سير وأعلام قراءة وكتابة

نقولا زيادة والتاريخ إحاطة ووعيًا وكتابة

تكتمل عدة المؤرخ إذا غاص في علوم أخرى، مثل علوم الديانة واللغة، والبلدان والمجتمع، والتراث والآثار، والأدب والأساطير، ويتم تمامه بإعمال العقل والمنطق في المادة التي لديه، وبذلك تقوى إحاطته، ويرتقي وعيه، وتسمو كتابته. ولأجل ذلك يكتسي جمهرة من المؤرخين بالرزانة والتؤدة في إبداء الرأي، وتزدان بهم المحافل الثقافية، وقلما تخلو منهم دوائر القرار والحكم، ولو تتبعنا ما يقرؤه كثير من الزعماء ووزراء الخارجية والساسة لوجدنا أن التاريخ وعلومه منها بمكان، ومثله القانون وعلم الاجتماع والسياسة الشرعية للمسلم الموفق منهم.

وكنت بعد جهد جهيد قد حصلت على نسخة من سيرة المؤرخ د.نقولا زيادة الفلسطيني أصلًا ونشأة، السوري مولدًا، اللبناني إقامة، والذي ينتمي دينيًا لنصارى الناصرة، ولكنه حضاريًا مرتبط بالعربية والإسلام وثقافتهما، حتى أن الثناء على النبي العربي يزيده بهجة واحتفاء بالمثني، وله من الآراء في ثقافتنا وحضارتنا ما يخجل منه بعض قومنا الذين يهرفون بما لا يعرفون، أو يعاجلون لآراء جاهزة، دون مراجعة أو تمحيص، وربما فعلوا ذلك رغبة في وصف براق، أو اقتراب من الأضواء وأهل الدنيا، بيد أن الواحد من أولئك يزري بعقله وعلمه، وربما تردى في آخرته والعياذ بالله.

ثمّ بعد قراءة سيرة هذا المؤرخ بعنوان “أيامي” والكتابة عنها، لفت نظري أنه أضاف في آخرها مقالات طوال له أو لقاءات صحفية أجريت معه عن منهجه التاريخي، فأحببت اختصارها ونشرها، وقد تراخيت كثيرًا في أداء هذا الواجب، إلى أن عزمت على تلخيصه عسى أن نستفيد منه، وتستفيد به الأجيال من قراء التاريخ والمشتغلين فيه، وتشارك في صناعة المؤرخ المفكر. ومما ورد في تلك الملحقات مختصرًا، وربما محررًا تحريرًا يسيرًا في بعضه دون أن يخرجه عن معناه:

