سياسة واقتصاد سير وأعلام لغة وأدب

لغات في مجلس الوزراء!

إجادة لغة أجنبية واحدة أو أكثر أمر حسن للغاية، وهو إضافة لمن يوفق لها، وفيها نفع لمجال عمله واختصاصه وثقافته وطريقة تفكيره، ومع ذلك فإن الاكتفاء باللغة الأم ليس عيبًا ولا نقصًا، خاصة مع إتقانها وعشقها والاعتزاز بها أيًا كانت تلك اللغة؛ فكيف بها وهي العربية المنيفة المقدسة! ويحفظ تاريخنا وتاريخ غيرنا من الأمم الأخرى أسماء عظماء في العلم والحكم والعقل والابتكار لم يشتهر عنهم التمكن من لسان آخر غير لغتهم الأصلية، وفي عصرنا الحاضر صعد إلى كرسي الرئاسة زعماء دول عظمى دون أن يكون لدى الواحد منهم لغة غير لغته الأم.

ومن خلال بحثي في تاريخ مجلس الوزراء الموقر وسير أعضائه الكرام، اجتمعت لدي بعض المعلومات المفيدة واللطيفة فيما يتعلّق باللغات الأجنبية التي يحسنها أعضاء المجلس، فأردت نشرها ضمن سلسلة كتبت منها عدة مقالات عن المجلس الرفيع وأعضائه الميامين، رحم الله الراحل منهم، وحفظ الحي وأدام نفعه وبركاته، علمًا أن هذه المعلومات لكونها شخصية فربما يغيب بعضها، أو يصعب الوصول إليها والتأكد منها مالم يصرح بها صاحب الشأن أو عارفوه، وقد تتعرض للتضخيم كما نسمع بين فينة وأخرى دون أن تكون المعلومة موثقة، ومن غير حاجة لمثل تلكم الدعوى؛ فبعض الناس بارزة خصاله ومواهبه حتى لو لم يعرف حرفًا أجنبيًا واحدًا. من المهم الإشارة إلى أن اختلاف مستويات الإجادة أمر وارد، فربما تكلم البعض لغة أجنبية في المجتمع، لكنه لا يستطيع استعمالها في حوار أو مؤتمر، وقد يقرأ بها لكنه لا يستطيع أن يكتب ما يفيد بتلك اللغة. التحقق من درجة الإجادة ومستوى الإتقان صعب جدًا.

فمما لاحظته أن قريبًا من مئة وزير درسوا مرحلة جامعية أو أكثر في بلاد أجنبية، أو في جامعات عربية تعتمد التدريس بلغة أجنبية مع شعوري بعظيم الحزن أن يتعلّم المرء بغير لغته في أرضها. وهذا يعني أن أكثر من نصف الوزراء لديهم لغة أجنبية واحدة على الأقل، ومن الطبيعي أن مستويات التمكن والضبط تختلف؛ لأن اللغة تعتمد على الممارسة الدائمة وإلّا ضاعت وتفلتت، كما سمعت نقلًا عن مسؤولين كبيرين سابقينليسا من أعضاء المجلسأحدهما يجيد الفرنسية، والثاني درس تخصصه الطبي بالإنجليزية؛ لكن اللغة تلاشت منهما بالتقادم، والهجر، وعوامل الزمن.

كما يبرز لنا باليقين الجازم أن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هو أول رئيس لمجلس الوزراء يجيد لغة أجنبية. ويظهر من التتبع أن أكثر اللغات التي يجيدها الوزراء هي الإنجليزية والفرنسية والألمانية، فمنهم من يتكلم الإنجليزية والفرنسية مثل الأمير سعود الفيصل البارع بهما جدًا، ومثله في الطلاقة الشيخ جميل الحجيلان أول وزير للإعلام، ويتحدث بهما أيضًا الأستاذ عابد شيخ وزير التجارة ونائب محافظ مؤسسة النقد قبل ذلك، والشيخ صالح الحصين وزير الدولة ورئيس عدة دواوين ورئاسات، والشيخ عبدالوهاب عبدالواسع وزير الحج والأوقاف، والأستاذ محمد بن إبراهيم مسعود وزير الدولة وصاحب المهام الدبلوماسية والخاصة، حتى أنه كان سيخلف وزير الدولة للشؤون الخارجية الأستاذ عمر السقاف بعد وفاته المفاجئة في أواخر عهد الملك فيصل حسبما قرأت.

