سير وأعلام شريعة وقانون

ماذا يحدث في وزارة العدل؟

ماذا يحدث في وزارة العدل؟

دعيت قبل شهور إلى عشاء احتفاءً برجل أقام في السعودية أزيد من خمسين عامًا متواصلة منذ ولادته، ثمّ لأسباب خاصة أضطر إلى نقل عائلته لبلاده الأصلية، وأصبح يقيم عندهم مدة، ويقضي مدة أخرى في المملكة، ولأجل هذه الغاية أنشأ استثمارًا في بلدته، يشبه استثماره التجاري في المملكة. وبعد نهاية السلام واستقرار المجلس، قال الضيف: حينما رجعت إلى بلادي واجهتني وعائلتي مواقف طريفة في اللهجة والتقاليد والطعام؛ بيد أن أصعب شيء أتعبني هو مراجعة الأجهزة الحكومية، وسداد مدفوعات الخدمات، ففي السعودية أستطيع وأنا على فراشي في قرية نائية أن أنجز جلّ أعمالي العدلية والمالية والأمنية، لكني في عاصمة بلادي لا مناص لي من مراجعات وتوقيعات وأختام وأوراق، وخاتمتها دعناياصاحِنراك غدًا أو بعد غد!

إن إنجازات الحكومة الإلكترونية السعودية مذهلة عند المنصف، ولها جوانب تميز إقليمية وعالمية سبقنا بها دولًا كثيرة بخطوات وثابة يشهد بها أهل أولئك البلدان قبل غيرهم، ومن أبرز الأمثلة على هذه القفزة الإلكترونية الحكومية ما نلاحظه ونتعامل به ونتسامع عنه باستمرار فيما يخصّ أعمال وزارة العدل؛ حتى غدت جلّ أعمالها إلكترونية، وأراحت الناس من عناء السفر، وملاحقة المواعيد، وصعوبة التبليغ، وطول الانتظار، وسهلت الحصول على نسخ من الصكوك والأحكام، وتلك نعمة من منن الرب الكريم الوهاب سبحانه، ثمّ هي ثمرة رؤية وتوجيه ومتابعة وعمل، والشركاء الأماجد فيها كثرة كاثرة لا تعلمونهم لكنّ الله يعلمهم، ولعلّ الجوائز التي حصدتها الوزارة محليًا وإقليميًا وعالميًا من عاجل بشراهم.

فإذا أردنا النظر إلى هذه الوزارة السيادية المهمة عبر إطلالة عجلى؛ فسوف نرى أنها ذات موقع إلكتروني ضخم متجدد، ومنصات عديدة، ونوافذ معينة غير عسيرة، وتطبيقات متوالية مسخرة للخدمة والتيسير. ومن هذا الباب نقرأ عن إصدار أزيد من ثلاثة عشر مليون وكالة إلكترونية، وإنهاء مزادات وبيوع علنية عن بعد، واستقبال طلبات تنفيذ بمبالغ تريلليونية، واستضافة عشرات الملايين من الزوار للموقع سنويًا، والتطوير قائم في هذا الجانب، ولن نستغرب ما سيكون فيه من تسهيل وتقريب وتهذيب للإجراءات، وتقليص للأوقات.

وإن تعجب فاعجب من عقد أكثر من إحدى عشرة مليون جلسة تقاضي، نجم عنها أربعة ملايين حكم تقريبًا، إضافة إلى ثمانية ملايين عملية توثيق عقاري، وفي موقع الوزارة إحصاءات تبعث على السعادة والفخر لمن رام الاستزادة، وحتى يرى المراقب أن الأعمال التي كانت تستغرق فيما مضى سنوات أو بضعة شهور أو عدة أسابيع وأيام أضحت تنتهي في دقائق معدودة بلا مبالغة، مع ضرورة الحرص على الضبط والجودة والصحة والدقة، وهي مسؤولية جسيمة، ومطالب أساسية، وأجزم أنها لا تغيب عن حكمة أركان الوزارة وقادتها؛ فهي موضع النظر ومحل العناية.

