لغة وأدب مواسم ومجتمع

أسماؤنا وحكايات لا تنتهي…

أسماؤنا وحكايات لا تنتهي…

كتبت فيما مضى عدة مقالات عن الأسماء وقصصها، وترافق مع تلك المقالات تفاعلات جيدة من القراء، ثمّ أعدت نشر روابطها في حالة الواتساب يومًا وراء يوم، وبناء على التفاعل الجديد قررت كتابة هذا المقال؛ لأحفظ فيه ما وقع لي أو عثرت عليه سماعًا أو قراءة، وأطعّمه ببعض ما وردني، ولا بأس أحيانًا من إغفال الاسم فلربما اكتملت الفائدة دون ذكره صراحة، مع أن بعض القراء يتمنى التصريح بها دون مواربة.

فمما أذكره أنه بعد بدء الدراسة وأنا في الصف السادس التحق بنا شقيقان من إحدى البلاد العربية، ولهما معي قصة ربما أنشرها لاحقًا. المهم أن الأصغر والأحسن منهما في كل شيء اسمه “رأفت”، والأكبر الذي يفوقه أخوه الصغير بالذكاء والهندام والتعامل اسمه “رافي”. وذات يوم دخل على فصلنا الأستاذ المسؤول عن الشهادات مغضبًا مزمجرًا، وسأل رافي بعد أن أوقفه قائلًا”: “وَلك! يخلع نيعك! شو اسمك؟”؛ فارتجف الفتى وأجاب باكيًا: اسمي “راضي”، وفيما بعد عرفنا أنه حرّف اسمه الحقيقي ليبدو على أنه رافي منافسة لأخيه، وما درى المسكين أن راضي اسم عربي أحسن ألف مرة من رأفت، وأجمل ألف ألف مرة من رافي، علمًا أني -لتمام الفائدة- لا أعرف ما هو “النيع” المدعو بخلعه!

وسمعت أن أحد طلبة العلم ذهب للسلام على الشيخ الفقيه القاضي عبدالله بن حميد، واصطحب معه أولاده للسلام على الشيخ، وشرع يذكر أسماء أنجاله للشيخ حال سلامهم عليه، وهي أسماء معتادة في نجد التي ينتمي لها الشيخان إلى أن جاء أحد الأبناء فقال أبوه للشيخ ابن حميد: هذا ولدي “زكريا”، فقال الشيخ القاضي: من أين جئت بزكريا؟! وربما أن طالب العلم ووالد هؤلاء الأبناء فرح بالسؤال ليكون جوابه حاسمًا إذ قال: هو اسم نبي وارد في القرآن الكريم، فرد عليه ابن حميد: أعلم ذلك؛ فحتى “لوط” هو اسم نبي وارد في القرآن؛ فلم لم تسمه عليه؟!

كما قرأت في الجزء الثاني من السيرة الذاتية للوزير عمرو موسى أنه حين كان أمينًا عامًا للجامعة العربية حضر معهم في كل سنة وزير خارجية لموريتانيا يختلف عن السابق، ومرة كان اسم وزير الخارجية “شيخ العافية”، وقد أدركته العافية المؤقتة فصار رئيسًا لوزراء بلاده عقب عودته من زيارة إسرائيل التي تلت فراغه من اللقاء بزملائه في جامعة العرب، مع أن المجلس الوزاري للجامعة اتفقوا على وقف الزيارات المتبادلة مع اليهود في ذلكم الاجتماع! كما ذكر موسى أن نائب وزير خارجية موريتانيا اسمه “بسم الله عليه“، وأنه حين ذهب للوقوف بنفسه على أحداث دارفور بالسودان؛ لأنه لا يثق بالإعلام والمنظمات الغربية، قابل رجلًا من أهلها اسمه “كهيعص”!

ومن طريف ما سمعته من صاحبه مباشرة، وهو أمر يجمع الضحك مع الحزن، وخلاصته أنه يبحث عن زوجه، ولذا خطب عشرات الفتيات، وفي كل خطبة يحصل على موافقة مبدئية؛ لكن الزواج يصاب بعثرة في أحد مراحله فلا يكتمل. ويكمل صاحب الرواية فيحكي عن رؤيا رآها قديمًا وفيها دلالة على هذا الوضع؛ وللقصة موضع آخر تروى فيه بإذن الله، والمهم أنه قال لي: من خبرتي في الخطبة والرؤية الشرعية؛ وجدت أن كل من تحمل اسم “رنا” جميلة ولطيفة، والعهدة يا قوم عليه؛ إذ يحنّ حنينًا ويئن أنينًا كلما ذكر هذا الاسم، وعندما سألني عن رأيي، قلت له: لا أعلم؛ ولم أرَ في حياتي من لها هذا الاسم سوى واحدة؛ والحقيقة أنها جميلة مؤدبة لكن التعميم صعب!

كذلك مما يخص تسمية الفتيات ما أخبرني عنه عزيز بأن الشقيقة الكبرى لصديقه سميت على اسم مجلة طيبة مباركة في مضمونها، وغالب كتّابها، ووالد الفتاة -التي أصبحت أمًا اليوم- من قدماء المعجبين بالمجلة. وقرأت في كتاب سيرة الأمهات الذي أعدته الدكتورة فوزية أبو خالد قصة عن ممرضتين اسمهما “نجمة” و “مريخ” حملتا كاتب القصة لوالدته، وهو سعيد أن كان في أول عهده بالدنيا بين النجوم والمريخ. وفي باب الأسماء حكايات جالبة للبسمة، منها أن رجلًا تزوج بامرأتين لهما الاسم الثلاثي نفسه! وآخر أخطأ فنادى إحدى زوجتيه باسم الأخرى، وحتى يتجاوز غضبتها قال لها: إنه دائمًا يناديها هي باسمها عند “جارتها”!

