التمهيد والفتح يا باغي النضارة والشرح!
كم يسعد الإنسان بانتشار فعلي القراءة والكتابة، لما فيهما من علم ووعي، وأدب ولغة، وسعادة ومتعة، وارتقاء بالأجيال والمجتمعات؛ فجيل يقرأ، ومجتمع يقرأ، لا يمكن أن تنطلي عليه الخدع، او تروج عنده التفاهات. ويشترط لبلوغ هذه الحال أن تكون القراءة مستمرة، منتقاة، متعمقة، غير مسلّم بها بل تفاعلية، وأن تكون الكتابة بعد ترو، وتأن، وتقليب نظر، وتفكير قويم، ومن صنع ذلك بعد أن حاز الأصول، وارتوى من أركان الثقافة؛ فلن يغدو ثغرة ينفذ منها سوء أو بلاء على نفسه أو أهله أو بلاده أو دينه، والحمدلله.
ومن المهم ربط الأجيال بكتب الشريعة الغراء، فعلومها هي الأسنى، ومصنفاتها هي الأسلم، ومن لوازم الديانة القرب من القرآن الكريم، والسنة المشرفة، والسيرة العطرة، وما بني عليها من علوم أو خدمها من معارف وفنون؛ فذلك لعمركم هو الشرف الأسمى، والعلم الأبقى. ومن هذا الباب سعى علماء مباركون إلى أعمال التأليف، والتقريب، والتهذيب، والشرح، والاختصار، والانتخاب، والتحشية، حتى غدت المكتبة الإسلامية مكتبة يتبع الكتاب الواحد فيها عدة كتب، والموفق من عمر حياته بما يعمر آخرته، ولم يغمرها بما يرديه أو يهوي به في قاع سحيق.
أقول ذلك وبين يدي كتابان مختصران نفيسان، عسى أن يتحقق بهما نضارة الوجه ونور القلب، وشرح الصدر والحال، وفضل الله كبير للكاتب والقارئ والمؤلف والمختصر والناشر والناقل، وإن أسهم الخير لمن الخيرية حتى أن أجرها يشمل عدة أشخاص في آن واحد دون نقصان الأجور. أول الكتابين عنوانه: تقريب التمهيد للحافظ أبي عمر ابن عبد البر، وعنوان الثاني: المنتخب من المعاني المستنبطة من الأحاديث في فتح الباري، وكلاهما من تقريب وانتخاب محمد بن عبدالله القناص، وصدرت الطبعة الأولى من الأول والثانية من الثاني عام (1444=2023م) عن مركز تدوين للبحوث والدراسات الحديثية في إصدارين يحملان الرقمين (12) و (13)، ودار أطلس الخضراء للنشر والتوزيع.
يقع الكتاب الأول في ثلاثة مجلدات، عدد صفحاتها (1763)، بينما جاء الثاني في أربعة مجلدات بصفحات مجموعها (2467) صفحة، والرابع فهرس موضوعي كاشف. وهما من كتب السنة النبوية وما في متونها من علوم نبوية عظيمة؛ فالتمهيد الذي ألفه ابن عبدالبر (ت 463) هو شرح لكتاب الموطأ الذي ألفه الإمام مالك (ت179)، والفتح صنفه ابن حجر (ت852) شرحًا على صحيح الإمام البخاري (ت256)، رحمة الله ورضوانه على الجميع.
والكتاب الأول صرم المؤلف لأجل تحبيره ثلاثين عامًا بعد أن أمضى الإمام مالك أربعين سنة في تأليف كتابه الموطأ، وهو مدرسة في التفقه على السنة كما يقول الشيخ أ.د.القناص في المقدمة. ومن أهمية الكتاب أن كثرت الاقتباسات من نصوصه في كتب من جاء بعده من العلماء، وله تأثير كبير على علماء أفذاذ مثل ابن تيمية، ولا غروا أن يكون ذلك وقد ذهب قسم كبير من عمر المؤلف فيه ومعه، حتى جاء الكتاب بعلم متين، وعبارة جزلة، وأسلوب مشرق، وتبوأ المكانة التي يستحقها في المكتبة الإسلامية ولدى مدارس العلم ومعاهده.
