عبدالله العمري وسيرة تسمع من به صمم!
إذا صادفت من أصيب بعلة جسدية، أو تكالبت عليه أحوال صعاب، وأحاط به على سبيل المكر بشر من طائفة الذئاب والكواسر، فاقترح عليه أن يقرأ هذه السيرة المختصرة لعله أن ينشط من عقال، وينفض عن نفسه غبار العجز وأغلال القهر. عنوان السيرة: رحلة كفاح بين السروات وطويق: من إعاقة السمع إلى عالم الزلازل، تأليف: الدكتور عبد الله بن محمد العمري، وقد صدرت الطبعة الأولى منها عام (1445=2023م)، وهي من نشر وتوزيع شركة العبيكان.
تقع هذه السيرة حسب نسختها الإلكترونية في (228) صفحة مقسمة على أكثر من تقديم، فمقدمة المؤلف، ثم المحتويات والصور والخاتمة، إضافة إلى شكر وتقدير لجامعة الملك سعود، ولمركز الملك عبدالله التخصصي للأذن، ولمن ساعده في الكتابة بالحثّ أو المراجعة والاقتراح. وجعل البروفيسور العمري الإهداء لوالده ووالدته، ولزوجته وأولاده، ولإخوانه وأصدقائه وطلابه، مع إهداء خاص إلى كل من ولد أو أصيب بإعاقة؛ فهم الذين ألهموه كي يكتب هذه السيرة التحفيزية.
سوف يرى القارئ أن صاحب السيرة انتصر على علة جسدية جعلت غيره على هامش المجتمع وبعيدًا عن الناس والحياة اليومية، لكن العمري أبى إلّا أن يستمع بأذنيه المصابتين إلى شيء مهم وخطير لا يكاد أن يقدر على الاستماع إليه جلّ أهل الأرض مهما بلغت قدراتهم السمعية. ولم ينعزل المؤلف مع ما نبز به من ألقاب مؤلمة في طفولته ومدارسه مثل اللوح وصمان، ويزيد في وقعها الشديد أنها جاءت على لسان معلمين يفترض منهم التربية والرحمة، وتلقفها الصغار، ومن عادة الصغار سهولة تلّقي للكلام الساقط باللسان قبل مروره على الأذن فضلًا عن العقل!
وبعد التفوق الكبير في الدراسة السابقة على الجامعة حتى أصبح الشاب عبدالله أحد العشرة الأوائل على المملكة في القسم العلمي، صادف أشد المعاناة بغية الحصول على قبول جامعي، ثمّ بعد لأي ومضايقة انتظم في كلية العلوم. ومع تفوقه الظاهر، وتميز البادي، إلّا أنه واجه سيلًا عاتيًا من الظلم والمضايقة، وباء بإثم هذا الكيد نفر من “الوحوش الأكاديمية” الذين ناصبوه العداء لسبب لم يظهر في السيرة، ولا أدري أهو بسبب علته، أم غيرة من تفوقه، أم لأسباب إقليمية، والمهم أن العاقبة كانت مختلفة وغير متوقعة.
ثمّ بعد التخرج في الجامعة، أتت إليه صعوبات العمل الوظيفي تسعى، فمن ناحية هو يريد إكمال دراسته العليا، لكن جامعته التي تخرج فيها حرمته من فرصة الإعادة بحيلة بشر مكروا وكان مكر الله فوقهم! والجامعات الأخرى لا تريد ابتعاثه للخارج، وشركة أرامكو تحاول استقطابه وتغريه بالمزايا المالية دون ابتعاث. ولأجل ذلك أصبح خياره الأنسب أن يعمل في هيئة المواصفات والمقاييس على شرط الابتعاث لدراسة الماجستير بعد عامين من بداية العمل وهو ماكان.
فذهب إلى أمريكا لدراسة الماجستير، وهناك تعاطف معه المشرف الأمريكي حينما سمع قصته، وطلب إليه إثبات تفوقه من خلال ثلاثة اختبارات، وقد جاء بنتائج باهرة تؤكد عبقريته، وتدحض الدرجات الظالمة التي منحها له أساتذته في الجامعة ظلمًا وعتوًا دون عدل ولا سبب وجيه، وانتصر لنفسه ولو بعد حين. وعقب الحصول على الماجستير رغب إكمال المشوار العلمي بيد أن مرجعه ليس مؤسسة أكاديمية، فاضطر للعودة مكرهًا بناء على أوامرهم، والقلب متعلق بدراسة الدكتوراة.