ليس هذا فقط؛ فللوزارة أعمال لافتة في تفعيل الصلح، والتراضي، والتحكيم، وإصدار الرخص لأطراف من العاملين في الرواق العدلي، والمتعاونين في سبيل بلوغ العدل المنشود، ومنها تطوير الأنظمة الموضوعية والشكلية، مع الحفاظ على مرجعية الشريعة الغراء. ومن هذا الباب زيادة عدد القضاة إلى حوالي خمسة آلاف قاض، مع تفعيل التدريب العدلي عبر مركز ضخم خاص لهذا الشأن الحيوي. ومن الأعمال الحكيمة استعادة القضايا التجارية في محكمة خاصة، وإعادة تقسيم العمل في محاكم مختصة، وربما تستطيع الوزارة في المستقبل استرجاع الاختصاص القضائي من اللجان الإدارية، وفتح محاكم مالية، ومصرفية، وغيرها، وربما تتعاون الوزارة مع المؤسسات التعليمية لتجويد مخرجاتها، وضمان توافقها مع المطلوب العملي، ولهذه المسالك فوائد لأصحاب الشأن، ولتمتين التجربة القضائية والعدلية سواء عند القاضي أو المدعي أو المحامي.

ومما يستبين كثيرًا في عمل الوزارة تسهيل شؤون الزواج عبر العقد الإلكتروني، ووقع لي شيء من ذلك شاهدًا لا غير علم الله! وبالمقابل تجتهد المحاكم في إصلاح ذات البين خاصة مع الأزواج والأسر، وتمضي قدمًا للقضاء على العضل، وإيجاد صندوق النفقة، ولها جهود في جعل تبعات الطلاق وما بعده من حضانة أو نفقة تجري على قسطاس مستقيم وسنن قويم لا يظلم فيه طفل، ولا يؤكل معه حق ضعيف، ولا يجنى فيه على امرأة لا ناصر لها، ولا يشتط به على رجل لأجل دعاوى نشاز تحت لافتة حقوق المرأة، ولا تضمر معه معاني الأسرة والعراقة المجتمعية؛ فالعدل يستوجب العدل، ويستلزم العدول عن سبيل المجرمين، فليس شيء أكمل من العدل الإلهي إذا أحسنا الفهم والتطبيق والنية من قبل وبعد.

كما ارتبطت الوزارة مع أجهزة حكومية تصل إلى الستين، منها وزارة الداخلية، والبنك المركزي، ونظمت سبل التعاون مع السفارات السعودية في الخارج، وأتاحت إجراء التبليغ الإلكتروني، وخدمة الوكالات المتنقلة لكبار السنّ خاصة، والترجمة عن بعد، والتوثيق، وإصدار الصكوك الإلكترونية، بل غدت أعمال بعض المحاكم رقمية خالصة ليس فيها ورقة، وتمكن الفرقاء من التقاضي الإلكتروني، والاستئناف الفوري، والطعن لدى المحكمة العليا، وزيادة على ذلك فللمراجع أن يتظلّم إذا شعر بضيم؛ لأن الوزارة تسعى لإرضاء المستفيد، وتحاول قياس هذا الرضا بأكثر من وسيلة.

ولدى الوزارة فريق إسناد بالتواصل الحي الطيب، وحصل لي شيء من هذا؛ فوجدت منهم التعاون عبر تويتر، والخدمة الفورية في الموقع، والاتصال الهاتفي، والمرتجى منهم دومًا أن يكونوا الأفضل. كذلك نجحت الوزارة في النشر العلني عبر منصة التعاميم، كما تنشر وزارتنا الناهضة بقوة جميع الأحكام والقرارات في مواضعها المناسبة، بالطريقة المناسبة، لمن شاء الاطلاع والاستفادة للعلم أو الدراسة أو الحذر، والبحث الشبكي فيها قريب لمتناول اليد. ولم تكتف الوزارة بذلك إذ شرعت في الترجمة كي تطلع الشركات والعالم الأجنبي على شؤوننا العدلية والقضائية المنبثقة عن ديننا، ثمّ أنظمتنا ومصالحنا، ثم تبني تعاملاتها على وفاقها، فكما لا يرضى الأجانب أن يتحفظ أحد على قانونهم أو يخالفه؛ فشريعة ربنا، وديننا، وأنظمتنا المرعية الصادرة عن ولاة أمرنا أولى بالتوقير من مدوناتهم القانونية.

