ناصر السلوم: الوزير الميداني!
رحل فجر هذا اليوم عن الدنيا د.ناصر بن محمد السلوم (1358-1444) وزير المواصلات الأسبق -وزارة النقل حاليًا-، وهو الوزير الثامن في تاريخ الوزارة، إذ أصبح عضوًا في مجلس الوزراء لمدة ثماني أعوام (1416-1424). ويمتاز السلوم بعلاقاته الوثيقة مع وزيري المواصلات السابقين عليه الشيخ محمد عمر توفيق ثم الشيخ حسين منصوري، وهي العلاقات التي بناها السلوم مع زملائه في الوزارة طيلة عمله بها، ومنهم من خلفه على مسؤوليتها، إضافة إلى جمع من الموظفين صغارهم وكبارهم، وعدد من المقاولين الناشئين أو القدماء.
ليس هذا فقط؛ بل إن ناصر السلوم كان موضع تقدير كبير من ملوك المملكة وأمرائها، ويتضح هذا من الثقة الكبيرة التي منحها له الملك فهد وكيلًا ووزيرًا، وأن الملك عبدالله حين افتتح طريق المدينة القصيم التفت إلى السلوم وهو حينها قد غادر الوزارة وخاطبه قائلًا: هذا العمل من ثمارك! ولمكانته أسندت إليه أمانة هيئة تطوير مكة والمدينة والمشاعر، وساند الملك سلمان إبان إمارته للرياض ورئاسته لمجلس إدارة الهيئة العليا لتطويرها انتقال مسؤولية بعض المشاريع الضخمة إلى وزارة المواصلات تخفيفًا على أمانة الرياض وهيئتها حسبما يروي الشيخ عبدالله النعيم.
كما أن الوزير السلوم قد نال محبة قلبية من عامة الناس خاصة في جنوب المملكة؛ لإشرافه الشخصي على المشاريع هناك، حتى أصبح اسمه على ألسنة المواطنين الذين شكروا لولاة الأمر حسن الاختيار، والتوفيق في إسناد الأمانة لأهلها. ويضاف لذلك أن الوزير يألف ويؤلف، وهو بعيد عن الغطرسة، مستعلن بصفاء الفطرة، ومستعد لمقابلة أيّ أحد من المستفيدين من خدمات الوزارة، مع الصبر على اختلاف الطبائع، وكثرة الطلبات التي يصعب تنفيذ بعضها أو يستحيل، حتى أنه يخفض صوته، ويضم يديه خلال الحوار مع المواطنين؛ كي لا يتحول الأمر إلى لجاج مشين.
أما أحد أجلّ الدروس العملية في سيرة الوزير الدكتور ناصر السلوم فهو أنه رجل ميداني صرف؛ لم يخلق للبس أغلى الملابس، والظهور برونق أمام عدسات التصوير فقط، بل سافر متجاوزًا التعب والمرض، ووقف بنفسه على المشروعات ومواضعها الجبلية، أو المليئة بالتراب والحصى في الصحاري، وصعد بنفسه ليشاهد معاينًا لا مستمعًا فقط للرواة، أو مكتفيًا بالتقارير، وعندما اعترضهم السيل ركب على “دركتر” وقطع الماء الذي كاد أن يعوقه عن رؤية الواقع؛ ولا غرو أن يفعل المسؤول ما شاهد الملوك يصنعونه بأنفسهم عندما وقف الملك فيصل بنفسه على مشروعي طريق الطائف مكة، ومشروع طريق صلبوخ.
ومن خصاله العجيبة تلك العملية اللافتة التي صبغ بها؛ فهو يعمل في أيّ وقت حتى في الليل وأيام الإجازات، ويأنف من تبييت العمل؛ فما بدأ لا مناص من إنهائه مع أنه يعيش بكلية واحدة منذ أزيد من ستين عامًا. وإذا حدث إشكال سافر له بنفسه، وجمع الأطراف، ليغلق الفجوة من فوره دون انتظار أو تفويض. ومن فرائده الإدارية مشاركته في أكثر من اجتماع عن بعد في وقت واحد، وحرصه على حضور اجتماعات يشارك فيها موظفون بمراتب غير عالية؛ فالقيمة عند الوزير المهندس للمعنى والمضمون، وليس للأشكال والرسوم.
وللوزير السلوم فلسفة عن الطرق أبعد من الطريق ذاته على أهميته؛ فالطريق يعني التنمية، والأمن، وانتشار التعليم، وازدهار الاقتصاد. ومع أهمية ضبط الطريق هندسيًا إلّا أن العناية بجماليات الطريق واجب حتى تأنس عيون المارة والسالكين والمستخدمين به. وعقب ذلك فلقطاع الطريق مساس بالناس كافة؛ وهذا مما يعظم المسؤولية فيه، وإذا كان العمل في شيء يخصّ الحرمين الأقدسين، فهو عنده هبة ربانية لمن اصطفي لهذا العمل؛ فما أسنى خدمة الحرمين وقاصديهما.
