حدوث المذاهب الفقهية الأربعة
حجم الكتاب ليس دليلًا على أهميته البتة، فكم من مختصر فيه من النفع والعمق ما لا يوجد عشره لدى كتب منتفخة محشوة. ومن المختصرات النافعة هذا الكتاب بعنوان: نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة الحنفي-المالكي-الشافعي-الحنبلي وانتشارها عند جمهور المسلمين، تأليف العلامة أحمد تيمور باشا، تقديم الشيخ محمد أبو زهرة، صدر عن دار القادري ودار البيارق عام (1416=1995م) ويقع في (96) صفحة، علمًا أنه نشر أول الأمر في مجلات قديمة.
كتب الأستاذ عبدالبديع القادري من دمشق مقدمة الناشر، وأشار فيها لأهمية دراسة تاريخ التشريع؛ لأنها توضح كيفية نشأة هذه المذاهب وازدهارها، وتبين الآفات الدخيلة عليها. وذكر أن الأئمة الأربعة عاشوا تقريبًا في قرن واحد، وفي بيئات متجاورة؛ فمالك التقى بأبي حنيفة في المدينة النبوية وافترقا على محبة. وتتلمذ الإمام الشافعي على الإمام مالك وعلى محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة، بينما درس الإمام أحمد على القاضي أبي يوسف كبير أصحاب أبي حنيفة، وعلى الشافعي، رحمة الله ورضوانه على الجميع.
ولم يكن اختلاف هؤلاء الأئمة عن تشهي وحب إطهار للذات، وإنما هو ضرورة أملاها عليهم واجب الديانة، فأقوالهم تبع لعلمهم واجتهادهم الذي يدينون الله به، ولا بأس بهذا الخلاف المعتبر بعد أن اتفقت أصولهم العقدية، ومعظم أصولهم الفقهية. ومع هذا التشابه فقد جعل الله لكل واحد منهم خصيصة؛ فبرع أبو حنيفة باستنباط علل الأحكام والقياس عليها، وحفظ مالك السنن العملية وأعراف عصر التشريع، وبرزت قدرة الإمام الشافعي على استنباط الأحكام من النصوص بناء على معرفته اللغوية العميقة، وكان الإمام أحمد أكثرهم حفظًا لنصوص السنة النبوية وآثار الصحابة وفتاويهم، فصارت المذاهب الأربعة بذلك مكملة لبعضها. وأما آفتها فالتعصب المذهبي بين بعض الأتباع، مع أنه روي عن كل إمام منهم مقولة تعبر عنها كلمة قالها الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، ومقولة مالك قبله: كل يؤخذ من قوله ويرد إلّا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.
كما أن دراسة التشريع تجلي تطورات الفقه حسب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دون إخلال بالأصول الشرعية، وتثبت أن الفقه وأئمته صمدوا في وجه الأهواء على تباين بواعثها. وهذه الدراسة فوق ذلك جزء من دراسة تاريخنا الذي لا يقتصر على جانب دون آخر، وفي دراسته كشف للزيف والزور الذي فاه به المستشرقون بعد أن رتعوا في تراثنا المخطوط والمطبوع للتلبيس والإفساد، وإضلال فئام من المسلمين تعجبهم الكلمة اللافتة المزركشة، ولو كانت خليّة من العلم والتحقيق، ولا تستطيع مواجهة برهان من نقل أو عقل.
ثمّ نُقل عن كتاب الأعلام للزركلي تعريف مختصر بالمؤلف أحمد بن إسماعيل بن محمد تيمور (1288-1348=1871-1930م) الذي ترمل وهو في التاسعة والعشرين من عمره، فعكف على الكتب في مكتبته العامرة التي تصم ثمانية عشر ألف مجلد، وهي المكتبة النفيسة التي نقلت عقب وفاته لدار الكتب المصرية، علمًا أن مؤلفاته تتجاوز الثلاثين، ونشأت في مصر لجنة مشرفة على نشر الكنوز التيمورية، وقرأت أخيرًا أنها جمعت ضمن أعمال كاملة بطبعة على منظرها سيما الجودة.
