سير وأعلام

في حضرة المسيري!

في حضرة المسيري!

وهل يحضر الأموات إلى الدنيا؟! الجواب لا ونعم؛ فهم لن يعودوا بأجسادهم وأرواحهم إلّا يوم البعث والنشور، وحينها سنذهل عن الناس قاطبة بمن فيهم أولئك الذين نتودد لهم في الدنيا ونطلب رضاهم والتفاتهم إلينا، ولن تبحث الخلائق في ذلكم الموقف العصيب إلّا عن الجناب الكريم سيد ولد آدم يرجون منه الشفاعة لفصل القضاء، فهو وحده المقصود، وصاحب المقام المحمود، والدرجة العالية الرفيعة، فحتى الأنبياء وأولوا العزم من الرسل يحيلون الجموع إليه، ويشيرون نحوه، عليهم جميعًا أزكى صلاة وأتم تسليم.

أما نعم؛ فلأنهم يحضرون بسيرتهم وأخبارهم وفكرهم وتحليلهم ومقولاتهم، ومهما سعت قوى الإنس والجن على الطمس والمسخ والتبديل والتشويه فلن يستطيعوا اقتلاع الثوابت من المشهد الثقافي والحضاري والمحفوظ التاريخي؛ فأيّ إنسان مؤثر مشى فوق هذه الأرض لن يخفى شأنه، وسيكون عليه أكثر من دليل يؤدي إليه، وغير علامة تنبئ عنه، مع حدث تلو آخر يعيد بعثه حيًا؛ فكأنه بين الناس في حراك وخطى وخطاب، ويستعلن بأفكاره صباح مساء، ويقاوم الخنوع بثباته وشموخه.

من هؤلاء الدكتور عبدالوهاب بن محمد المسيري (1938-2008م)، وهو من دمنهور التي اشتهرت بنجابة الأبناء، وعالم من أرض مصر ولادة العظماء، وسليل حضارة عربية إسلامية تأبى على من التزم بها وبثقافتها إلّا أن يغدو واحدًا من الأباة النبلاء الكبراء، ولأجل ذلك كان عالم الاجتماع المصري المسلم واحدًا من رموز الحركة العلمية والفكرية في زماننا، وصاحب موسوعة علمية ضخمة غير مسبوقة عن اليهودية والصهيونية، إضافة إلى مؤلفات ومحاضرات وآراء وأقوال متداولة منتشرة في محياه، ثمّ كتب لها الخلود والذيوع وإن رحل عنها.

ولسنا هنا بصدد استعراض فكري تفصيلي للمسيري وإنتاجه العميق، فلا الوقت يكفي، ولا المساحات مهما أتيحت تستوعب، وفوق ذلك فصاحبنا خبر مسطور، وكتاب منشور، وعَلَم منصوب، والطريق إليه لاحبة، والوصول لمراعيه الخصبة وثماره اليانعة ميسور بلا عسر ولا ضوابط. وإنما هي لفتات ظهرت من قراءة واستماع وحوار وتأمل، وأتمنى أن يكون بهذه اللمحات ما يؤكد عراقة هذه الأمة، وشرف الانتساب إليها، والاعتزاز بإرثها وتاريخها، مع الثقة بمستقبلها وأجيالها القادمة.

فمن ذلك أن د.عبدالوهاب لم يتعرض في صباه لتربية دينية عميقة مثله مثل غيره من جلّ أبناء ذلكم الزمان، ومع هذا آل به المصير الكريم لهذه الرمزية الباهرة، وإن المحتد الأصيل، والبيئة المحافظة، لتحمي بعد فضل الله أهلها إن تعرضوا لشيء مهما قلّ من نفحاتها الزكية، فتحملهم عليها إلى مراكب العبور الآمن. ومع أن المسيري تقلّب في أمواج فكرية ذات اليمين والشمال إلّا أن الله هداه إلى صراطه المستقيم وكتابه العزيز فيما بعد لصفاء ذهنه، واستقلال تفكيره، وابتغائه الحق دونما تحيزات أو تعصب أو حساب دنيوي أو ضغط فئوي.

