الكتابة عن العظماء وصنّاع التاريخ!
أفضل خيار في الغالب هو أن يكتب المرء عن نفسه؛ كي لا يترك فراغًا بعده يجتهد آخرون فيه بحسن نية أو بدون، غير أن بعض العظماء وصنّاع التاريخ وأرباب المجد يتجافون عن هذه المهمة بسبب الانشغال، أو بعض الحسابات، أو رغبة منهم في إحالة هذه المسؤولية لذمة التاريخ كي يقول القادمون كلمة تحفظ وتدون في سجل يكتب له الخلود بحكم قانون الكتابة، وطبيعة التعاقب المعرفي، إضافة إلى مركزية بعض الشخصيات في الأحداث ومجرياتها، مما يجعل إغفالها ضمن السرد والشرح من الصعوبة بمكان.
لذلك؛ فعندما يستجمع فرد أو مجموعة القوى لكتابة سيرة شخصية عظيمة موجودة أو راحلة، فمن الأهمية بمكان بعد الاستعانة بالله وطلب فيوض مدده، مراعاة بعض الجوانب الأساسية في الكتابة كي تكون موثوقة ومرجعية، ونافعة في نفسها نافذة إلى أعماق الخلد وميدان الأبدية، وما عدا ذلك فقد يصبح العمل مثل الهباء المنثور الذي لا يبقى، أو كذرات متناثرة تبعثرها أيّ ريح هبوب ولو لم تكن عاتية، وجدير بمن يحمل هذا العبء الكبير أن يكون أهلًا للحمل، وأهلًا للأداء، وأهلًا للتبعية العلمية والتاريخية.
فمع أن نفوس بني البشر واحدة في جملتها، وبواعثها العامة، وخصائصها المشتركة، إلّا أنه يجب على من يكتب سيرة الرجل العظيم أن ينخلع من نفسه وطرائق تفكيرها قدر المستطاع، ويحاول تقمص شخصية المكتوب عنه ما وسعه الجهد، ويستحضر بيئته ودوافعه وموانعه، وآلامه وآماله التي لا ينبغي لها أن تكون إلّا عظيمة وكبيرة؛ كي يحسن التصور، ويجيد الوصف، ويصيب في التحليل، وهذه المنزلة شاقة وصعبة، ولا يبلغها المرء إلّا بعد معالجة شديدة، وممارسة طويلة، وتنقيب وتفكير، وتقليب وحوار.
ومن مفردات هذا التقمص الواجب ارتداؤه قبل الكتابة أن يعي الكاتب ما للشخصية من إرث تليد وعراقة قديمة، فإن لمثل هذه الخاصية لوازم واستحقاقات قد لا ترد على ذهن من يفقدها أو لم تخطر له على بال. ثمّ ينبني على الإرث العريق ما يتطلبه ذلكم الاستحقاق من تهيئة باكرة للمرء منذ بواكير عمره؛ لحفظ ذلكم الموروث وحمايته والتوسع فيه وزيادة قوته، وهذا التهيئة لها صورها، وتسلسلها، وما تخلّفه من آثار جديرة بأن تدرس الظاهرة منها، وتلتقط الخفية الكامنة في الوجدان والذهن، وتدل عليها الاختيارات والتفضيلات والتصرفات في حياة صاحب السيرة.
ويجئ عقب ذلك الإشارة المستفيضة إلى أن ذلكم الإرث وتلكم التهيئة قد أوجبت على الشخصية المدروسة أن تستشرف المستقبل، وتحدد الاحتمالات الواردة، وجميع المخاطر والفرص الواقعة أو المتوقعة، ثمّ تتعامل معها بالأنسب ولو كان موجعًا، فهذا من شروط الاستمرار، ومن ضرورات الزمان، وبالتالي فإن فهم هذا البُعد المفصلي، وجلاء بيانه من الأهمية المركزية بمكان، حتى تفسر أعمال وإجراءات ضمن سياقاتها ولا تنفصل عنها؛ إذ أن الانفصال يبترها، ويحرمها من دلالاتها المقبولة، وربما يخلع عليها لبوس القسوة، أو الغطرسة، أو سوء الصنيع.
يضاف إلى ذلك كله، أن عامة الناس قد ينظرون للأمور من منظار واحد أو اثنين، بيد أن الشخصيات المحورية العظيمة تضع أمام ناظريها وفي ذهنها مناظير كثيرة، فلا يسعها الاكتفاء بواحد أو اثنين، ومن مجموع عدسات تلك المناظير القريبة والبعيدة، الواضحة والأقل وضوحًا، الأكيدة والمحتملة، يُصنع القرار الصعب، وبعضه يشبه الولادة المتعسرة بما يصاحبها من آلام، وبعضه لا مناص منه وإن أوجع، وهنا أحد مكامن العظمة من جهة، وأسباب العذر من جهة أخرى.
