دومة الجندل: المتحف المفتوح!
عندما غادر الأمير عبدالرحمن الأحمد السديري -رحمه الله- إمارة منطقة الجوف ثمّ الحياة بأجمعها، ترك خلفه آثارًا شاهدة على عمق العلاقة بينه وبين المكان، بأناسه، وثقافته، وتاريخه، وعلومه البلدانية، وذلك من خلال مؤسسة وقفية أنشأها باسم مركز عبدالرحمن السديري الثقافي، وهو مركز ينشط في الغاط موئل أسرته العريقة، وفي الجوف التي أضحى السديري أميرًا عليها نصف قرن تقريبًا، وألّف عنها كتابًا خاصًا، وبقيت تخالط منه الروح والنفس في الفكر والعمل والوصية والوقف، ولقد ورثّ هذا الاهتمام إلى من حملوه فأحسنوا الحمل والأداء والتفويض والمتابعة؛ ولذلك فعلاقته مع المكانين مقيمة ما أقام عسيب!
وكان من فرائد هذا العمل الوقفي أو مسابقته الحسنة على أقل تقدير أن يممّ عنايته صوب الثقافة بمعناها الواسع، عبر أنشطة وأعمال ومؤتمرات ومطبوعات، وآمل أن أستطيع الوقوف في قابل الأيام مع هذا المركز وأعماله بتركيز وتخصيص؛ لأن الذي دعاني لهذا الابتداء العابر السريع هو كتاب فرغت منه للتو؛ عنوانه: دومة الجندل: موقع أثري ومتحف مفتوح، تأليف: منيرة بنت سعد آل سعود، صدرت طبعته الأولى عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي عام (1444=2023م)، وهو بحث ماجستير تكميلي مقدم إلى كلية ماريست في فلورنسا بإيطاليا، ولا عجب فإيطاليا دولة متاحف، وهي مقر لمؤسسات عالمية معنية بالمتاحف والآثار، ولها بعثة عمل في المملكة شاركت المؤلف معهم لمدة سنوات عشر.
يقع الكتاب في (182) صفحة، وطبع على ورق نباتي أحبه، ويتكون من نبذة مختصرة وشكر، ثمّ ستة فصول، تتلوها قائمة بالمصادر والمراجع العربي منها والأجنبي، وفي الكتاب أكثر من ستين شكلًا وصورة معرفة في أوله. وبعد نبذة يسيرة أهدت المؤلفة كتابها لوالديها ولأخيها بندر، وشكرت جميع من تعاون معها خلال إعداد هذه الدراسة ونشرها. وتظهر في الكتاب المنهجية الأجنبية في طريقة البحث، والإشادة، والكتابة، وبعض الترجمة كان يمكن تصحيحها مثل وصف الصحابة -رضوان الله عليهم- بأنهم رفاق النبي محمد -عليه الصلاة والسلام-، وكان من الحسن تعريفهم باسمهم الوارد في مصادرنا الأصيلة، بل ونشر هذا الاسم حتى لدى الأجانب أنفسهم كي يصبح مألوفًا متداولًا.
أول فصول الكتاب عنوانه دومة الجندل: متحف مفتوح، وهو أشبه بالمقدمة، ويليه الثاني عن المنهجية تمهيدًا للكتاب باستعراض الدراسات السابقة، أما الفصل الثالث فعنوانه الجوانب المهمة لموقع دومة الجندل. ثمّ جاء الفصل الرابع بعنوان فوائد دومة الجندل كمتحف أثري مفتوح، وتلاه خامس الفصول بعنوان عملي واضح ومحتوى طويل لأنه عن المحافظة على “المتحف الأثري المفتوح” دومة الجندل، وجعلت المؤلفة الفصل السادس للخاتمة، وفيه عدد من التوصيات والمقترحات.
يجيب هذا البحث عن سؤالين أولهما: لماذا يجب فتح دومة الجندل وجعلها متحفًا أثريًا مفتوحًا لعامة الناس؟ والثاني: كيف يمكن فتح الموقع للجمهور مع الحفاظ على قيمته الثقافية وهويته التاريخية؟ ومن الواضح أن الجواب وارد في الفصل الثالث والرابع والخامس على وجه الخصوص، وإن كانت فصول الكتاب جميعها مترابطة بوحدتها الموضوعية التي تخصّ الموقع الأثري، وكيفية خدمته، واستثماره، وما أعظم ما فيه من فرص.