كما أن المسيري درس وتخصص في الأدب الإنجليزي إبان طلبه للعلم في دراسته الجامعية والعليا، والمتعارف عليه أن اللغة تجذب من يتقنها إلى حياضها، لكن عالمنا المجتهد جعلها جسرًا لاكتشافاته ونماذجه التي ثبت عليها، وكان أدب القوم أحد مداخله إليها، وهذا الملمح يحزن مؤسسات الاستشراق، وأساطين الاحتلال الفكري، وقد صرّح أحدهم بذلك دون تلميح أو مواربة لمفكر مسلم معتز بدينه مع أنه درس اللغة الإنجليزية وتخصص بها.

ومما يلاحظه المتابع للمسيري كاتبًا ومؤلفًا ومحاضرًا ومحاورًا أن الرجل يطرح أفكاره بوضوح خالٍ من التعقيد، وبسلاسة يكاد أن يفهمها كل أحد؛ فهو لا يخاطب النخب والساسة وحدهم، بل ربما أن همه الأكبر انصرف للشباب وعامة الناس ولأجيال لما تأت بعدُ، ولأجل هذا خلط المرح والطرفة ضمن أحاديثه العميقة، وشرح أفكاره مجتهدًا بالتوضيح والبيان، وفي مراحل لاحقة أفاد من التراث والقصص الشعبية والواقع ليكون خطابه ومشروعه الفكري والثقافي أقرب للعهد الذهني عند مستقبليه.

لذا سلمت أعمال د.المسيري من بليّة وقع فيها غيره عن عمد أو سهوًا، وهذه البلوى هي الغموض في المعنى، أو الافتتان بالمستغلق أو المتراكم من الألفاظ والتراكيب، وبعضها ربما لا يمكن فهمه، ويعسر فك رموزه ومركباته فضلًا عمّا في الألفاظ من غثاثة ودعوى وانتفاخ، ولئن فتن بهذا المسلك فئام من مفكرينا وكتّابنا حتى جفلت عنهم جموع الناس، ولم يكتب لبعض أعمالهم القبول والشيوع؛ فقد تجاوزت منتجات المسيري مهاوي هذه المنقصة، ولا ريب أن يكون كذلك وهو الذي لم يأنف مع جلالة قدره وعلو كعبه من أن يكتب للأطفال قصصًا؛ وما من بأس في الكتابة القصصية أيًا كانت، وإنما يظنها بعضنا هينة خاصة حينما تكون للأطفال، مع أنها دقيقة في البناء، نادرة في التخصص، عظيمة في الأثر!

ومما برع فيه د.المسيري وبرز حتى فاق الأقران غير الهمة البحثية، والجلد مع تطاول الزمان، والعيش مع المشروع بلا ملل ولا فتور، والعلاقة الطيبة مع الطلبة إلى أن صاروا له أشبه بالأصحاب والمعاونين والمناقشين الذين يفتحون للمسائل أبوابًا، وللأفكار مسارات، ويتأهل بهم للنهوض بمشروعات عميقة، أنه ألزم نفسه بالنماذج التفسيرية، وعرض عليها أفكاره حتى استقرت واطردت، ولم تقع في شَرك التناقض أو الانقطاع، وتلك مزية نفيسة وقليل من يوفق إليها، وهي ذات قيمة جليّة عليّة وإن لو لم يُوافق الباحث على بعض تفاصيلها؛ فإن التفكير بمثل هذه المنهجية يضبط العلم، ويمنع الزيغ بالهوى أو التكسب، ويحول دون الغرائب والرغائب والعجائب.

كذلك نجد لدى د.عبدالوهاب المسيري منظومة من المبادئ الاجتماعية، والاقتصادية، والأخلاقية، والثقافية، جعلته يتأبى على الذوبان أو الانضياع أو التبعية في أيّ صورة ودرجة، وقادته تلك النماذج والمبادئ إلى معرفة حقيقة الإيمان، والدخول إلى رحابه الفسيح، والاعتزاز بالهوية ومكوناتها من دين وتاريخ ولغة وتقويم وتراث وأفكار، وأصبح في إنتاجه العلمي الباذخ يتقاطع مع المراجع العلمية والتراثية ويتكامل معها -بالجملة- دون أن تكون من مصادره أو سبل استمداده، وبالتالي فهو لا يحسب عليها ولا ضدها فيما أنجزه، وتلك منقبة ندمغ بها بعض المستغربين من أبناء جلدتنا، إذ يتربع المسيري على قمة البراهين التي تفضح مواقفهم المعادية لكل ما هو قديم بلا منطق ولا أثارة من علم ولا شيء يصمد أمام الحجاج والبحث.