كما يحسن اعتبار ما دأب أصحاب الدراية على وصف بعض الشخصيات به، وهو في حق الأكابر أظهر وأولى، وخلاصته أن للإنسان بحكم مواضعه الحياتية المتباينة أكثر من شخصية مختلفة، وهو اختلاف يوجبه أحيانًا تنوع الزمان والمكان والحال والموقف، وربما تراكم الضغوط وأوقات الاضطرار، وإذا كانت هذه السمة شبه عامة في بني أبينا آدم عليه السلام، فهي في عظماء الناس آكد وأظهر، ولذلك قد نجد في شخصية واحدة السماحة والصلابة، والتعبد والزيغ، والعلم والفتك، والحكمة والجرأة، والشجاعة والتردد، وغيرها مما يمكن أن يوصف من أول نظرة بالتناقض، غير أنه في تلك الشخصيات المركبة من طبقات واعتبارات يغدو مفهومًا ومفسرًا، فشيمة التعقيد كثرة العقد؛ ولكل عقدة عوالمها.
ومما يناسب إعماله في دراسة الشخصية العظيمة رصد مسارين شائعين من مسارات الحركة، أولهما الحركة التصاعدية في اتجاه واحد وهو الأغلب والأوضح، والثاني حركة الانعطاف المفاجئ عند بلوغ نقطة معينة، وهذا الرصد يفيد في كتابة تفسيرات منطقية على التغييرات والأحداث؛ فالتصاعدية قد تقضي بشيء وتقود إليه منطقيًا، لكن الانعطاف في توقيت ما يمنع حصول ما تستلزمه التصاعدية المستقيمة على خط واحد يصل بين نقطة وأختها، وهذا البعد في النظر يحول دون الوصف بالارتباك، أو الاتكاء على التعليلات الضعيفة، وبعضها براقشية تجني على أهلها.
كذلك يجب أن يولى من العناية ما يستحقه الاستماع لأفراد التصقوا بالشخصية المراد تدوين سيرتها في جميع المراحل، وأيًا كان سبب العلاقة، فمثل هذا العمل المبكر يحيط بالشخصية من جميع الزوايا، ويعطي للدراسة عمقًا ومتانة، ويعين في التحليل والتخمين، ويوقف الدارس على كيف كانت تلك الشخصية تعيش وتعمل وتفكر، وكيف تمارس حياتها الطبيعية. كما يدخل في هذا الباب تتبع أثر المكان وذاكرته على الإنسان، وفحص المؤثرات التربوية والتعليمية إبان النشأة، والعيش مع الوالدين والإخوة، وهذا شأن يكاد أن يكون مشتركًا في أيّ سيرة تكتب.
بقي الإشارة إلى مرتكز أساسي في الكتابة عن العظماء وصنّاع التاريخ، وهو الحرص على التوازن والإنصاف والمنهج العلمي الرصين، وأن ندع المجال للعظمة كي تبرز ذاتيًا، وتتحدث عن نفسها، دون الإغراق في وصفها، أو الوقوع في أسر تضخيمها، أو الانهماك في محاولة تقديس وتطهير لم يكتبا لبشر بعد الأنبياء؛ لأن المبالغات تقتل الحقيقة، كما يئد التكلّف الإبداع.
وإن كثيرًا من العظماء ليكفيه مجرد الرواية الصادقة عنه حتى تستبين لمحاته الباهرة، فالشيء الباهر لا يحتاج إلى تحسين أو تلميع، وإنما إلى حسن عرض، وجمال تقديم، مع نصاعة الفكرة، ووجاهة التحليل، وإيراد الأقوال والاحتمالات سواء أكانت مع صاحب السيرة أم ضده، وأيّ إيغال وإغراب فمضرته ستلقي بأثقالها النكدة على السيرة، وتحيلها من كتاب يفترض أن يحجز موقعه ضمن الإرث الثقافي، إلى مجرد فقاعة معرفية جاهزة للإبطال وإطفاء الوهج بأيّ طرف حاد من قبل صاحب هوى مغرض، أو حتى من غيور على ما يعتقد أنه الحقيقة!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 23 من شهرِ المحرم عام 1445
10 من شهر أغسطس عام 2023م