فيا أيها القراء: من كان يصدق أن هذا الجهاز الضاربة جذوره فيالمشيخيةيمكن أن يعدو في هذا المضمار متقدمًا على زملائه القريبين والأبعد؟ وكم ينشرح الصدر، وتفرح النفس بهذا المستوى من الإحكام والضبط، وبتلك الجهود المتوالية المترافقة مع الإبداع والإبهار، حتى أصبحت الوزارة التي تعني الكافة من أيسر الأجهزة الحكومية حال المراجعة أو ابتغاء نيل منفعة منها، ولعلّها أن تكون لغيرها قدوة، وهي لمثل هذا الموضع أهل، وبهذا الموقع الريادي جديرة حقيقة.

وللتاريخ فوزارة العدل يرجع تكوينها إلى عام (1382) وهي الوزارة الوحيدة التي بدأت عملها لأول مرة في عهد الملك فيصل؛ إذ سمي الشيخ محمد الحركان أول وزير لها في عام (1390)، وجاء بعده الوزراء المشايخ إبراهيم آل الشيخ، ومحمد بن جبير، ود.عبدالله آل الشيخ، ود.محمد العيسى، وأخيرًا الوزير الحالي د.وليد الصمعاني الذي حصدت الوزارة تحت إدارته هذه النتائج المبهجة. ونلاحظ أن الوزراء الخمسة الأوائل كانوا أعضاء في هيئة كبار العلماء، وأسندت رئاسة مجلس الشورى للشيخين محمد بن جبير ود.عبدالله آل الشيخ، وأصبح الشيخان محمد الحركان ود.محمد العيسى من أمناء رابطة العالم الإسلامي، وقبل تمثيل الوزارة في مجلس الوزراء عمل الشيخان الجبير ود.العيسى في منصب رئيس ديوان المظالم أو نائبه على التوالي، والشيخ الدكتور العيسى هو الوحيد منهم الذي خطب على منبر جامع نمرة في يوم عرفة، وارتبط المشايخ إبراهيم آل الشيخ، وابن جبير، ود.العيسى، ود.الصمعاني، بمناصب عليا في المجلس الأعلى للقضاء أصالة أو بالتكليف.

لقد عبر بنا يا قوم زمان كان الواحد منا إذا اضطر لزيارة أجهزة حكومية لاستخراج جواز أو وكالة أو ورقة مدنية، يستخير وربما بحث عن شفاعة، أو وسيط يتحمل العناء بمقابل، ولربما نام صاحب الحاجة تلك الليلة على قلق كأن الريح تحته، وأصبح بعدها على وجل وشيء من الحموضة، ثمّ ذهب لمبتغاه لا يلوي على شيء، وقد يغادر الإدارة التي زارها بحثًا عن مسكن يزيل الصداع، والحمدلله على تبدل الأحوال للأحسن، والله يجعل ديدنا التقدم بلا تراخ، والتحسين بلا تراجع، والتيسير بلا إجحاف، وشكرًا مرارًا لوزارة العدل والعاملين فيها، ولمجلس القضاء وطواقمه، ولأصحاب الفضيلة القضاة الأجلاء البررة، ولجميع من شارك في هذا الإثراء التطبيقي الباهر حقًا؛ حتى صرنا لا نستغرب حين يقول قائل أو يكتب كاتب: ماذا يحدث في وزارة العدل؟

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأحد 24 من شهرِ شوال عام 1444

14 من شهر مايو عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

  1. طرت فرحاً بهذا المقال🤩🤩
    والله من قلب الحدث أستاذ أحمد
    تراهم يتعبون ويعملون ليل نهار حتى أوقات الإجازات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)