سير وأعلام

نورة الربيعي وثلاثية من جليل المحاسن!

كتبت قبل يومين مقالًا عن كتاب رصد تاريخ الكتاتيب في عنيزة للبنين والبنات خلال قرنين ماضيين، وهو من تأليف الأستاذ المؤرخ خالد بن سليمان بن علي الخويطر، وصدرت طبعته الأولى عام (1444) عن جمعية التراث والوثائق في محافظة عنيزة ومكتبة الرشد بدعم من مؤسسة عبدالعزيز العوهلي الخيرية. وقد حظي المقال والحمدلله بقدر من الانتشار الجيد، ووردني عليه تواصل من ثادق وأهلها الأعزاء، ومن الأستاذ الفاضل محمد بن جابر السهلي المختص بالأمن الغذائي، وإليه تعود المعلومات الإضافية الواردة في هذا المقال.

أما لماذا من ثادق تحديدًا وهذ المرأة الموفقة تنتمي لمدينة عنيزة؛ فلأني أشرت في آخر المقال الآنف ذكره إلى قصة لافتة نقلها المؤرخ الخويطر في كتابه المذكور أعلاه، وهي من حسنات الكتاب ومؤلفه. والقصة تخصّ المعلمة نورة بنت إبراهيم بن محمد الربيعي من آل جناح من الجبور من بني خالد المولودة في الخريزة بعنيزة عام (1315)، ثمّ انتقلت عام (1340) إلى مدينة ثادق في إقليم المحمل مع زوجها سعد بن علي آل محيميد السهلي الملقب بجاهل؛ لأنه قدم من المحمل إلى عنيزة وهو صغير السن؛ فأطلق عليه هذا اللقب المتداول عادة، والمتعارف وصف صغار السن به، علمًا أن نورة أخت للشاعر والراوية عبدالرحمن بن إبراهيم الربيعي (1309-1402)، الذي ألف نجله أ.د.عبدالله الربيعي كتابًا عنه بعنوانصناجة عنيزة، وهو لقب أطلقه عليه الشاعر عبدالله بن حسن -رحم الله الجميع-.

وكانت المعلمة نورة تحفظ القرآن الكريم، وتلّم ببعض علوم الفقه والشريعة، ولذلك بدأت تدرس البنات في مدينة ثادق بمجرد أن حلّت بها، وصيرت من بيتها في الرميلة بثادق كتّابًا يستقبل الطالبات، وتلك الفضيلة التعليمية والتربوية من بركات القرآن على أهله. وشرعت مع التعليم تمارس الطب الشعبي لعلاج الأهالي، علمًا أنها أول معلّمة معروفة درست البنات في كتّاب بمدينة ثادق أو من أوائلهن، ولم يمنعها الزواج ومسؤولية المنزل من أداء هذا العمل العظيم؛ مما يدل على زوج معين محب للعلم، حريص على النفع العام إلى أن توفي في حدود عام (1356).

ثمّ عندما حلّ وباء الجدري بعموم نجد ومن ضمنها بلدة ثادق عام (1358)، هجر الناس مرضاهم خوفًا من العدوى، وهو خوف شرعي وطبي؛ لكن هذه المعلمة الطبيبة أبت على نفسها أن تنكفئ تاركة الناس فرائس للوباء المميت، وهي التي أفاض الله عليها من علم الطب، وحصنها من العدوى بإصابة سابقة نجت منها؛ فصار لديها مناعة طبيعية، وفوق ذلك تحمل في قلبها القرآن الكريم، وإنه لشفاء وحرز وحصن أمين.

لأجل ذلك نصبت هذه المعلمة الطبيبة عدة خيام في البر خارج المدينة تحقيقًا لمطلب شرعي وطبي بعزل المرضى، والتضييق على نطاق العدوى، وتيسير سبل العلاج. وجعلت بعضها للرجال المرضى بالجدري، وبعضها للنساء المصابات به، وآوت في تلك الخيام أولئك الذين ابتلاهم الله، وكانت تمدهم بالماء والغذاء والدواء؛ وتدخل عليهم في الخيام مستعينة بالله متوكلة عليه، وتغسّل النساء المريضات على وجه الخصوص حتى يذهب ما حلّ بهن من بلاء الوباء؛ فأنقذ الله بها خلقًا كثيرًا من أهل البلدة، ومن المؤكد أن لهم اليوم أحفادًا وأسباطًا، وربما عمّر بعض أبنائهم.