بعد ذلك نقرأ مقدمة باهرة كتبها من القاهرة الفقيه الشيخ محمد أبو زهرة (1316-1394=1898-1974م) وعنوانها دراسة تحليلية في تاريخ الفقه الإسلامي، ومن المهم الإشارة إلى أن للشيخ أبي زهرة كتاب عن تاريخ المذاهب صمن كتبه المطبوعة التي تجاوزت العشرين، وهو لم يلتقِ بتيمور باشا فيما يبدو، لكنه جالس أصحابه، وسمع من أهل الاختصاص به. وفي مقدمة الشيخ أبي زهرة كلمات من أرقى الكلمات، وأكثرها إيمانًا واتباعًا ودلالة، وليست بمستغربة منه لتخصصه، وأبحاثه العلمية، وتدريسه لطلبة الشريعة والقانون، وعزوفه عن المناكفة أو البحث عن الشهرة بالَّلجج أو خوض الُّلجج!
فمنها قوله: ماكان اجتهاد الصحابة إلّا قبسة من نور النبوة؛ لأنهم أعرف الناس بمقاصد الشريعة وغاياتها، فليس رأيهم الرأي ولكنه الاتباع والاهتداء، حتى قال في أقوالهم الإمام مالك: هو رأي وما هو بالرأي! بل ألحق كثير من الأئمة أقوالهم بالسنة؛ لأنها إما سنة نسبوها لأنفسهم خشية الخطأ بالقول على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنها مستلّة من وحي السنة المحمدية، ومستقاة من مشكاتها.
وبذلك ترك الصحابة رضوان الله عليهم ثروة مثرية من الفقه النبوي، ومع اختلاف الصحابة والتابعين فقد كان اختلافًا في الفروع الفقهية لا ضرر فيه؛ إذ قصدهم الوصول للحق، وليس في واحد من الآراء هدم لنص، أو نقض لأصل، أو مصادمة لمقصد من مقاصد الشريعة. وقد جاء من بعدهم علماء أفذاذ أقاموا غروس العلم على ما ورثوه؛ فلم يخرجوا عن كتاب الله، أو سنة نبيه، ولم يسلكوا غير سبيل المؤمنين.
ومع كثرة فقهاء الشريعة في تاريخ الإسلام، فلم يتبع منهم سوى أربعة من أصحاب المذاهب الباقية، ولم يكتب لغير هذه المذاهب البقاء، إما بسبب سكنى أولئك الأئمة والعلماء في مدينة غير مقصودة للعلم، أو أنه لم يكن للعالم تلاميذ أقوياء ينشرون علمه ويخدمونه بالتدوين، أو لم يكن لهم تأييد سلطان يُبقي على مذاهبهم الشرعية. وهذا أمر لافت؛ فحتى فقهاء المدينة السبعة على عظمتهم لم يحفظ لهم مذهب مثل الأئمة الأربعة، ومثل السبعة فقهاء كبار لم يقم لهم مذهب كالأوزاعي، والليث، وسفيان، وغيرهم.
ووصف أبو زهرة كتاب تيمور بأنه كتاب صغير في حجمه، كبير بما اشتمل عليه، ومثله جدير بأن يعتمد ما فيه، ويُطمأن إليه؛ لأنه يُرِجع الكلام لمصادره التي بلغت حسب إحصاء الشيخ محمد قريبًا من مئة مرجع؛ وبذلك سدّ الكتاب فراغًا في المكتبة والتأليف بما حبى الله صاحبه من مزايا كتابية مثل الدقة، والإيجاز من غير إخلال، وجمال العبارات جمالًا هادئًا.
كما تظهر في هذا الكتاب حسبما أبان الشيخ الفقيه أبو زهرة عبقرية التصنيف لدى العالم أحمد تيمور بالتناسق دون تنافر حتى لو كان الكلام مجموعًا من عدة مصادر؛ فليست الكتابة العلمية مجرد إنشاء فيه جمال اللفظ أو سبك عبارات، وإنما هي تأليف بين الألفاظ والمعاني، وجمعها من بين المتناثر لتكون كيانًا قائمًا بذاته كأنما ألفه صاحبه من تلقاء نفسه؛ فليس التأليف ضجة عبارات، وترديد أقوال كما يقول الشيخ أبو زهرة، ولا ينبئك مثل خبير.
أما المؤلف فذكر في تمهيده أن أهل المدينة اتبعوا فتاوى عبدالله بن عمر، وأهل الكوفة تابعوا فتاوى عبدالله بن مسعود، وأخذ أهل مكة بفتاوى عبدالله بن عباس، وتفقه أهل مصر على فتاوى عبدالله بن عمرو بن العاص، وكان لانتشار الصحابة في البلدان أثره على رسوخ علم كل صحابي في الموضع الذي حلّ فيه؛ حتى حفظت لنا سيرهم أسماء التابعين الذين جالسوا الصحابة، واستوعبوا علومهم، ونقلوها، مثل علقمة، وعكرمة، ومجاهد، ونافع، والنخعي.