أما الكتاب الثاني فقد صرف مؤلفه لأجل تأليفه ربع قرن من الزمان، كي يظفر بأحسن شرح لأعظم كتاب بشري وضع في تاريخ الإسلام وأهمها على الإطلاق، وهو الكتاب الذي جمع الصحيح من سنة الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، وعكف عليه الإمام البخاري ستة عشر عامًا. ومن القيمة العظيمة للفتح أن قامت عليه دروس السنة وكلياتها، ويكاد أن يتفرد بالمصدرية والمرجعية الأعلى لشرح البخاري، حتى قال الإمام الشوكاني كلمة حق حينما طلب منه شرح البخاري: لا هجرة بعد الفتح، وقال بعض العلماء المعاصرين عن هذا المنتخب: إنه فتح الفتح!
وبعد يا رعاك الله؛ ارفع رأسك عاليًا شامخًا بشمم وأنفة وعزة، ثمّ خرّ لمولاك وربك شاكرًا حامدًا على أن جعلك من أمة الرواية والإسناد والدراية، وعلى هذه السلسلة العلمية المتوالية المتعاقبة، وإنها لسلسلة أغلى وأصفى من الذهب وثمين الجواهر. ثمّ تأمل أيها الموفق عراقة الأمة التي تنتمي لها، بالجمع، والتصنيف، والشرح، والتقريب، والتهذيب، والانتخاب، والتعاهد بالنشر والقراءة والخدمة، حتى ولو كنّا في حال ضعف وتخلّف.
ثمّ انظر لهذا النموذج فقط؛ فهاهنا كتابان بذل فيهما خمسة رجال أكثر من مئة وخمسة وعشرين عامًا، فالكتاب الأول نال من حياة المؤلف والشارح سبعين سنة، والكتاب الثاني أخذ من حياة جامعه وشارحه واحدًا وأربعين سنة، ومن المؤكد أن الشيخ المقرب والمنتخب قد عاش معهما أربعة عشر عامًا على الأقل، والعبرة من هذا البيان أن يستخف البصير بمن ينتقد تراثنا العلمي، وكتب السنة، وهو جاهل بها، أو لم يمض معها من الزمن ما تستحقه، ولربما أن سيرة بعضهم القرائية لا تمنحهم الأهلية للحكم على مجلة عابرة بله هذه الكتب وأمثالها!
وعقب ذلك فلا تحرم نفسك من لذيذ النظر في هذين الكتابين وأمثالهما، ولا تجعل مكتبة منزلك خلية منهما ومن أضرابهما، واخبر عن هذه النفائس أولادك وأهل بيتك، فهي مسؤوليتك عنهم خاصة مع ضعف مناهج التعليم الديني وربما اندثارها في كثير من البلاد، ولتجعل من بيتك معهد علم ومحضن تربية، والله يشرح صدرك، ويبهج خاطرك، وينير فؤادك، وينضر وجهك، بهذه الكتب وأمثالها، وعليك عليك بالتمهيد والفتح، فهما من شروح أهم كتب السنة، وهما من الكتب التي قيل عنها: إنها من أهم الكتب التي ألفت في الإسلام، ومعها محلى ابن حزم، ومغني ابن قدامة، وسنن البيهقي الكبرى، والقبول من الله.
وإن السنة النبوية المطهرة كما كتب المنتخب الشيخ البروفيسور القناص “منهج حياة، ووحي إلهي، مبينة للكتاب العزيز، وهذا المنهج الشامل بحاجة إلى جهد كبير لإخراجه للناس من خلال دراسة نصوص السنة وإبرازها، وإظهار وفائها بحاجة العصر…”، ومن المقطوع به أن السنة وشروحها سوف تغني وتفيد ليس علوم الشريعة الغراء فقط؛ بل حتى العلوم الإنسانية والبلدانية والتاريخية واللغوية، وإنها لروض مورق مثمر، ويكفي قارئها شرفًا الغرغرة بحلاوة بيان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإغاظة شىانئيه من الكفار والمنافقين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 19 من شهرِ ربيع الأول عام 1445
04 من شهر أكتوبر عام 2023م