  1. التأريخ هو تدوين الأحداث، بينما التاريخ حركة دائمة لا تتقيد باتجاه واحد.
  2. اختزنت كثيرًا من المعارف التاريخية بجهد منفرد لمدة عشر سنوات، وفي لندن أخرجتها للتهوية والحوار وتخليصها من غبارها.
  3. أتاحت لي إقامتي الأولى في لندن فرصًا كثيرة للتدرب على الكتابة التاريخية.
  4. للإنسان أثر أساسي في حركة التاريخ، ولا بد من ظهور العنصر البشري في أيّ تحليل تاريخي.
  5. دارت أحاديث بعض المؤرخين حول شخصيات في مركز القيادة، ونسوا جموعًا غفيرة تتحسس أمورًا لا تعجبها!
  6. يدعو الإنجليزي فرنسيس بيكون إلى توسيع آفاق المعرفة في سبيل إتقان البحث عن الحقيقة، ويرى أن التاريخ أداة طيبة وإن لم تكن طيعة للبحث عن الحقيقة في مضانها المختلفة.
  7. جاء بعده هدر الألماني ورأى أن هذه العملية مستمرة وهي مسيرة تقدمية بمعنى أن البشرية تسير إلى الأمام وتضيف كل فئة شيء جديدًا لجماع ما ينتج البشر.
  8. هناك من يقول إن التاريخ يعلمنا الأمثولة وبذلك يمكن أن نتجنب أخطاء الماضي، وأنا أقول عكس ذلك تمامًا فلو تعلمنا فعلًا من دروس التاريخ لما تكررت الأخطاء.
  9. يجب ألا ننسى أن التاريخ يوضح لنا الماضي الذي قد يساعدنا على فهم الحاضر إذا أحسنا التعامل معه.
  10. كيف فسر القوم حركة التاريخ؟ البعض فسرها تفسيرًا دينيًا غيبيًا، والبعض فسرها تفسيرًا بطوليًا وأن التاريخ إنما صنعه أفراد متميزون وتجاهلت هذه النظرية وجود الناس العاديين.
  11. بعد التفسير الديني الغيبي والتفسير البطولي هناك التفسير التطوري، وأيضًا التفسير المادي للتاريخ الذي قال به ماركس، ولأني لم آخذ بهذه النظرية الماركسية قالوا عني أنني مؤرخ محافظ رجعي!
  12. جاء توينبي بنظرية التحدي والاستجابة بعد دراسة سبع وعشرين حضارة دراسة تحليلية، أخرج منها الثابت والمتحول وجاء بهذه النظرية التي ترى أن الحضارات التي استجابت للتحديات سارت في الحضارة قدمًا ولم تندثر.
  13. من حسن الحظ أنني لم أصبح أسيرًا لأي من هذه النظريات؛ إذ عرفتها بعد أن قضيت عقدًا مع التاريخ درسًا وقراءة وتأليفًا، ولذلك كنت أفيد من الكل بلا استثناء.
  14. تتبعت بجهد منفرد النقوش التي خلفها ملوك العالم القديم وأباطرته واجتهدت في التفتيش عن الآثار.
  15. وضعت ثمانية وعشرين كتابًا بالعربية فضلًا عن ستة كتب بالإنجليزية، وجميع كتبي بحثت فيها قضايا تاريخية الرابط الأساسي بينها هو العناية الاصلية بالحضارة والمجتمعات أكثر منها بمن يتولى شؤون الحكم.
  16. لعل شر ما يمكن أن يصيب المؤرخ هو الالتزام المسبق بنظرية أو مدرسة معينة.
  17. عندما يكون المؤرخ ملتزمًا بمدرسة خاصة في تفسير التاريخ فإنه يفتش عن الأشياء التي توافق مزاجه.
  18. لا يمكن أن يفسر التاريخ نتيجة لفعل واحد يحرك الأحداث، بل هناك مجموعة عوامل هي التي يستند إليها العمل أو تقعد به.
  19. كيف اكتب التاريخ؟ ولمن يكتب التاريخ؟ هذا سؤالان مهمان، ويليهما أمران حريان بالنظر هما المادة التاريخية أو المصدر ، والأسلوب المتبع في تنظيم هذه المادة وترتيبها وتحليلها.
  20. المصادر نوعان: مكتوبة مدونة، أو منقولة مروية، والأصل أن النصوص المدونة لا يلحقها التبديل كثيرًا، أما المنقولة شفهيًا فما أكثر ما تتعرض للزيادة والنقصان؛ ولذا فهي أولى بالحيط والحذر.
  21. من الغريب أن بعض المؤرخين لا يهتم بالروايات الشفهية ويعدها من الكلام الفارغ.