وممن يجيدهما -أي الإنجليزية والفرنسية- د.رشاد فرعون، وهو أقدم من هذه الأسماء جميعًا في عضوية المجلس، وهو ثاني وزير للصحة، وقد سمي سفيرًا للمملكة في فرنسا رغمًا عن اعتراضها عليه؛ لأنه ممن قاوم وجودها الآثم في سورية؛ لكن الحكومة السعودية أصرت على اختياره سفيرًا لها في باريس، ويبدو أن هاتين اللغتين حضرتا مرارًا في وزارة الصحة إذ يتقنهما الشيخ فيصل الحجيلان، ويتقن معهما اللغة الإسبانية لأنه عمل سفيرًا في أمريكا الجنوبية ومدريد عدة سنوات، وبهذه الثلاثية يتميز، وممن يتقنهما كذلك وزير الدولة ورجل القانون د.محمد بن عبداللطيف آل ملحم.

ومن الوزراء من يتحدث الإنجليزية والألمانية بحكم الدراسة، أو الميلاد والنشأة، مثل الأمير فيصل بن فرحان، وأ.د.أسامة شبكشي، وأ.د.علي النملة الذي درس في أمريكا وعمل في ألمانيا مع البروفيسور فؤاد سزكين المعروف بإجادة عدة ألسن. ويتقن هاتين اللغتين كذلك د.حمد المانع، والأستاذ عادل الجبير الذي عاش جزءًا من أول عمره في ألمانيا حينما عمل والده ملحقًا بالسفارة، وفاجأ مرة وزير الخارجية الألمانية بالتحدث بلغته؛ ثمّ تمنى وزيرنا أن يستطيع الألماني التحدث بالعربية، وللجبير موقف لغوي عريق أشير إليه في مكان آخر إذا يسر الله وأعان.

كذلك يجيدهما المهندس علي النعيمي وزير النفط الأسبق؛ لأنه درس في جامعته الأمريكية اللغة الألمانية لمدة ثلاث سنوات، ومن الطريف أن جامعة ستانفورد كانت تلزم الطلبة بدراسة لغتين غير لغتهم الأم في مرحلة الماجستير، ولأنهم اعتبروا أن اللغة الأصلية للنعيمي هي الإنجليزية لإجادته لها مثل أهلها؛ فقد اختار العربية والألمانية، واستطاع بهذه الحيلة النجاح بتفوق، والتفرغ لدراسة اللغة الألمانية، وهي بالمناسبة من الأسرة اللغوية التي تنتمي لها الإنجليزية، وبالتالي فأمر تعلمها أيسر.

أما أحد أعجب ما وقعت عليه فهو أن وزير التجارة الأسبق الأستاذ محمد العوضي يتكلم اللغتين التركية والفارسية، ودرس بالمراسلة في جامعة بريطانية؛ مما يعني أنه استطاع التعامل مع اللغة الإنجليزية، ولذلك عمل سفيرًا في تركيا بعد الوزارة، وقد سبقه في إجادة لغة شرقية وزير المالية الشيخ عبدالله السليمان الذي يعرف اللغة الأردية بسبب مكوثه في الهند، ولا أعلم غيرهما من الوزراء يجيد شيئًا من اللغات الشرقية، وإن كنت أتوقع أن وزير الصحة د.حامد هرساني يلّم بلغات شرقية؛ لأنه ورث عن والده مشيخة المطوفين، ومثله بعض قدماء الوزراء من مكة والمدينة وجدة، ولكني لا أملك معلومة يسعني أن أستند عليها.

وأتصور أن اللغات المحيطة بنا مهمة جدًا لبعض المسؤولين والمؤسسات الحكومية، ومثلها لغات شعوب المسلمين الكثير تعدادها، وكذلك لغات دول آسيا القوية، وروسيا، وإسبانيا، وهذا لا يعني اشتراطها، ولا أن تكون الأهمية خاصة بالوزراء وحدهم؛ فهي لمسؤولي وزارات بعينها مهمة، ولموظفي المواجهة الأولى في المنافذ مهمة ولو بقدر يسير، وللسفراء ضرورية، ولذلك ابتهج إمبراطور اليابان حين سمت المملكة د.عبدالعزيز تركستاني سفيرًا لها في طوكيو وهو يتقن لغتهم، ومثله السفير الحالي الأستاذ نايف الفهادي الذي تخرج في جامعة يابانية، وواصل دراسته العليا في جامعة أسترالية، ثمّ اختير في عهد الملك سلمان -حفظه الله- سفيرًا في اليابان. وكم من مرة ومرة سعدنا حين سمعنا عن سفراء في السعودية لبريطانيا والصين والهند يتكلمون العربية بوضوح، وقرأت مرة عن سفير إنجليزي دأبه الدائم كي يتعلّم لغة القوم الذين سيمثل بلاده لديهم، ولا يتراجع عن ذلك حتى وهو يناهز الستين.

