المجمع المبارك!
لقد كان قرارًا موفقًا فتح به الله الفتاح العليم به على قلب رجل الدولة والزعيم الكبير الملك فهد -رحمه الله- في مستهل حكمه، حينما أصدر أمره بإنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ووضع في السَّادس عشر من المحرَّم سنة (1403) حجر الأساس له، ثمّ افتتح المبنى في السَّادس من شهر صفر سنة (1405)، ومساحة مبنى المجمع مئتان وخمسون ألف متر مربع، ويعمل به أكثر من ألف ومئة موظف، بيد أن أنواره وصلت إلى أكثر مساحات الكرة الأرضية، ونفعت آثاره من النسمات أعدادًا تلامس المليار من البشر.
ثم اعتمدت من المصحف نسخته المدققة والمراجعة من قبل لجان فيها علماء القراءات والرسم وغيرها من علوم القرآن الكريم، وهي لجان تتكرر مع الطبعات الجديدة لمزيد الضبط وبراءة الذمة، وأسماء علمائها بارزة مشتهرة بالعلم مثل الشيخ د.عبدالعزيز القارئ، والشيخ د.علي الحذيفي إمام المسجد النبوي وخطيبه والقارئ المتقن، وهو الذي اقترح اسم الخطاط عثمان طه لينال شرف كتابة المصحف، وما أسعد أصابعه ويديه وعيونه وأنفاسه بالمصحف وعلاماته وحروفه وكلماته وآياته وسوره.
فإذا أردنا استجلاء شيء من أسباب بركة هذا المجمع فسوف نلمحها في جوانب عديدة، أولها اختصاصه بالقرآن الكريم وعلومه، وثانيها اصطفاء المدينة النبوية مقرًا للمجمع، وتسمية إصدارها بمصحف المدينة النبوية، وتعليل ذلك بكون هذه البقعة الطاهرة هي اختيار الرب العليم لتكون مهاجر نبيه الخاتم، ومنطلق الدولة الإسلامية الأولى، ولذلك قال الملك فهد وهو يفتتح المجمع: ” … وفي هذه المدينة التي كانت أعظم مدينة. فرح أهلها بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خير عون له في شدائد الأمور، وانطلقت منها الدَّعوة، دعوة الخير والبركة للعالم أجمع”.
لأجل ذلك عظمت بركاته، فمنها أن أجوره لعلها أن تعم بعد رضا المولى الخبير الآمر والمأمور والمتابع والعامل والمشارك بجهده وأفكاره ومساندته وفرحه بهذا المشروع الفارق ودعائه له ولمن أسهم فيه بما قل أو كثر إسهامًا ماديًا أو معنويًا، ولذلك كان من بصيرة الملك فهد ونصحه لشعبه أن وجه الكلمة إليهم إبان افتتاحه المبنى قائلًا: “… ولذلك يجب على كلِّ مواطن في المملكة العربيَّة السعوديَّة أن يشكر الله على هذه النِّعمة الكبرى…”، ومن البركة المرجوة حلول مزيد من البركات في أموال البلاد واقتصادها ومشروعاتها ومواردها. ومن البركة تخليد أسماء ارتبطت بهذا العمل الجليل، وفي التخليد لسان صدق في الآخرين، ودعاء من الأبرار والصالحين.
أيضًا من البركة التي يعلمها القاصي والداني تلك الطبعات المتقنة من المصحف الشريف بعدة قراءات، وبأحجام متعددة ربما تصل إلى سبعة، وبعضها لأجزاء من المصحف لأغراض تعليمية، وأما عدد النسخ المطبوعة فبمئات الملايين، وقد جابت المعمورة، وحلّت في بقاع كثيرة، وأصبحت هدية تمنح لكل حاج يغادر البلاد بعد أداء النسك العظيم، وتحصيل السعادة البالغة بالجوار ورؤية المشاعر والتلبية، والله يتقبل منهم، ويجعلنا وإياهم من أهل القرآن وخاصته الذين أقاموا حروفه وحدوده، وكان لهم السائق والقائد والدليل الهادي، علمًا أني قرأت اليوم خبرًا عن أمر الملك سلمان -حفظه الله- بإهداء مليوني نسخة من المصحف للحجاج، والله يتقبل منه، وينفع بالجهود.