  22. أعتقد جازمًا أنه لا يمكن لأحد أن يفهم ما يجري إذا رفض أن يفهم ما جاءنا من الألف الثالث أو الرابع قبل الميلاد.
  23. أحسب أنه من المتوجب على المؤرخ تعلم قراءة الأساطير والقصص كما يتدرب على قراءة المخطوطات تمامًا.
  24. كثير من دواوين التاريخ كتبت في القصور والبلاطات، وأريد منها رفع قيمة المعاصرين والحظ من قيمة السابقين.
  25. حرصت على أن أكتب التاريخ بطريقة علمية لكن بأسلوب طري.
  26. لابد للمؤرخ من أن يصاحب كتب الأدب التراثية كي يقبس من نورها ويتمكن من إيصال الفكرة إلى القارئ.
  27. المؤرخ بحاجة إلى توسيع دائرة اهتمامه ليتمكن من فهم التاريخ أولًا ونقله إلى المتلقيين ثانيًا.
  28. يحتاج المؤرخ إلى معرفة قواعد جغرافية أساسية على أن يقرأها ويفهم بصحبة الخارطة والأطلس.
  29. المؤرخ بحاجة شديدة إلى التعرف لما يتم على أيدي علماء الأثار من كشوف وحفريات.
  30. المؤرخ بحاجة لفهم مبادئ الاقتصاد ومعرفة كيف يتكلم على الصناعة والتجارة والأسواق.
  31. يجب أن يتعرف المؤرخ إلى الأمور المتحكمة في تطور المجتمعات لكي يستطيع فهم تنقل السكان من مكان إلى آخر.
  32. المؤرخ كما أرى معنيٌّ بما مرّ بالإنسان أفرادًا وجماعات في العهود الطويلة.
  33. إذا أراد المؤرخ فهم أيّ تاريخ فعليه قبل أن يكتب شيئًا التعرف إلى ما اهتدى إليه الباحثون فيما يسمى الأنثروبولوجيا وهي دراسة الإنسان على أنه كائن بشري فيه طبائع وصفات وأحلام وآمال وآلام، وليست كلها بنت اليوم ولكنها بنت التطور الطويل الأمد في تاريخ البشرية.
  34. تصنيف المستشرقين فيه تساهل كبير وأضر بنا في الإفادة من أعمالهم، ومهما يكن فلا نستطيع منع أحد من دراسة تراثنا، ولعدد من المستشرقين دراسات في تاريخنا وحضارتنا في غاية الدقة.
  35. أعتقد أن كل ما دون على أيدي علماء العرب ومفكريه وأدبائه وشعرائه هو جزء من التراث وعلينا النظر في هذا كله لاستخلاص ما ينفع الناس.
  36. من الضروري الوقوف على التراث كله بما فيه من محاسن ومساوئ، وإذا فعلنا ذلك استطعنا في دراستنا المعاصرة الحديثة الإفادة من التاريخ على أنه ناحية مهمة من نواحي شخصياتنا.
  37. شغل المؤرخون المسلمون بأمور دولة الخلافة أولًا ثم الدول المتفرعة عنها، واجتهد عدد من المؤرخين مثل مسكويه في تقصي أسباب التغير في حياة الدول الإسلامية المختلفة، وعني المسعودي بالعلاقة بين الأرض والناس والتطور التاريخي، بينما ربط البيروني بين التاريخ والفكر الفلسفي.
  38. في نظري يُعدُّ ابن الأثير أول مؤرخ عربي أدرك معنى التاريخ العالمي لأنه عاصر الحروب الصليبية.
  39. الكتابة التاريخية الواسعة النطاق هي التي يمثلها مؤرخو القرنين الثامن والتاسع.
  40. ينتصب أمامنا بين المؤرخين عملاق هو ابن خلدون، وقد وضع كتابه الضخم وفيه تاريخ العجم والبربر والبدو والحضر، وفيه المقدمة المعروفة باسمه وهي ليست في التاريخ وإنما دراسة في شؤون العمران والمجتمع البشري كما فهمه هذا العبقري. وضع ابن خلدون قواعد علمية لما يمكن تسميته علم الاجتماع، واهتم بالصناعة وقيمتها الاقتصادية والاجتماعية، وعني بالمدن في نشأتها وما حلّ بها من تقدم وخراب، واهتم بالتجارة وطرقها والأسواق، ولفت النظرة كثيرًا إلى البداوة والحضارة.
  41. من المهم للمؤرخ قلب ثوب التراث على قفاه وتنفيضه من الغبار واستخراج الصالح منه.