كذلك فلدى الوزير د.السلوم الذي يحب القراءة في التاريخ آثار طيبة على تاريخ المواصلات في المملكة، ولذا سعى إلى إصدار كتاب بمناسبة مئوية دخول الملك عبدالعزيز إلى الرياض عنوانه: “المواصلات والاتصالات في المملكة العربية السعودية خلال مئة عام -دراسة توثيقية”، ولم تقف همته التوثيقية عند هذا الجانب، إذ قرر إنجاز أدلة عملية مطبوعة للمشروعات يستفيد منها المهندسون والمقاولون وجميع العاملين في شؤون المواصلات.
ومما يلفت النظر في حياة الوزير السلوم، علاقته الوثيقة بالمجتمع الحجازي، ويتبدى ذلك من صلته بالمهندس الفارسي، والوزير الشبكشي، وبالمدينة النبوية وأهلها، ومقامه بجدة، ومعرفته لحواريها الشعبية، ومن هذا الباب حبوره الشديد بالمشروعات التي أشرف عليها في جنوب المملكة الأشم، مما يؤكد وحدة البلاد في وجدان الناس كافة، فلم يكن ابن عنيزة يرى الوطن إلّا شيئًا واحدًا، وهي مشاعر حقيقية مشتركة لدى أكثر الناس والمسؤولين، أو هكذا يجب أن تكون الحال.
أيضًا يبدو جليًا أن خدمة الناس جبلّة مستقرة في نفسه؛ إذ نوى دراسة الطب لولا أن نصحه الشيخ محمد أبا الخيل، والأستاذ محمد بن عبدالقادر علاقي بدراسة الهندسة المدنية لإقبال البلاد على نهضة عمرانية، وما أجمل الإخلاص في النصيحة، واستشراف المستقبل. ومن هذا الباب إقباله على الشفاعة للناس، ومساعدة الضعفاء وذوي الحاجة منهم، وهذا لا يكون في الغالب إلّا من محسن يرجو الله والدار الآخرة، وهي الصفة الحميدة التي زادت من رقة قلبه؛ تلك الرقة التي تضاعفت بعد رحيل نجله الأول محمد في فرنسا وهو في ريعان شبابه.
ومن جوانب الخيرية في مسيرة حياة معالي الوزير د.ناصر السلوم ماروي لي بأن معالي المهندس محمود طيبة نائب رئيس مجلس الشورى، ورئيس مجلس إدارة جميعة الأيتام في مكة، اتصل به وأخبره أن الجمعية لديها تبرع من رجل الأعمال المبارك الشيخ سراج عطار بمئة وعشرين مليون ريال؛ لبناء قرية أيتام على طريق جدة مكة السريع، وليس للقرية منافذ على الطريق، فأمر السلوم مدير عام الطرق بمكة أن يفتح وصلات من الطريق السريع إلى قرية الأيتام، والله يجعل ثلاثتهم من رفقاء النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، ويجعل وفاة السلوم في يوم الجمعة من أيام العشر مئنة على حسن الختام.
هذه خواطر عبرت عندما بلغني النعي الحزين لوزير تسامت أخلاقه، وظهر على الفطرة النقية في مواضع عدة، وكان مثالًا لمن يرى بعينيه، ولا يكتفي بنقل ناقل ولو كان عدلًا ثبتًا ثقة، وذلكم جزء من لباب المسؤولية، وسمات رجل الدولة الموفق. وقد راجعت لأجل كتابة هذا المقال عدة مقالات وتغريدات، ونظرت فيما جذب انتباهي من كتاب قرأته فيما سلف عنوانه: “الدكتور ناصر بن محمد السلوم: درب من الحب”، أصدرت طبعته الأولى لجنة الأهالي بمحافظة عنيزة عام (1433=2012م)، وحرر مادته عبدالرحمن الشبيلي وإبراهيم التركي، ويتكون الكتاب من تعريف مختصر وإهداء، ثمّ فاتحة بقلم الأمير فيصل بن بندر، وتقديم كتبه الشيخ عبدالله النعيم، ويعقبهما سبعة وعشرون مقالًا وحواران اثنان، فسيرة مختصرة للوزير الميداني الذي توفي اليوم تاركًا خلفه مسيرة شاهدة، وأحدوثة حسنة، ومحبة في قلوب عارفيه ظاهرة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 05 من شهرِ ذي الحجة عام 1444
23 من شهر يونيو عام 2023م