وقد اجتهد د.المسيري في الإفادة من جميع أدوات البيان والتأثير والإقناع والمحاجة المتاحة، فكتب، وحاضر، وجادل، وحاور، وألّف، وعكف عكوفًا بمثله يُستشهد وعلى منواله يُنسج، وظهر في فضائيات ومعارض وندوات ومؤتمرات، ودرس في جامعات ومعاهد، وأعان بعضها بالاستشارة والعضوية، واستقطب الطلبة والباحثين، وتخرج على يديه جمع منهم، وسك مصطلحات، وابتكر أدوات، واختصر الأفكار في جمل جامعة مكثفة يسهل تناقلها وتداولها، ولم يترك سبيلًا من سبل المقاومة السلمية والتنوير الذهني يقوى عليه إلّا سلكه بعزيمة، وضرب فيه بسهم يرجى ثوابه.

لأجل ذلك يسترجع الناس دومًا، واليوم على وجه الخصوص مع أحداث فلسطين وغزة، سيرة المسيري، وأقواله، ومختصراته عن اليهود والصهاينة المستوطنين المستأصلين، وعن الغرب الذي يريد سلخنا وتعريتنا من كل ارتباط، وعن العلمانية التي تنازع الإله في حقوقه وخصائصه، وعن جرائم الإبادة للأجساد والثقافات، وتشويه الفطرة ونكسها التي تمارسها قوى ظاهرة شريرة مسيطرة، وعن الجماعات الوظيفية التي ينبع بعضها من داخل المجتمع المسلم وينغرز في خاصرته، وغير ذلك من فتوح أكرمه الله بها.

ومهما حاول المخالفون الشانئون إقصاء هذا الرجل الفريد وأفكاره، وحجب اسمه ومسيرته وأعماله؛ فسوف يبقى منارًا قائمًا منتصبًا بعلمه، ومرتكزات فكره، ومنهجه، وكتبه، ومواده المرئية، وسيرته الفكرية المتميزة عربيًا وربما دوليًا، وبمدرسته التي ورثها للرجال والنساء وللأجيال في مصر وغيرها، وسيظلّ عالمنا الدمنهوري المصري العربي المسلم أحد الروافد التي تتغذى بها سلاسل متوالية من الأجيال القادمة؛ لتحصيل التصور السليم الذي يحفظها من التميع والمذلة والخضوع، ويمنعها من سوء الفعال بسبب الاستعجال أو الاستغفال أو الانجرار خلف المصائد والمكائد.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 24 من شهرِ ربيع الآخر عام 1445

08 من شهر نوفمبر عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. د المسيري رحمه الله عالم لغوي فذ شطح في بداية حياته ومن ثم عرف خبث الغرب وأنهم لايريدون لنا خيراً في ديننا ولا دنيانا مهما تشدقوا بالإنسانية والحضارة المزيفة.
    و عرف تحيزهم لإسرائيل مما يؤكد به أن الكفر ملة واحدة ، ولن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم.
    كلما رأيت مقاطع للدكتور المسيري رحمه الله ورؤيته الاستشرافية لبعض القضايا تذكرت الأستاذ الفاضل عبدالرحمن العصيل، والقاسم المشترك بينهما التخصص العلمي اللغوي أولاً ثم تعمقهم في دراسة الفكر اليهودي وتاريخهم القديم والحديث.
    قبل الجوالات عرفنا شيخنا وأستاذنا النحوي د عبده الراجحي رحمه الله( اسكندراني مصري) منذ أربعين عاماً وحين كنا ندرس بمرحلة الماجستير عن الدكتور المسيري وتحولاته الفكريه وتصحيحه المسار ونصحنا بقراءة كتبه ومقالاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)