وقد علّق صديق من السودان -أمنه الله- على مقال قديم لي عن الأسماء بأن ابنه أصر على تسمية شقيقته الصغيرة “حلا”، وهو اسم خفيف لطيف، وللرئيس العراقي صدام حسين قصة مضحكة مع هذا الاسم، وهي محفوظة على اليوتيوب، علمًا أنه أطلقه على إحدى بناته، وقلّده بعض الناس على ذلك فيما بعد بتسمية بناتهم الأثيرات “حلا”. وقال لي صديق إنه أول من سمي “أسامة” في أسرته وبلدته ثمّ انتشر هذا الاسم في الأسرة والبلدة. وقابلت في مناسبة رجلًا اسمه “فيّاض” فقال: رأت أمي وهي حامل بي طفلًا أعجبها واسمه فياض، فقالت لوالدي: إن كان الحمل ولدًا فهو فياض؛ فكان الذي قالت كما أرادت، ومن من الكرام يقوى بربكم على مخالفة ما يقلنه أو معظمه؟!

ولي صديق مقرب، ووالده أديب من أسرة أدباء وعلماء، وكان الأب مغرمًا بالأسماء العروبية القوية التي تدل على المقاومة والصلابة؛ فكاد أن يصبح اسم صاحبنا “صخر” لولا أن جده مات فورث الحفيد اسم الجد. وأخبرني رجل مسنٌّ كريم أنه عمل وأخوه في شركة أرامكو قديمًا، ولابد لهما من استخراج ما يقابل الهوية الوطنية الآن، وتسمى حينها “تابعية” أو “حفيظة نفوس”، وهم لا يعلمون ماهي ولا يدركون أبعادها. المهم أن الموظف سأل الأخوين عن أسمائهم فقالا: “فهد” و “فهيد”! فاجتهد الموظف ورفض الاسم الثاني؛ لأنه غير معهود عند أهل القصيم فيما يعتقد وهو اعتقاد غير صحيح، واستخرج للأخوين أوراقهما الثبوتية باسم “فهد” لكل واحد منهما، ولم يأبها لذلك آنذاك، وفيما بعد لحقهما الحرج حين يعلن عن شيء باسمهم؛ فهل المقصود فهد الحقيقي أم فهد الذي هو فهيد؟

إن قصص الأسماء كثيرة، ولن أطيل تاركًا البقية إلى قادم الأيام إذا يسر الله وأعان، والله يوفق الجميع لانتقاء أجمل الأسماء وأحسنها لذرياتهم من الأبناء والبنات، على أن تكون أسماء شرعية عربية فيها فأل، ويسر، وبعد عن الحزونة والإغراب، ومن الإغراب الحرص على جمع أمرين، أو التسمية بحرف أو وزن، أو تركيب كلمة من أوائل الحروف، ومن أشنع الإغراب ما روي عن الفرزدق الشاعر الذي قيل إن شعره حفظ ربع اللغة العربية، لكنه خلع على أولاده هذه الأسماء: لبطه كلطه سبطه خبطه ركضه، وكلها بثلاث فتحات متواليات؛ ويكفيكم من شر هذه “اللخبطة”!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 28 من شهرِ شوال عام 1444

18 من شهر مايو عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. نص فــاخر باسق مُسرِف الحُسن باذخ الشعور ….
    ماذا عساي أن أضيف من ثناء وإعجاب لكل ما تكتبه بلا استثناء، وخاصة لسلسلة مقالاتك المتميزة عن الاسماء ودلالتها ومعانيها!
    مما لفت انتباهي مؤخرا ولم أكن لولا مقالاتك السابقة أن أنتبه لذلك!
    أن هناك علم مختص بالأسماء وهو “علم التسمية” فرعًا من فروع علم المعاجم، ومن بديع ما حضرت عن هذا العلم، لقاء علمي عقد قبل عدة أشهر تابع لمجمع اللغة العربية عنوانه (أعلام الإناث في دولة الكويت ..قرأة سيميائية تأصيلية ) وطُرح فيه أشهر الاسماء النسائية المتداولة ومعانيها وحتى الغريب منها وكذلك الغير محمود منها، ومما أثار تعجبي ذكرهم لأسم”مرزوقة”، فقد قال البروف المتحدث أن الاسم بخلاف المعنى المعتقد بأنه مشتق من الرزق بل أن معناه سيء ولا ينبغي التسمية به قطعًا!
    بالمناسبة كاتبنا المتميز !
    حضرت معك برنامج عن الكتابة ولا تقل برامجك التدريبية روعة عن كتاباتك ومما ذكرته ولا يمكن أن يمحى من الذاكرة: عن صناعة الفكرة وزيادة المفردات اللغوية للكاتب أنه ينبغي أن ننتبه لأسماء الأشخاص والأشياء حولنا ونتأمل في معانيها ونبحث عن مدلولاتها ومما ذكرت لنا أنه”يمكنكم الكتابة عن كلّ شيء، عن الشارع، وعمّن حولكم من أناس وأشياء وأحداث ومناظر، ثم اقترحت أن يكتب كلّ واحد منهم عن اسمه الذي يُنادى به!”
    منذ تلك اللحظة لا تقع عيني على اسم إلا بحثت عن معناه!
    بحجم جمال روحك المتقدة بالعطاء الذي لا ينضب، نقيد لك الشكر موصولًا بالدعوات،مطوقًا مقيدًا بأن يحفظك الله ويديم وصلك مع كل القرا الذين أحبوك و لايزالون يحبونك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)