وقد أكرمه المولى بإنشاء مرصد للزلازل في جامعة الملك سعود عام (1405) بعيد عودته للرياض بزمن يسير، وكان هو المواطن الوحيد المتخصص في هذا العلم، وبعد أن امتحنه علميًا أستاذ أمريكي أشاد بقدراته فتحول من المقاييس إلى المرصد في الجامعة بجهود مديرها الكبير د.منصور التركي، وكان هدف العمري الأسمى أن يتاح له إكمال دراسة الدكتوراة، وهو ما كان، فأصبح لديه ثلاثة تخصصات مختلفة، هي بكالوريوس في علم جيولوجيا، وماجستير في الجيولوجيا التطبيقية، ودكتوراة في علم الزلازل، وقد أهلته هذه التخصصات ليكتب موسوعة في علوم الأرض التي درسها وخبرها علميًا وعمليًا، علمًا أن جميع مؤلفاته متاحة مجانًا ورقيًا وإلكترونيًا في موقعه الشبكي، وتأليف الكتب بالنسبة للعمري كان وسيبقى العمل الأعظم في آثاره وبشائره.
وبعد عودته حاملًا درجة الدكتوراة، شاء الواحد القهار أن يخلو قسم الجيولوجيا في كلية العلوم بجامعة الملك سعود من الأستاذ المتخصص الذي استقال فجأة، فطلب القسم الاستعانة بخدمات د.العمري وهم الذين حرموه قبل عقد من السنوات فرصة الإعادة، بيد أنه أبى أن يأتي بصفة المتعاون، فاضطر القسم لتعيينه أستاذًا مساعدًا عام (1411) بناء على تخصصه الفريد، والجامعات القوية التي تخرج فيها، ولم يلبث الأستاذ الجديد أن أصبح أستاذًا مشاركًا عقب أربع سنوات، وبروفيسورًا بعد أربع أخرى، وصار يقيّم أبحاث الترقية لأساتذة حاكموه وهو طالب وظلموه وشاركوا في إقصائه، وإن تدبير الله ليعلو ولا يعلى عليه.
ليس هذا فقط، إذ لم تكن إنجازات أ.د.العمري على صعيده الشخصي فقط؛ بل جلب لجامعته -التي كادت أن تحرم منه بسوء تصرف بعض أساتذتها- الجوائز والعضويات والحضور الدولي المهيب، واستطاع إصدار عدة مجلات علمية محكمة أو إقناع الجامعات بذلك، وألف عددًا من الكتب والموسوعات الضخمة في علوم الأرض، والزلازل والبراكين، والعلوم والطب، وجعل بعضها على هيئة سال وجواب تقريبًا للعلم، وكتب أبحاثًا محلية ودولية، وأعد تقارير وأوراق عمل، ونشر مقالات ودراسات، ومجموع إنتاجه العلمي يصل إلى المئات عددًا وآلاف الصفحات وربما عشرات الآلاف، ولا غرابة أن يفوز بجائزة أفضل رئيس تحرير متقدمًا على جم غفير من رؤساء تحرير المجلات العلمية، وأن يترأس الجمعيات العلمية، والأقسام الأكاديمية سنوات متعاقبة، وأن يسطر اسمه ضمن قوائم عالمية تجيب عمن هو.
بينما استطاع العمري إنشاء مراصد زلزالية محلية وإقليمية على معايير دولية حديثة، وأدخل تقنيات وطرق عمل متطورة، ونظم مؤتمرات متميزة، وشارك في مثلها مما يقام في دول عديدة، إضافة إلى عضوية الجمعيات الدولية ومجموعات العمل والبحوث المختلفة، وحاز هو وجامعته الدروع وشهادات التقدير والتكريم من مؤسسات علمية راقية محلية وإقليمية ودولية، وكتبت عنه كلمات تبجيل وثناء مستحق من مواطنيه وبعض العرب والأجانب، وكلهم عرفوه بالزمالة العلمية والعملية، وتعاملوا مع علمه الغزير، وسلوكه القويم.
