المعايير المطلوبة في خاطب ومخطوبة!
إن الزواج وتكوين الأسرة لمن المسائل القليلة التي تتداخل مع مجالات شتى، فهي دينية بحكم الحث والأحكام والآداب، وهي أمن قومي لأنها سبب للاستقرار والقوة والحماية، كما أنها شأن اجتماعي إذ تحرص الأسر على الترابط والتناسل من أجل البقاء. وليس يخفى ما فيها من جوانب فطرية؛ فما أحوج الجنسين لبعضهما، وفوق ذلك هي سبب لفشو السلامة العامة والأمن الشامل؛ فالزواج والأبوة والأمومة من أسباب زيادة التعقل والأناة عند الشاب والشابة، وطريق آمن لنقلهما إلى حال من الرزانة والتبصر والهدوء.
ومع استقرار هذه المعاني في النفوس؛ إلا أن مؤسسة الزوجية في مجتمعات المسلمين قد بليت بأمور على رأسها تأخير الزواج وتعسيره بالشروط والمتطلبات، وحين يتم هذا الرباط المقدس والميثاق الغليظ فقد لا يسلم من عثرات الطلاق لدوافع منها الخلل في اختيار الزوجين أول الأمر ومدى مناسبتهما لبعضهما، ومن هنا نشأ سؤال مفاده: ما هي المعايير التي يمكن للوالدين تحسسها في الخاطب والمخطوبة؟ وكيف يمكن إجراء فحص يضمن الوصول إلى نتيجة صواب بخصوصها؟ وهو سؤال مركزي وله عمومية، وقد يزداد إلحاحه لدى الأسر الواعية والعريقة.
لكن قبل الجواب عن مثل هذا السؤال يجب الرجوع أولًا إلى نص الحديث الحسن المروي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم حين قال: “إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ”، وإلى غيره من نصوص السنة المنيفة والسيرة العطرة وتطبيقاتهما؛ فإن النجاء والهناء في متابعة الهدي النبوي. وفي هذا الحديث الإشارة إلى معيارين جامعين هما الدين والخلق، وإلى مقياس واضح هو الرضى بهما؛ والرضى هنا يتفاوت فرديًا ومجتمعيًا، ويعود إلى ما يتعارف عليه أهل الزمان والمكان عن الدين والخلق دون خروج عنى الأصول الشرعية؛ فالظفر بذات الدين، وبذي الديانة، سبب للسعادة والفلاح، وهو معيار أهم من المال، والجمال، والنسب، على جلالة قدرها.
ثمّ بعد ذلك يمكن تحديد بعض المعايير المهمة في الخاطب والمخطوبة، وليس بالضرورة الاتيان عليها بأجمعها؛ فالإنسان على نفسه بصيرة، والمجتمعات تختلف، فمنها:
- ملائمة الأسرتين لبعضهما من نواح مجتمعية ومسلكية واقتصادية؛ كي لا يكون الشاب أو الشابة مثل الغريب الغريق في وسط لم يحط به علمًا.
- رضا الوالدين عن الشاب أو الشابة؛ فمن لا خير فيه لوالديه فخيره عن سواهما أبعد، وهذا الرضا يستبين أو يستطاع تخمينه بصريح الكلام أو لحن القول أو من بعض التصرفات!
- القدرة على تحمّل المسؤولية من قبل الفتى والفتاة؛ فالزواج ليس نزهة عابرة أو رحلة قصيرة.
- الاستقرار النفسي، مع أن السواء النفسي التام أمر عسير، لكن الاستقرار العام شرط أساسي، والخلو من الوساوس والأمراض النفسية مطلب.
- النجاة من وحل المخدرات والمسكرات، وأما بلاء التدخين فيعود لتفضيلات أطراف الزواج، وإنه لبئس العشير في رائحته ومظهره وآثاره ولوازمه.
- أن يكون لدى الخاطب والمخطوبة قدر من الاستقلالية المنضبطة والمرجعية الداخلية المعتدلة كي لا يغدو ألعوبة في يد غيره من أقارب وأصدقاء خاصة في شؤونهما الخاصة؛ فما أثقل حياة زوجين يداران من خارج أسوار منزلهما، أو تنتهك أسرارهما!
فإذا فرغنا من هذه المعايير؛ يبرز لنا سؤال منطقي خلاصته: كيف نستطيع قياسها والوصول إلى نتيجة مطمئنة عنها، وهذا يحصل بما يلي:
- مقابلة الخاطب أو المخطوبة من قبل الأب والأم أو من يقوم مقامهما، وقد يحسن تكرار اللقاء؛ وليس شيء أكثر طمأنة للنفس وراحة للخاطر وكشفًا للحقائق يقينًا أو بغلبة الظن من مثل هذه المقابلة الهادئة التلقائية.
- سؤال الأبوين عن الفتى والفتاة، خاصة إذا كان الأبوان من أهل الديانة والمروءة والعقل.
- الاستئناس برأي مجموعة من الأصدقاء الملاصقين للمسؤول عنه سواء بدراسة أو عمل أو صحبة، مع أهمية سؤال أكثر من واحد على انفراد، ووزن الإجابات مع بعضها، ذلك أن بعضهم ربما تأخذه الحمية بالإثم وشهادة الزور أو إخفاء العيوب أو تلطيفها، علمًا أن هؤلاء الأصحاب من أكثر الناس معرفة بطباع رفاقهم، والوقوف على أحوالهم النفسية.
- الرجوع إلى إمام المسجد للتأكد من أن الخاطب يصلي دومًا، أو يعرف الطريق إلى المسجد على أقل تقدير!