ولم يكن شأن هذه المرأة الصالحة حكرًا على هذين الأمرين العظيمين، المتداخلين مع كل بيت وأسرة، وهما التعليم والطب، وإنما أكملتهما بضلع ثالث من الخير والإحسان هو الوقف الذي حفظه الله لها بقيام رجال صالحين أوفياء عليه حتى جددّ، وزادت غبطته، وبقيت منافعه إلى يومنا. ومن خبر وقفها أنها أوقفت بيتها لقارئات القرآن وطالبات العلم بثادق، ولمن لا مأوى لهم، ثمّ أضاف له زوج ابنتها حصة وقفًا لزوجته، وجمعهما في بيت حديث قائم الآن، وريعه مستمر، وخيره باق.

كما استعملت المرأة الصالحة نورة الربيعي رجلًا صيتًا من أهل ثادق على أن ينادي لصلاة الفجر كل يوم منذ خروجه من منزله إلى أن يدخل إلى المسجد كي يستيقظ النائم، ويستقوي النعسان، وينشط الكسلان، فلم تكن مكبرات الصوت معروفة آنذاك، ودأبت على أن تعطي هذا المنادي راتبًا شهريًا بالريالات الفرانسية، ولم تنته هذه المهمة بوفاتها؛ إذ استمرت ترعاها بنتها حصة في قرى ثادق، وبعض أسباطها في الرياض، وإن اختلفت الطريقة حسب الزمان والمكان.

وقد رزقت المعلمة الطبيبة بثلاثة من الذرية الطيبة هم منيرة، وحصة، وعلي. أما منيرة فقد تزوجها الشيخ الصالح عبدالله بن مسلط السهلي ورزقت منه بأبناء وبنات هم: فراج، ومبارك، ومسلط، ومحمد، وغزية، وطفلة، ونورة، وحصة، وتوفيت منيرة عام (1418). بينما تزوجت حصة من الشيخ الصالح جابر بن فواز السهلي، وأنجبت له أبناء وبنات هم: محمدالذي تواصل معي مأجورًا، وسعود، ومبارك، وفواز، وسعد، ووضحى، ومنيرة، وموضي، وتوفيت حصة عام (1432)، وفيما بعد كتب ابنها محمد رواية أسماها أصيل ضمنها بعض سيرة والدته حصة، علمًا أن لحصة ولدًا وبنتًا من زوجها الأول المشهور بكرمه، وهما ناصر ونورة أبناء مقحم بن مبارك السهلي، ومن كرمه أنه رهن بشته في خروف اشتراه لأضيافه حتى سميأبو بشت“. وأما نجلها علي فعمل في حرس الحدود على الساحل الغربي، وتزوج امرأة كريمة من جهينة ولم ينجب، ثمّ تزوج من امرأة كريمة أخرى وأنجب منها ابنته الوحيدة نورة التي ولدت بعد وفاة والدها بأشهر يسيرة عام (1405).

ومن فضائل المعلمة نورة أن تعلّمت ابنتها حصة الجاهل السهلي منها فن التعليم حتى أصبحت موظفة رسمية في مدرسة للبنات بمشاش السهول التابعة لثادق؛ وحذقت عن والدتها مهنة الطب وخاصة الكي، وغدت امرأة مقصودة من ثادق وبقية نواحي المحمل وسدير، ولربما تعلّم عند نورة الطب أو بعضه نساء أخريات غير حصة ابنتها، مثلما علّمت أعدادًا من البنات القرآن الكريم، ومبادئ علوم الديانة، وهذا من حكمة المرأة الصالحة نورة الربيعي (1315-1371)؛ إذ ورّثت العلم النافع، والعمل الصالح، والذرية الطيبة، والوقف المبارك، وجعل الله لها لسان صدق غير مندثر.

