عرض كتاب مواسم ومجتمع

رؤساءُ تحريرِ صحفِنا بينَ زمنين

رؤساءُ تحريرِ صحفِنا بينَ زمنين

تسجيلُ الأحداث، وتتَّبعُ الوقائع، سمةٌ بحثيةٌ مهمَّة؛ وتزدادُ أهميتُها في رصدِ تحولاتِ المجتمع. ومعْ ذلكَ لا نزالُ بعيدينَ عنْ هذهِ الخصيصةِ النَّافعة، فمراكزُ البحثِ قليلة، وشحيحةُ الموارد، والجَلَدُ والجدِّيةُ واليقظةُ مطالبٌ أساسيةٌ للرَّصد، وقليلٌ مَنْ أكرمه الله بهذه الصِّفات.

وقدْ قرأتُ خلالَ الأيامِ الماضيةِ كتاباً عنوانه: (تراجم رؤساء تحرير الصحف في المملكة العربية السعودية 1343-1383)، تأليف: محمَّد بن عبد الرَّزاق القشعمي، وهوَ منْ إصداراتِ مكتبةِ الملكِ عبدِ العزيزِ العامةِ ضمنَ سلسلةِ الأعمالِ المحكمة (101). والكتابُ ينصرفُ إلى توثيقِ تاريخِ الصُّحفِ والمجلاتِ الصَّادرةِ معْ نشوءِ الدَّولةِ السُّعودية، ويُعرِّفُ بها، معْ اهتمامٍ بسيرةِ رؤساءِ تحريرها، وهوَ جهدٌ يُشكرُ عليهِ الباحثُ الكريمُ؛ ويتَّمِّمُ عملَه في بحثهِ عنْ البداياتِ الصُّحفيةِ في مناطقِ المملكة.

والحقيقةُ أنِّي انبهرتُ بتراجمِ رؤساءِ تحريرِ صحفنا آنذاك، وشعرتُ بغبنٍ شديدٍ ألاَّ نجدَ في بعضِ رؤساءِ التَّحريرِ الحاليينَ مَنْ يدانيهم أوْ يقتربُ منهم، وكمْ كنتُ أتمنّى لوْ كانَ بعضُ القدماءِ محدَثين، وبعضُ الحاضرينَ تاريخاً مضى؛ لأنَّ التَّطورَ هو الأصل، ونفعُ التَّطورِ أنْ يكونَ للأحسنِ وليسَ انتكاسةً في العلمِ والفكرِ والأدبِ والسُّلوكِ المهني. ولا يعني هذا أنَّ أولئكَ- رحمةُ الله عليهم- كانوا خلواً منْ الأخطاءِ والأغلاط؛ بيدَ أنَّهم كانوا في جملتهم يحسنونَ تمثيلَ البلدِ وثقافته، ولا أظنُّهم كانوا بإقصائيةِ المحدَثين، وبمواقفهم المسبقةِ منْ قضايا ومؤسساتٍ بعينها.

وممَّا قرأتُه في ذلكِ الكتابِ أنَّ غالبَ رؤساءِ تحريرِ صحفِ تلكَ الفترةِ لهم دراساتٌ ومؤلفاتٌ ودواوينُ وترجمات، وفيهم علماءُ ومفكرونَ ووزراءُ وأدباءُ وشعراء، ويجيدونَ بعضَ اللغاتِ الأجنبيةِ ويترجمونَ عنها، ونالَ عددٌ منهم جائزةَ الدَّولةِ التَّقديريةِ في الأدب، وكانَ لبعضهم جهدٌ كبيرٌ في إنشاءِ النَّوادي الأدبيةِ والصَّالوناتِ الثَّقافية.

وكانَ يحقُّ للعالمِ والأديبِ أحمد عبد الغفور عطار أنْ يوقعَ مقالاتِه باسم الجاحظ الصَّغير بينما لو أرادَ بعضُ رؤساءِ التَّحريرِ الحاليينَ اقتباسَ شخصيةٍ تاريخيةٍ لما ناسبَه إلاَّ هبنَّقة أو باقل! وفي سيرةِ الأديبِ محمَّد سعيد عبد المقصود خوجة أنَّه أولُ مَنْ فكَّرَ في طباعةِ المصحفِ الشَّريفِ بمكَّة، بينما حفظَ الأديبُ عبد القدُّوسِ الأنصاري القرآنَ الكريمَ مبكرا، وكانَ مكتبهُ في المنهلِ ندوةً أدبيةً بعدَ كلِّ مغرب، وثنى عددٌ منهم ركبه في حلقِ العلمِ بمكَّةَ والمدينةِ والرِّياض، واستحقَّ أحدهم أنْ يقولَ عنه الباحثُ العراقي على جواد الطَّاهر: “أحمد قنديل موضوع لا يفرط به طلبة الماجستير”، فباللهِ عليكم: مَنْ منْ أكثرِ الموجودينَ يستحقُّ أنْ يكونَ موضوعاً لرسالةِ ماجستير؟ اللهمَّ إلاَّ إنْ كانَ في الإقصاءِ والتَّحيز!