  42. من المهم أن يعمل المؤرخون بإخلاص أهل العلم وأمانة أهل المعرفة ودقة أهل البحث.
  43. من الضروري أن نتعرف على طبيعة المكان الذي ندرس تطور شعوبه، أو حضارة ما فيه، ومثله التعرف على جغرافية المكان بالتفصيل بما فيه المناخ والتضاريس والتربة واختلاف الليل والنهار حتى نسمع نبض الأرض ونفهم طبائع الحضارات التي قامت عليها.
  44. الجغرافيا والتاريخ التوأمان لا ينفصلان، ومع الاسف أن الاحتفال بالجغرافيا احتفال محدود في بلادي ولدى العاملين في حقل التاريخ.
  45. بعد الإحاطة بالأحوال الجغرافية لا مناص من الإلمام بالأوضاع الاجتماعية، ولذلك آثار بالغة في تكوين المعرفة بالتاريخ.
  46. يجب أن نطلق الحرية للجدل والعناية بالفلسفة والمنطق وهو نوع من التحدي الذي يجب التفاعل معه.
  47. تعلمت من عملي في درس التاريخ تعليمًا وكتابه ومناقشة أنه لا يحمي من الوقوع في الأخطاء، وهذا الظن فيه من خداع النفس، ولو أن في الأمر صحة لأمكن تحاشي الأخطاء التي يرتكبها قرن بعد قرن، وجيل بعد جيل.
  48. أن غاية دراسة التاريخ هي أن ينتهي الدارس إلى كشف الغطاء عن محتويات ضمير الأمة الواعي فإذا تيسر له ذلك اتضح له من الماضي ما قد يفسر الحاضر تفسير كليًا أو جزئيًا.
  49. تاريخنا لم يكتب بعد كتابة علمية، وأكثر ما كتب يتصف بأنه تأريخ سردي للأحداث، وتناول للقضايا بسطحية، واكثر الذين درسوا الموضوعات التاريخية ظلوا أسارى لاعتبارات وتقاليد قيدتهم وربطت ألسنتهم وعقلت أقلامهم.
  50. نحن وقفنا من التراث موقف التقديس لا موقف التفهم فقيدنا ذلك بدلًا أن يكون عونا لنا لإطلاق الفكر التاريخي والكتابة التاريخية من العقال؛ فلا التحليل يجوز، ولا التفسير يسمح به، ولا النقد يعطى حقه.
  51. لعل شر ما لقي تاريخنا أن عرضه مفسرو التاريخ ماديًا في سوق النخاسة الفكرية فخرجوا به وكأنه قُدّ من أضلاع ماركس وأنغلز على نحو ما يفعل بعض المؤرخين الخبراء والناشئة.
  52. تاريخ العرب عندي يجب أن يوضح بعد أن يعرض على نار النقد العلمي اللاذعة كي يصفو، وإلا فنحن نكتب قصصًا لا تاريخ!
  53. الأمر في الكتابة التاريخية وأنا مهتم بذلك أصلًا هو أن يتصف المؤرخ بالإخلاص إخلاصًا عقليًا صريحًا، ويجب أن يحب المؤرخ موضوعه.
  54. على من يتصدى لكتابة التاريخ أن يخلص للعلم وللبحث وللتفكير وللنقد وللكتابة؛ كي لا تميل النتيجة مع الهوى.
  55. كتبت في التاريخ كثيرًا ولا أزال اكتب وسوف استمر في ذلك مدة طويلة، وقد أرتكب أخطاء في فهم نص أو وثيقة، لكنني لا أتجنى أبدًا، وأعرف في قرارة نفسي أنني مخلص لعلمي إخلاصًا عقليًا فكريًا صادقًا.

هذه أهم الأفكار الواردة في ملحقات السيرة، علمًا أن للدكتور نقولا كتاب أو أكثر عن الكتابة التاريخية وقضاياها، وسبق له تأليف عدد من الكتب باللغتين يتجاوز الأربعين، هذا غير المحاضرات التي ألقاها على طلبة الجامعة الأمريكية في بيروت، واللقاءات التلفزيونية ومن أنفعها لقاؤه مع المفكر السعودي الأستاذ محمد رضا نصر الله، إضافة إلى المحاضرات العامة، والمقالات المنشورة في المجلات والدوريات، وما أجدرنا بالإفادة من رأيه الذي لا يسلّم له كله، ولا تخلو تفاصيله من ملحظ، وهذا هو القدر المستولي على جملة البشر.

ahmalassaf@

الرياض- الأربعاء 10 من شهرِ ربيع الآخر عام 1445

25 من شهر أكتوبر عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)