ومن المطبوعات المجمعية كذلك طباعة تفسير ميسر للقرآن العزيز في مجلد واحد بعد أن اجتهدت في كتابته لجنة علمية متخصصة برئاسة الشيخ عبدالعزيز إسماعيل ، وحرصت فيه على العقيدة الصحيحة، والمعنى الراجح الواضح، ثم ترجمته إلى لغات إسلامية وعالمية كثيرة، ولعمرك إنه لمن مكامن القوة الناعمة أن تكون مصاحف المجمع الصادرة من بلادنا المقدسة في مساجد المسلمين وبيوتهم، وأن تكون نسخ تفسيره الميسر الواضح في حوزة العرب والعجم، وفي رفوف المكتبات وصناديق المصاحف، وفي هذا الأمر ملحظ حقيق بأن يبرز؛ إذ أن النسخ المطبوعة والمسموعة شملت قراءات العالم الإسلامي المعتبرة كلها، والترجمات كتبت بلغات كثيرة؛ فخيرنا لنا ولغيرنا.
كما أن الطباعة شملت كتبًا مرجعية في علوم القرآن الكريم وغيره من العلوم، واجتمع في طباعتها الإتقان العلمي المشهود به، والجودة الفنية الباهرة للناظر، وما أعظم الأجر. وشملت الطباعة الأعمال العلمية الملقاة في ندوات أقامها المجمع المبارك، وإن أنسى فلن أنسى أني رأيت في الحرم المكي رجلين من بلد عربي يقلبان وحدهما نسخة من المصحف المطبوع على طريقة برايل لمن فقدوا نعمة البصر، وهما يدعوان بتضرع ودموع هاملة صادقة للمملكة حكومًة وشعبًا.
ولم تنحصر جهود المصحف بالطباعة فقط؛ بل لهم خدمات فائقة في الأعمال الصوتية بتسجيل عدة مصاحف مجودة ومرتلة من قراء كبار على القراءات القرآنية العشرة، وهو عمل مجهد يستغرق سنوات في التسجيل والمراجعة والإقرار مثل الطباعة تمامًا، وظهرت هذه التسجيلات بأنماط مختلفة حسب التطورات في عالم الصوتيات التي لا تغيب عن إخلاص المجمع وحرص طاقمه في الإفادة من كل جديد. وللمجمع حضور في عالم المرئيات من أسناه إعداد ترجمة لمعاني القرآن الكريم وتفسيره بلغة الإشارة، وما أعلى همة قومنا الأفاضل الأخيار.
أما أحد أكثر أعمال المجمع عصرية فهو الدخول بقوة من بوابة التقنية، ومن ذلك إتاحة المصحف برسمه كي ينسخ الباحثون الآيات كما هي في رسمها القرآني حسب القراءة المرادة، ونشر خطوط المصحف بأنواعها لتصبح ضمن الخطوط المستخدمة في تطبيقات الكتابة على اختلاف الأنظمة التقنية، واعتماد أكثر من تطبيق للمصحف الشريف متوافق مع النسخة الورقية، وللمجمع موقع شبكي يحوي مواقع أخرى، وهو يعتني في أعماله جميعها باللغات التي تجاوزت السبعين، وبالقراءات المعتمدة، وكم في إبداعهم من سبب كي تهمل شؤون العيون وتدمع المآقي.
ليس هذا فقط؛ فقد سعى المجمع إلى تبني مجتمع خاص بخطاطي المصحف الشريف، وهو باب عظيم من العلم والفن جدير بأن يرعى ويحتضن، كما صنع المجمع الشيء نفسه بإيجاد بيئة يلتقي بها جميع العاملين في تطوير التطبيقات القرآنية، وهو سبق يشكر ويحمد. وشارك المجمع في تحكيم مسابقات قرآنية محلية وإقليمية ودولية، ولذا فليس بكثير أن تناله عدة جوائز محلية وإقليمية خاصة بالقرآن الكريم، والتقنية الخادمة له، والترجمة، وإنما الشرف للجائزة حين تخصّ عملًا قرآنيًا بالتكريم.
إن المجمع المبارك ليدعونا إلى الفخر به، والفرح بوجوده، والدعاء لملوك المملكة، وأمراء المدينة، والشيخ عبدالوهاب عبدالواسع وزير الحج والأوقاف الأسبق، ووزراء الشؤون الإسلامية، وأمناء المجمع، وجميع العاملين في لجانه ووظائفه، وكل من خدمه ولو بكلمة، والمشاركة بدعمه قدر المستطاع حتى يستمر ويبقى ويقوى. والمأمول أن يكون لأخوة هذا المجمع المبارك، مثل مجمع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود للحديث النبوي الشريف، ومجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، ومجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية، مثل ما لأخيهم الأول من جلائل الأعمال، وبهي المنجزات، وهذه المجمعات المباركة بمن فيها من العلماء والمخلصين هم على الدرب الرشيد سائرون إلى خير ونفع عميم؛ تمامًا كما هي عادة المملكة العربية السعودية، وأعمالها السنية المباركة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 12 من شهرِ ذي الحجة عام 1444
30 من شهر يونيو عام 2023م