عودًا على لغات الوزراء؛ فكثير منهم يجيد اللغة الإنجليزية، وبعضهم يتقن الفرنسية مثل د.عبدالله العمران ولا أدري عن علاقته باللغة الإنجليزية، وعند بعض الوزراء المشايخ إلمام بقدر ما من اللغة الإنجليزية، على أن أغلبهم حاذق في العربية بحكم الدراسة الدينية واللغوية المكثفة مثل إتقان الشيخ الحصين لعلوم العربية كافة كتابة وتحدثًا وفهمًا، وهو حذق يشاركهم في جانب منه وزراء آخرون مثل الشيخ إبراهيم العنقري بلغته الجاذبة، والدكتور غازي القصيبي ببيانه الآسر، والأمثلة غيرهما ليست بنادرة؛ لكن المجال لا يستوعب الحصر.

ومن بديع ما وقفت عليه أن وزير الاتصالات وتقنية المعلومات د.محمد السويل يتحدث بعد إتقانه للعربية والإنجليزية ثلاث لغات أخرى هي الفرنسية والإسبانية والصينية بدرجات متفاوتة من المعرفة، وهذا يعني أنه قادر على مخاطبة مليارات من البشر، وربما أن لدى الأمير سعود الفيصل معرفة متفاوتة بلغات أخرى إضافية؛ لكن المواقع الموثوقة ومنها موقع وزارة الخارجية لم تشر إلى شيء من هذا القبيل حتى يعتمد عليه الكاتب، بعيدًا عن الروايات الخالية من السند أو البرهان.

ثمّ إن الحديث عن اللغات بقودنا إلى إشارة متوافقة مع موضوعها؛ ذلك أن إجادة الشيخ جميل الحجيلان التحدث باللغة الفرنسية قادته مبكرًا ليكون مترجمًا بين الملك المؤسس عبدالعزيزرحمه اللهووفد أجنبي زائر. وحين أصبح الحجيلان سفيرًا للسعودية في فرنسا انبهرت الأوساط الثقافية الفرنسية من فصاحته بلغتهم تحدثًا وكتابة، ولا ريب فلدى فرنسا اعتزاز كبير بثقافتها لدرجة المبالغة أحيانًا، ومن أوضح تجليات هذا الاعتزاز ما كان يفعله الرئيس الفرنسي جاك شيراك دون خضوع لأيّ عرف دبلوماسي. ولا مناص من الإشادة بتضلّع الشيخ الحجيلان من اللغة العربية وفنونها، وسبق لمعاليه أن تلطف بتصحيحي في خطأ نحوي دقيق ورد في مقال نشرته، والله يشكر له كرمه، ويغفر لي جنايتي اللغوية، وإن من يصوبني ليطوقني بجميل يستأهل معه الثناء والدعاء.

أخيرًا فلا مفر من تكرار التأكيد على أن اللغة المحلية دومًا هي الأجدر بالتقدمة، والأحقّ بالإجادة والاتقان والتفنن بها تحدثًا وكتابة، وغيرها مهما كان فلا يقدّم عليها، فهي جزء من المكون الثقافي، بل يراها البعض قسمًا أساسيًا من الأمن القومي. وما أحرى أن يلتزم بعلوم العربية قدر المستطاع جميع من يتحدث ويكتب، وأن يبذل المرء الوقت والمال في تعلمها وتصويب نفسه كما صنع ساسة كثر في الماضي والحاضر؛ حتى أن الحجاج تضايق من وجود عالم يلتقط منه لحنًا واحدًا ولو كان خفيًا، ولذلك استعلم منه عن موضع الخطأ ثمّ نفاه إن صحت الرواية، وأيًا يكن فالعربية هي الأُولى والأَولى والأعز والأكرم علينا، ولا نكير ولا غرابة؛ فهكذا يفعل الكبار الأوفياء مع لغاتهم، وإن بني قومنا لكبار أكابر كرام أوفياء.

ahmalassaf@

الرياض- الأربعاء 07 من شهرِ صفر عام 1445

23 من شهر أغسطس عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)