سير وأعلام شريعة وقانون عرض كتاب

تاريخ قضاة عنيزة

تاريخ قضاة عنيزة

أنهيت كتابًا تاريخيًا مفيدًا عنوانه: تاريخ قضاة عنيزة (1110-1444) دراسة تحليلية على ضوء المصادر التاريخية، إعداد: صالح بن محمد الحسن الخويطر، الذي صدرت طبعته الأولى عام (1444=2023م) عن دار الثلوثية للنشر والتوزيع وجمعية التراث والوثائق بمحافظة عنيزة، ويقع في (336) صفحة، مكونة من المقدمة والتمهيد، ثمّ ستة فصول مبنية على الدول وتسلسل الزمن، وتتلوها الخاتمة فقائمة بمصادر البحث ومراجعه وهي على أربعة أصناف: مخطوطات، وكتب، وصحف ومجلات، وإفادات شفهية.

حفظ هذا الكتاب للتاريخ أسماء اثنين وأربعين قاضيًا تعاقبوا على القضاء أو رئاسة القضاء في عنيزة خلال ثلاثة قرون، ومدد قضائهم تختلف، وأطولهم قضاء أولهم ذكرًا وهو الشيخ عبدالله ابن عضيب، ومثله أوسطهم في الترتيب الزمني تقريبًا وهو الشيخ علي الراشد، وكلاهما استمر ثلاثًا وثلاثين سنة في القضاء، وتتراوح المدة الزمنية للبقية من عدة شهور إلى عقود من السنوات، وفيهم من ولي القضاء مرتين، ومنهم من كان قاضيًا على بريدة وعنيزة وعموم القصيم، أو ولي القضاء في عنيزة والرس وحدهما أو مع بقية بلدان القصيم.

ويلفت النظر في سجل القضاة هذا أن عددًا منهم ينتمي إلى غير بلدة عنيزة، وبالمقابل أرسلت عنيزة عددًا من أبنائها للقضاء في بلاد عدة. وفي قائمة القضاة المحصورين بالكتاب علماء مشاهير مثل مفتي نجد الشيخ عبدالله أبابطين، والقاضي الذكي صالح القاضي، وأحد أبناء الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب وأحد أسباطه، إضافة إلى أن كثيرًا من القضاة قد تلقوا العلم عمن سبقهم في القضاء، ولبعضهم علاقة قرابة من جهة الأب أو الأم. ومما لا يفوّت إيراده عظم فائدة الوثائق في الدلالة على المعلومة، وكبير أجر المؤرخين والرواة والكتّاب الذين حفظوا ولو بيسير القول معلومات ثمينة ذات دلالة.

كما نجد أثرًا للعلائق بين الحاكم الشرعي والحاكم السياسي؛ فالإمارة والقضاء متلازمان، وهذه العلائق قد تكون حسنة في الغالب، وربما شابها شيء من الاضطراب، وأيًا يكن فإن تلك الروابط لم تمنع القضاة من الجهر بالحق الذي يعتقدونه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم تحل دون إجلال القضاة وإكرامهم من قبل أمراء عنيزة وسراتها، هذا غير المحبة الموضوعة لهم في قلوب الناس، لقرب القضاة من العامة بإمامة الجامع الكبير، والخطابة على منبره، والتدريس فيه؛ علمًا أن هذا الجامع المبارك معمور منذ سنة (1143).

كذلك ارتبطت عنيزة بالدرعية والرياض وما فيهما من دولة ودعوة، وبمن يقف على رأس الدولة من أمراء، ويشرف على شأن الدعوة من مشايخ وقضاة، ولأجل هذا فكثير من قضاة عنيزة عملوا بتكليف أو إقرار من الدرعية والرياض. ومما أورده الكتاب منفردًا أن الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب ولي القضاء في عنيزة، وهو الذي خلف أباه في الدرعية بعد وفاته، كما تولى القضاء أيضًا سبط الشيخ المجدد وهو الشيخ عبدالعزيز بن حمد بن عبدالوهاب المشهور بمتابعة الدليل دون أن يبالي بمن خالف، وهو ممن فاوض طوسون باشا في مصر. ووجد في عنيزة أيضًا الشيخ حسين بن محمد بن عبدالوهاب، وهذه الأسماء تدل على أهمية علمية وسياسية مبكرة لهذه البلدة.

واستطاع المؤلف ترتيب القضاة زمنيًا سواء أطالت مدة قضائهم أم قصرت، ولذا غابت عنه الفجوات الزمنية إلّا شيئًا يسيرًا، وهذا ما جعله يتمنى أن ينجح البحث ولو مستقبلًا في العثور على وثائق تضيف لهذا الباب من التأليف التاريخي والعلمي والحضاري. ومن حسنات الكتاب إثبات القضاء لبعض الأسماء التي لم تذكر وشهدت لها الوثائق مثل الشيخ ناصر الشبيلي، والشيخ حميدان بن تركي، والشيخ عبدالله بن الشيخ المجدد، مع تصحيح بعض الأسماء التي أدركها الوهم.

ومما يلاحظ أن عددًا من قضاة عنيزة أصابوا شهرة علمية كبرى، وفيهم من أصبح عضوًا في هيئة كبار العلماء مع تكوينها أول مرة عام (1391) مثل الشيخ سليمان ابن عبيد الذي أصبح رئيسًا لرئاسة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي بعد عام (1400). ومنها أن عددًا منهم درسوا في الزبير أو الشام أو مصر، وأن بعضهم تولى القضاء مع وجود قاض آخر يقر حكمه بعد مراجعته فيما يشبه درجات التقاضي.

