندما يتواصل المسير والتجديد تحت سلطان شريعة رب الأرض والسماء التي يحرسها الموفق المسدد ممَن بسط الله له سلطان العلم والقوة والأمر والنهي.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 04 من شهرِ جمادى الأولى عام 1445
18 من شهر نوفمبر عام 2023م
7 Comments
سلمت يمينك على هذا العرض الرائع لاعمال القانوني التي غطى عليها رونق المحاماة واغراءاتها ..
كنت اتمنى الاشاره الى الجوانب الانسانية لاعمال المحامين والقانونيين كونهم يحملون رسالة الحق والوقوف مع الضعيف ..
الاشاره الى مذهب البردوني رحمه اعطاني اشارة سلبية عن عدم الاهتمام بالجوانب الانسانية ..
سلمت يمينك على هذا الابداع النوعي ..
المكرم الأستاذ القانوني عبدالله الناصري:
أشكر لكم القراءة والتعليق، ويسعدني أن راق لكم المقال أو بعضه.
صحيح أن الجانب الفطري “الإنساني” مهم ويستحق الإفراد، ولعل الإشارة للجوانب المجتمعية ورفع ثقافة الحقوق والتطوع أن يفي بشيء من ذلك.
أما البردوني رحمه الله فقد كان ينتصر للمظلوم في النهاية…
لكم التحية والشكر مجددا.
ماشاء الله عليك أبو مالك ..
مقال ثري ويصف حال كثير من العاملين في القطاع
حاجة السوق للمستشار القانوني أكثر من المحامي خاصة في هذا الوقت مع إنشاء هيئات وقطاعات جديدة تعمل على إصدار اللوائح والتنظيمات والترخيص لمكاتب المحاماة العالمية التي تنافس بشكل كبير في هذا المجال ، كما أن الأتعاب المخصصة لهذه الأعمال الاستشارية كبيرة ..
“وإنما تتوسع لتشمل باب الاستشارات الاستباقية على أيّ إجراء كي تحول دون الخلاف أو اللجوء للمحاكم، وهذا نوع من المحاماة الوقائية”
سلمت يمينك مقال رائع ولفتة مهمة
والاستشارات القانونية والحماية القانونية قلما يلتفت لها
وكثير من المشاكل والخسائر..
وقعت بعد قضاء الله وقدره بسبب إهمال الاستشارة القبلية
وبفضل الله
هذا مانعمل عليه في شركتنا
شركة سِلْم للمحاماة والاستشارات القانونية
وسبب التسمية هي تبني هذا المنهج
سِلْم
من السلم والسلامة
شكرا لكم المحامي عبدالإله الفرحان، ويا رب السلامة دوما.
مقال مهم وفيه لمسة إبداعية، وهذا لا عجب فيه، فأنت أستاذنا
ما أجمل أن تقع مقالة مميزة بين يديك تسامرك في هذه الأجواء المطرية اللطيفة، كاتبنا الأنيق حرفاً وفكرًا ، ركائب الفكر تطلح ابتهاجًا لهذه المقالة؛ كنت بحاجة لفهم الاختلاف بين القانوني والمحامي؛ وكما ذكرت الملفت حين يتدافع إليه الطلبة من الجنسين، ومن أجيال مختلفة خلال السنوات الأخيرة لدراسة القانون، هذه المقالة أعطت جوابًا كافيًا شافيًا لكل تساؤلات الفضول التي ألحت علي، تفاصيل ذكرتها مهمة ومُلهمة لكل من يرغب أن يسلك هذا المسار، او حتى يطّلع ويعرف ويدرك الفرق بينهما..