هذه حكاية عالم ولد يوم عيد الفطر عام (1378) في قرية آل محفوظ التابعة للنماص الواقعة جنوب غرب المملكة، وهي قصة صاحب إعاقة سمعية ولسانية من حمى شوكية مفاجئة وهو في العاشرة من عمره، وفيها الكثير الكثير من تكالب البشر وجورهم، وفيها العون الرباني بالتسخير والتأييد والتيسير، حتى قال الأمير سلطان لوزير التعليم العالي الشيخ حسن آل الشيخ: اقبلوه! وهي الكلمة التي تكررت من أستاذ الجيولوجيا في جامعة بالرياض لأن مثله مفخرة لقسمه، ومن د.مارك في أمريكا الذي أوصى بقوله دو نقيد أو شرط، ولعمركم إن الله إذا نشر لعبده من رحمته، وهيأ له من أمره مرفقًا ورشدًا فلن تعوقه أي قوة مهم أبلغت ومهما تكاتفت عليه وتظافرت ضده.
وهي سيرة رجل جاد منجز ذو همة من بلادي، ولذلك قال الأمير فيصل بن بندر عنه -أمير منطقة الرياض- إنه سعيد بقصة نجاحه وكفاحه وبما يقدمه للوطن وباسمه، وأشاد بسيرته الأمير خالد بن بندر -مستشار خادم الحرمين الشريفين- قائلًا: إنها سيرة عالم واجه الحياة منذ طفولته بقوة وإصرار، وأن الكتاب يعرض فصولًا مثيرة ملهمة، وهي سيرة تعزز معاني الصمود والاستمرارية، ولذلك كتبت الأميرة البروفيسورة مشاعل بنت محمد -عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود والمستشارة العلمية بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية- إن الكتابة مسؤولية اجتماعية على كل الناجحين كما فعل أ.د.العمري، وهذا النجاح هو الذي جعل د.ألكساندرين شيرونيت -مديرة النشر والتحرير في مجلة علمية دولية- تصفه بأنه من أنشط رؤساء التحرير الذين تعاملنا معهم وأكثرهم تنظيمًا.
ولا تخلو السيرة من مواقف وطرائف منبعثة من حمأة الوجع والألم، مثل عقابه على التفوق من قبل امرأة وهو طفل برئ، وضربه المبرح الذي أدمى وجهه من معلم لأنه ظن به الغش إذ يكتب في الجواب أرقام الصفحات. ومن ضمنها سبب رفض قبوله بكلية الطب وكيف أقنعه الأستاذ برفق أن قبوله مستحيل، واقتراح الناس على أبيه ألّا يتعب ولده بالدراسة ويجعله مؤذنًا معه في جامعه، أو معقبًا بالجوازات على المرتبة الرابعة كما قاله له رئيس قسمه في الجامعة. ومنها قصته مع التماسيح وهي مرعبة للغاية وكادت ان تلتهمه لو أنه كان من المسبحين فنجا، وحكاية السكرتير الذي نفذ أمر عميد القبول بالجامعة فطرده ثم أصبح بعد عشرين عامًا سكرتيرًا له! وكيف أصبح البطيخ وباعته من أصحاب سيارات النقل المكشوف جزءًا من تاريخه، إضافة إلى مسيرته العلاجية وحكايته مع السماعات الطبية التي حصل عليها بعد إعلان مجلجل نشره في مجلة اليمامة وما تبعه من تكفل الأمير عبدالله الفيصل بعلاجه.
إن فصول هذه السيرة كما كتب صاحبها في مقدمتها: فصول سيرتي كما تعاقب الفصول الأربعة، ففيها صيف حارق، وخريف حائر، وشتاء قارس، وفيها الربيع الذي نقطف فيه ثمار العزيمة والصبر. وهي سيرة تحص وصفة النجاح في عنصرين هما الانضباط والمداومة فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. وهي سيرة تراوحت بين الأنين واليقين والتمكين، وترسم معاني التوكل على الله، وقوة الاعتماد على النفس، ومتانه قدرات الذات، وصلابة الانتصار على المحبطات، وبشائر التفاؤل في دروب العلم، وتباشير الطموح في مسارات الحياة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 11 من شهرِ ربيع الآخر عام 1445
26 من شهر أكتوبر عام 2023م