ومما سرني أن علمت بأن بلدية عنيزة سوف تطلق اسم هذه المعلمة الكريمة على أحد شوارعها إن لم تكن قد فعلت، وأتمنى ألّا ينسى أهل ثادق الأفاضل الأماجد هذه المرأة المحسنة من الدعاء الصالح، ومن دائم العمل المبرور، وحسن الذكر، فهم للمكارم والمحاسن أهل وأصل، وتفاعلهم مع المقال الأول وما ورد فيه دليل على نبلهم، ووفاء منهم مثله لا يُنكر، والله يجعلنا وإياهم من أهل الإيمان المعروفين بحسن العهد، وجميل الوفاء، وكريم الأثر.

ahmalassaf@

الرياض- السبت 25 من شهرِ المحرم عام 1445

12 من شهر أغسطس عام 2023م

Please follow and like us:

8 Comments

  1. هالمقالة غريبة!!
    وكل ما يحيطها أغرب!!
    رب معروف بالسماء لا يعرفه أهل الأرض،
    كيف أن إشارة عاجلة نقلها المؤرخ الخويطر في كتابه استوقفتك، وكانت دعوة لتأريخ ذكر امرأة فُتح على يديها الخير الكثير، مما جعل ذويها يتسابقون لتخليد مآثرها لكنك استاذنا السابق إليها، لقد أثرت فيني هذه المقالة من عدة أوجه وفاضت روحي شجنًا لشدة تأملها ووقفت اتأمل موضعين هنا!!
    – أي دعوات كانت تلك المراءة الصالحة تقولها حتى يرفع ذكرها حتى هذه اللحظة، اي صدقة وخبيئة بينها وبين الله أن يُجمع لها الكلم وتسطر لها الأحرف ويتداول الناس اسمها بعد أعوام من وفاتها وكأنها معنا هذه اللحظة!!

    -الموضع الثاني، أي كاتب أنت!؟
    وفائك خَزائن روح تُدرّس، ومعارج تقرُّب، وأمدادٌ إلهيّة لكل من يعرفك، “وفيّ” مع الغريب فكيف بالقريب الذي ينزوي وجوده في قلبك!
    لا أوحش الله لك نفسًا، او أتعب لك طريقًا أعيذك بالله من تعب يرهقك وشحوب الأيام عليك وألمها طبت من الحُزن.. وطاب سعيك!

  2. هالمقالة غريبة!!
    وكل ما يحيطها أغرب!!
    رب معروف بالسماء لا يعرفه أهل الأرض، كيف أن إشارة عاجلة لافتة نقلها المؤرخ الخويطر في كتابه استوقفتك، وكانت دعوة لتأريخ ذكر امرأة فُتح على يديها الخير الكثير، تسابق ذويها لتخليد مآثرها لكنك استاذنا السابق إليها، لقد أثر فيني هذه المقالة من عدة أوجه وفاضت روحي شجنًا لشدة تأملها ووقفت اتأمل موضعين هنا!!
    – أي دعوات كانت تلك المراءة الصالحة تقولها حتى يرفع ذكرها حتى هذه اللحظة، اي صدقة وخبيئة
    بينها وبين الله أن يُجمع لها الكلم وتسطر لها الأحرف ويتداول الناس اسمها بعد أعوام وكأنها معنا هذه اللحظة!!

    -الموضع الثاني، أي كاتب أنت!؟
    وفائك خَزائن روح تُدرّس، ومعارج تقرُّب، وأمدادٌ إلهيّة لكل من يعرفك، “وفيّ “مع الغريب فكيف بالقريب الذي ينزوي وجوده في قلبك!
    لا أوحش الله لك نفسًا، او أتعب لك طريقًا أعيذك بالله من تعب يرهقك وشحوب الأيام عليك وألمها .. طبت من الحُزن.. وطاب سعيك!

  3. التاريخ لايغيب بتاتا عن ذكرمحاسن الرجال وحتى النساء.وقد توقف ذكر هذه المرأة الصالحة عدة عقود وإن نسيها المجتمع المحلي فإنه محفوظ بأمرالله لكن العجيب في الأمر الذي قلب صفحات التاريخ وأستخرج هذا الإستحقاق الذي كاد أن يندثر وتطويه أودية النسيان السحيقه غفر الله لها ورحمها ووالدينا والمسلمين والشكر لله أولا وثانيا لمن ذكرها وأحيا رسالتها القيمة.

  4. الله يرحمها ويسكنها فسيح جناته وان من اهل ثادق واول مرة عرف هذة المعلموة عنها
    الله يرحمها ويسكنه فسيح جناته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)