ولغالبِ الرُّؤساءِ القدامى نصيبٌ وافرٌ منْ التَّأليف، فالعطَّارُ يشتركُ في التَّحقيقِ معْ عبدِ السَّلام هارون وهوَ مَنْ هوَ في عالمِ تحقيق التُّراث، وألَّفَ عبدُ العزيزِ مؤمنة كتاباً يدَّرسُ في بعضِ الجامعاتِ العربية، وأصدرَ محمَّد حسن عواد كتابَه (خواطر مصرحة) وهوَ في العشرينَ منْ عمره! وترجمَ د. شاه رستم مساروف كتابَ عبدِ الكريمِ الجهيمان (الأساطير الشعبية في قلب الجزيرة العربية) الى اللغةِ الرُّوسيةِ عام 2001.

ولم يكنْ لغالبِ الرُّؤساءِ الأقدمينَ مشكلةٌ أوْ عداوةٌ معْ الدِّينِ والمؤسساتِ الدِّينية، فبعضهم حفّاظٌ للكتابِ العزيز، وجمعٌ منهم درسَ في الحرمينِ الشَّريفين، وفيهم مَنْ عملَ في وظائفَ دينيةٍ كالقضاءِ وكتابةِ العدلِ وهيئةِ كبارِ العلماءِ ورابطةِ العالمِ الإسلامي وهيئةِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عنْ المنكرِ التي تصُّبُ عليها بعضُ صحفِنا الهجومَ صبّاً صبّاً هذهِ الأيام!

إنِّي أسألُ بحرقة: أينَ منتجاتُ رؤساءِ التَّحريرِ الحاليين؟ ومَنْ منهم يُشَّرِّفُ المملكةَ حينَ يمثلُها أوْ يتحدَّثُ في محفل؟ ولمَ يحظَ هؤلاءِ الرُّؤساءِ بحصانةٍ استثنائية؟ ألمْ يقعْ رئيسُ تحريرِ صحيفةِ الوطنِ في مأزقٍ معْ الإعلامي حسن معوض لأنَّه واجهه بصراحةٍ لم يعتدْها الخاشقجي في البرامجِ التي استضافه فيها مذيعونَ يكتبونَ في صحيفته؟ ألمْ يزلْ قلمُ رئيسِ تحريرِ صحيفةِ الرِّياضِ فيما يخصُّ دمجَ لبنان معْ سورية، وهيَ زلةٌ خطيرةٌ منْ السّديري المرافقِ للوفدِ الملكي في زيارة سورية؟ ماذا لوْ صدرَ رأيه الغريب عنْ عالمٍ كبير؟ ألمْ يكتبْ رئيسُ تحريرِ صحيفةِ الرِّياضِ مقالتين عنْ صعوبةِ تولي المرأةُ رئاسةَ التَّحريرِ معْ حساسيةِ الآراءِ حولّ المرأة؛ ولو صرَّحَ بهذا القولِ خطيبٌ عبرَ منبرِ الحرمينِ لكانتْ القاضية!؟

وليتَ أنَّ وزيرَ الثَّقافةِ والإعلامِ يفطنُ لذلك، ويقرأُ المستقبلَ حينَ يؤرخُ الباحثونَ للصَّحافةِ إبّانَ وزارته، وليته ينعمُ النَّظرَ في إعادةِ تأليفِ فريقهِ الصُّحفي ليضمَ رؤساءَ تحريرٍ وكتَّابٍ يمثلونَ المجتمعَ ويجيدونَ التَّعبيرَ عنْ حاجاتِ النَّاس، بلا تملُّقٍ أوْ إقصاءٍ أوْ إفساد، وفي المختصّينَ كفايةٌ وغنية، فأينَ الوزيرُ عنْ أسماء أكاديميةٍ كالبروفيسور عبدِ العزيز بن عطية الزَّهراني والدكتور محمَّد بن سعود البشر وغيرهم الذين يسُّرونَ إنْ كتبوا أوْ قالوا؟ ومنْ الطَّريفِ أنَّ رؤساءَ التَّحريرِ سابقاً كانوا غيرَ معمَّرينَ في المنصب؛ بينما يكادُ أنْ يلتصقَ المحدَثونَ بمناصبهم ما وسعهم الجهدُ وأمكنتهم الحيلة.

أحمد بن عبد المحسن العسّاف-الرِّياض

الاثنين 05 من شهرِ جمادى الأولى عامَ 1431

ahmadalassaf@gmail.com

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)