وقد كان للوصايا والأوقاف والمبايعات أثر في الإبقاء على تاريخ كاد أن يندثر، وهذه فضيلة من فضائل الكتابة والتوثيق والتأريخ وصالح العمل، ونرى أثرها المبارك جليًا في الوثائق الكثيرة الموجودة في الكتاب التي كانت سببًا في العثور على معلومة، أو التأكيد، أو النفي، أو الترجيح، أو الاحتمال، وغير ذلك مما يقتبسه الدارس من الوثائق، إضافة إلى كثرة المؤرخين في عنيزة الذين أفاد منهم المؤلف المؤرخ الخويطر، وإن تعقبهم بعلم وتوقير في غير موضع، وصحح بعض ما وهموا فيه، ولا يسلم بشر من سهو، وفوق كل ذي علم عليم.

ومن جليل ما في الكتاب أن الشيخ عبدالله أبابطين خرج من عنيزة إلى بريدة، وفي يوم الشك من شعبان أمر قاضي بريدة الشيخ سليمان ابن مقبل الناس بالصيام بعد أن حالت الغيوم دون الرؤية؛ فصام معهم الشيخ أبابطين مع أنه لا يرى ذلك حسب اجتهاده، بل يفتي بكراهته، وفوق هذا فالشيخ ابن مقبل أحد طلابه؛ لكنه حين سأل عن سبب صيامه أجاب: مادام قاضي البلد يرى هذا الرأي، فنحن نتبعه، والخلاف شر! فما أعظم هذه الرواية والروية، ولعمركم إن العلم لسبب للأناة والتعقل والاجتماع.

أيضًا حين ولي الشيخ عبدالله ابن عبدان القضاء في عنيزة عام (1384) شرع يبت في القضايا والأحكام؛ مما أراح أهل عنيزة أثناء قضائه عندهم، إذ صادف زمنه أعمال نزع الملكية في عقار كثير من الشركاء للمصلحة العامة، وأغلب الشركاء منتشرون في بلاد عدة، والشراكات معقدة بالحكورات المسماة “الصبرة”؛ فحلها وأنهاها وأراح الناس. وخلال مدة قضائه التي اقتربت من خمسة عشر عامًا، ظهر مسمى “مساعد قاضي”، وأول من رافقه من المساعدين الشيخ عبدالله التويجري.

ثمّ ورد في الكتاب شيء من اللطائف، مثل أن القطن والخوخ يزرعان في عنيزة عام (1190)، وأن ناقة بيعت وصار للمشتري خيار العيب لأنها تأكل الطين! وأن أول قاض معروف في الرس، وله وثيقة محفوظة قد وفد عليها من عنيزة، وفيما بعد تولى قاضيان من أسرة القرناس الكريمة القضاء في عنيزة، وأطالا التردد عليها، ولأحدهما زوجة في البلدة. ومن ضمنها أن القاضي قد يحكم في السوق أو في طريقه إلى المسجد، ومنها حسن العلاقة بين الأزواج إذ يوقف بعضهم على بعض، ويجعل أحدهم الآخر ناظرًا على وقفه؛ وهذا حين سلمت المجتمعات من الأفكار المعادية للأسرة، ومن التصرفات التي تكدّر العلاقة الزوجية المقدسة.

ومنها أن أحد القضاة استعفى من الأمير زامل بن سليم على أن يبقى إمامًا في الجامع وخطيبًا؛ فرفض الأمير طلبه وقال له: “الناس لا يذهبون في قضاياهم إلا للذي يرونه في هذا المحراب”، وحين اقترح بعض الناس إسناد القضاء لعبدالعزيز ابن الأمير زامل رفض وقال: “لا أريد أن يتحدث الناس: إني أنا الأمير وابني هو قاضي البلد”. وفي أخبار الكتاب يتكرر تمنّع القضاة عن قبول هذا المنصب، وبعضهم وصل للثمانين فاعتذر بقرب القبر منه. ومنها خبر البيت المستأجر لإقامة القاضي ثم أصبح مقر المحكمة فيما بعد. ومنها اتخاذ الشيخ ابن عودان بابًا في منزله لسيارته، علمًا أنه ولي القضاء بين عامي (1361-1370)، ولم تكن مداخل السيارات معهودة آنذاك، ويُعدّ الشيخ عبدالرحمن ابن عودان أول قاض تصرف له الحكومة راتبًا، كما يُعدّ الشيخ سليمان السناني أول كاتب ضبط في محكمة عنيزة، وقد عمل مع الشيخ المطوع.

أسأل أن يغفر لأولئك القضاة العلماء، والفقهاء الأحبار، ويتقبل منهم صالح العمل ويعفو عما سواه من اجتهاد أو زلل، ومثله الدعاء لمن ساعدهم على أداء مهامهم الشاقة والمرهقة من الحكام والمعاونين والكتّاب، ولمن حفظ تاريخهم بصدق وضبط. والدعاء مبذول للمؤلف المؤرخ الأستاذ صالح الخويطر، ولكل من تعاون معه فأمده بوثيقة أو معلومة أو كتاب، حتى يحفظ للتاريخ وللأجيال تاريخ القضاء في بلدة اشتهرت بالعلم، والتاريخ، والشعر، والرواية.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 04 من شهرِ صفر عام 1445

20 من شهر أغسطس عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

  1. وفقك الله وجزاك الله خيرا
    الكتاب سمعتُ عنه ونويت شراءه، ويا ليت أهل كل بلدة يعتنون بتراجم أعلامهم وإبراز وثائقهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)