وتقوم فكرة الكتاب على محورين يجيبان عن السؤالين؛ فالأول منهما يسترجع الأهمية التاريخية والبلدانية والأثرية لموقع دومة الجندل؛ فقد شهد على حضارات ودول وأحداث وأسواق قبل الإسلام وبعده، واعتنى به مؤرخون وبلدانيون وآثاريون ورحالة كثر من العرب والأجانب، وفيه معالم أثرية كثيرة وقفت معها الباحثة بالوصف، ويمكن استثماره ثقافيًا وتعليميًا واقتصاديًا من خلال السياحة الثقافية التي ستفيد المنطقة وأهلها، وتنشط حركة التجارة في الفنادق، والمواصلات، والمطاعم والمقاهي، وخدمات الإرشاد والتصوير، وبيع المنتجات المحلية، وتعريف الوافدين بثقافة البلد والناس.
وهذا مكسب أكيد إذا أحسنت إدارته، واستعدت له شركات السياحة وخبراء الإرشاد والعرض على الزائرين؛ فالأجانب قطعوا هذه المسافات ليشاهدوا مفاهيم مختلفة وحضارة مغايرة، ومن كبير الخلل وعظيم الخطأ محاولة الظهور لهم بما يرضيهم، فلا توجد منطقة سياحية في العالم تنكر جذورها كلية لأجل الجذب والإرضاء؛ خاصة أن هذه الجذور من أهم عوامل الاستقطاب للسياحة الثقافية الماتعة البريئة، وفي الموقع مغريات معرفية وثقافية عديدة، تهفو إلى لذائذها عقول وعيون وقلوب، ولدينا من العراقة ما يغبطنا عليها أقوام كثر أقارب وأباعد!
أما الثاني فهو عن سبل المحافظة على هذا الموقع الأثري المفتوح، إذ تطرقت المؤلفة إلى إستراتيجيات عديدة علمية وتنظيمية ورقمية وعملية، ونقلت تجارب عدة مواقع أثرية شبيهة بدومتنا الجميلة العريقة، وهذه التجارب في عُمان، والأردن، وإيطاليا، وبيرو. ومما لفت نظري فيما نقلته عن المؤلفات والأوراق العلمية والمقالات توصية الخبراء بأن يكون التدخل العمراني والترميمي للمواقع في أقل درجة ممكنة وتؤدي الغرض؛ كي لا يطمس تاريخ أيّ موقع أثري بأعمال التحسين والحفظ الزائدة، وأن تضبط أعداد رواده ومسار حركتهم؛ حتى لا يتسببوا في تدمير الموقع، مع التأكيد على ضرورة مشاركة فريق من المهندسين وفني الصيانة مع علماء الآثار في كل موقع.
هذه هي دومة الجندل، وهو الاسم التاريخي القديم للمنطقة بأسرها كما تنقل المؤلفة عن البلداني ابن جنيدل، بينما اسمها القديم هو “أدوماتو” وهو اسم لمجلة علمية محكمة نصف حولية يصدرها مركز عبدالرحمن السديري الثقافي. وإن الدومة لواحة غناء، ونموذج بديع ليس وحيدًا على ما في بلادنا المملكة العربية السعودية من مناطق ضمن الجزيرة العربية، وهي مواقع جديرة بالاستثمار العلمي الذي يحفظ لها روحها، ويجلب لها أرزاقها، ولا يناقض شيئًا من ثوابتها، ليصبح واحدًا من مصادر القوة المأمونة للبلاد وشعبها، دون أن يجرؤ أحد على أيّ دعوى بالمشاركة أيًا كان دافعها أو سببها؛ فليس لمثل هذه الدعوات الآثمة إلّا القوي من الدحض والشديد من الرفض.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 10 من شهرِ صفر عام 1445
26 من شهر أغسطس عام 2023م
2 Comments
تبارك الله ماشاء الله انه فخر وإعتزاز بما تزخر به المملكة العربية السعودية من إرث تراثي يبهر من يشاهدة،، ولكن مع الاسف بانه غير موثق،
وتوجد الان جهود في تدوين جميع التراث الغير مادي،، و دومة الجندل موقع تاريخي الجميل،،
ارجو ان ازورها قريباً لي بها ارحام،
وفقكم الله وزادكم صلة وبرا.