- النظر الفاحص في حسابات التواصل الاجتماعي للطرفين؛ فربما استبانت شخصيتهما مما يبوحان به كتابة أو تصويرًا أو تسجيلًا، ومن المؤكد أن التفضيل، والمتابعة، والتفاعل، يجعل طريقة تفكير المرء، وأصناف أصحابه، واضحة للعيان أو تكاد دون تسليم بالاستنتاج؛ فبعض الناس له أكثر من حال ووجه!
- هل يمكن أن يكون فحص المخدرات، والسلامة النفسية، من الأدوات المقبول طلبها في مرحلة الخطبة، مثلما صار فحص الزواج إجراء دارجًا بلا نكير؟!
وعقب ذلك؛ لا مناص من تبيان عدد من الإشارات المهمة في لمحات عاجلة، وهي:
- دخلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى الفتاة في خدرها، وشاركت الشاب في خلوته، فصنعت لهما من البيئة والخيال والأفكار ما ينبغي ملاحظته، والحكمة في التعامل مع تأثيراته، حتى تخرج الأجيال من فتنة الصورة الظاهرة، وتقف على الحقائق الظاهرة والباطنة، وكي لا نكون مثاليين في التنظير، أو مبالغين في التحكيم والقياس.
- أن المعايير المقبولة، وترتيب أولويتها، وطرق التحقق منها، تختلف حسب الخاطبين وعمرهما، وهي من الأعراف التي تتباين بحكم الزمان والمكان والأحوال، والمصلحة الشرعية معتبرة في هذا الباب أيما اعتبار.
- أن المعايير، ودرجاتها المقبولة، تقع على مستويات مختلفة، فبعضها يمكن قبول الحد الأدنى منه، وفيها ما لا بدّ من ارتفاع نسبته، وجزء منها يسع الاستغناء عنه، في حين أن بعضها لا محيد منه، وهي ضوابط تختلف تقديراتها حسب الأسر والمجتمعات والأطراف والأحوال.
- بعد التوكل على الله؛ فمن الضرورة بمكان أن يستعين أولياء الأمور على هذا الموضوع بما يتجاوز القدرة على التمييز بين الخير والشر فقط؛ إلى تحديد خير الخيرين وشر الشرين.
- مراعاة أحوال الأجيال المعاصرة في شؤون مثل السفر، وطريقة اللباس، والتعاطي مع يوميات الحياة، وهذه المراعاة لا تعني التنازل الكامل، وإنما استحضار مفهوم “إنما أنا رجل من قومي”، وأن الناس أبناء أزمنتهم، وفي التوازن وتقدير الضرورات مخارج شرعية كي لا يقع المجتمع في الفتنة والفساد الكبير.
- أن عمق التساؤل عن طرفي العلاقة الزوجية ومحتواه ومدته يختلف باختلاف أحوالهما؛ فالسؤال عمّن خطب فتاة على أعتاب العشرين ليس مثل السؤال عن خاطبين يتجهان صوب الأربعين.
- على الأبوين مسؤولية مبكرة في حسن تربية الأبناء، والتعب في إعدادهما للمستقبل وعلى رأسه الزواج وبناء أسرة جديدة، وإن الخلل في هذه المسؤولية لمن أعظم دواعي العزوبة الطويلة، والعنوسة المقلقة، وانتشار الطلاق البغيض.
- من الأهمية بمكان أن يقاوم عقلاء المجتمع الأفكار الشاذة، والرؤى المنحلة، والتطبيقات المختلة، التي يروج لها قوم لا خلاق لهم من أصحاب توجهات خاطئة أو والغة في الغلو بالسوء والفحش والمنكر، وهذا واجب على الجميع بما يقويهم الله عليه.
- ليس من اللائق أن ترد الأم الخاطب دون مشاورة الأب، ومن الحكمة أن يخطر الرجل زوجته عن أي شيء بهذا الخصوص، والأكثر أهمية ألّا يُفرض على الشاب أو الشابة خيار لا يرضاه أو يأباه أو لا يرتاح له، وإنما يوضح له، ويترك القرار له.
- لا غنى لمسلم مستسلم عن اللجوء للمولى، والاعتصام به، وسؤاله الهداية والرشاد والتوفيق والسداد، والبراءة من الحول والطول، فما أعظم مسؤولية الإنسان عن نفسه وأهله؛ حتى جاء الخطاب القرآني بأمر صريح للمكلف كي ينجح في وقاية النفس والأهل من نار وقودها الناس والحجارة.
وبعد؛ فهذه أفكار ورؤى تحاور في محيطها بضعة عشر رجلًا من ذوي التجارب والمعرفة والرشاد، وهم أصحاب ملاذ من الخبرة إلى مثلها يأرز العقلاء، وهي مع ذلك عرضة للصواب والخطأ، فلا مجال للجزم بشيء ليس عليه دليل قاطع أو برهان ساطع أو بيان جامع مانع، ولأجل ذلك فإن الالتفات إلى المعايير المطلوبة في الخاطب والمخطوبة، وتحديد منهجية سليمة في البحث والاستقصاء، لمن الأعمال الجليلة التي يمكن أن ينهض لها خيرة أبرار دأبوا على خدمة المجتمعات، ونفع الناس، والتأثير الرشيد في المستقبل، صدقًا في القول، وصدقًا في العمل، وصدقًا في الاستشارة، والله يسدد ويبارك.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-إسطنبول-تركيا
الأحد 02 من شهرِ ربيع الأول عام 1445
17 من شهر سبتمبر عام 2023م
2 Comments
ابداع ودرر منثوره
أعدت نظمها وترتيبها بكلماتك وأسلوبك
لا حرمك الله عذب الكلام وحكمته
بيض الله وجهك
صياغة محكمة
واضافات قيمة