ثمّ عرج المؤلف على المذاهب المندثرة والباقية، وقال عن المذهب الظاهري: إنه درس بدروس أئمته، وإنكار الجمهور على منتحله، ولم يبق إلّا في الكتب التي لو عكف عليها متكلّف لما ظفر بطائل! وبدأ بعد التمهيد بالحديث عن المذاهب ابتداءً بالمذهب الحنفي الذي يسمى مذهب أهل الرأي بسبب قلة الحديث الصحيح في العراق، فمهروا بالقياس، وصار لأبي حنيفة مقام في الفقه لا يُلحق، وزاد من انتشار المذهب تولية القضاء لأبي يوسف من قبل الرشيد، ثمّ زاد انتشاره بتبني الدولة العثمانية له، وفشا حتى ندر أن تخلو بلاد منه، فللأسبقية والعامل السياسي تأثير في نشر المذهب.
كما تحدث عن المذهب المالكي الذي تميز بمتابعة عمل أهل المدينة، وانتشر في بقاع عديدة، وكان طريق الحج المغربي والأندلسي يعبر بالمدينة فأخذوا فقه مالك لديارهم، وبعُد عليهم العراق وفقه أبي حنيفة مما أقصاه عن بلادهم القصية، هذا غير أن الحكام حملوا الناس على مذهب مالك في الأندلس، خاصة حينما بلغ هشام بن عبدالرحمن الداخل قول مالك لبعض أهل الأندلس الذين أثنوا على هشام وسيرته: نسأل الله أن يزين حرمنا بملككم! وللمذهب المالكي انتشار في بلدان إفريقيا، والخليج العربي، وبلاد أخرى، وله قبول عند بعض الشيعة.
يأتي بعدهما الإمام الهاشمي الشافعي الذي كان له مذهب بالعراق وآخر بمصر بناء على تنقلاته، ولكل مذهب شيء من سمات البيئة المحلية المنتسب إليها. وساعدت دول على نشر مذهبه خاصة عندما سعت الدولة الأيوبية لإنعاش المذاهب السنية في مصر عقب القضاء على الحكم الفاطمي “العبيدي” الذي أقصى مذاهب أهل السنة إلّا مذهب مالك. كما سعى أبو زرعة حين ولي قضاء دمشق لمكافأة من يحفظ مختصر المزني بمئة دينار، ولأتباع الشافعي نشاط علمي في بثّ مذهبه وأقواله، وفي إشاعة سيرة إمامهم الذي كان من زينة الدنيا ومتعها.
ومع شهرة الشافعي ومذهبه إلا أنه لا حظّ له في المغرب والأندلس حتى روي عن بعض فقهائهم عندما ذكر له اجتهاد الشافعي أنه سأل: ومن هو الشافعي؟! وقد يكون هذا بسبب غياب خبره عن تلك البلاد، أو من التعصب الممقوت؛ لأن بعض أصحاب مالك يجدون على الشافعي ويلومونه بحجة أنه أخذ العلم عن مالك ثم خالفه، وهي حجة داحضة! ومذهبه منتشر ومسيطر على الجزر الإسلامية في جاوة وما حولها، هذا غير انتشاره في بلدان عربية وإسلامية كثيرة زاحم فيها المذهبين السابقين عليه.
أخيرًا جاء المذهب الحنبلي وهو أقل المذاهب الفقهية شيوعًا لتأخره عن المذاهب السابقة، وتضييق الساسة عليه، والتنفير منه بسبب تمسكه الشديد بالنصوص الثابتة، والتزامه العقدي الصارم، وهي مناقب جعلها خصوم المذهب مآخذ عليه، ولبّسوا على الناس الذين يتلقف بعضهم الأقوال الطائرة دون تمحيص. وأول إمام حنبلي حلّ بمصر هو الحافظ عبدالغني المقدسي، وأكثر انتشار المذهب في الجزيرة العربية وأجزاء من الشام والعراق، ولعدد من العلماء المقادسة فضل على المذهب وعلومه.
ومما ورد في الكتاب خبر مدرسة أنشأها الوزير الأيوبي الصالح وفيها تُدرس المذاهب الأربعة مع التركيز على مذهب الشافعي. وقد أشار الشيخ أبو زهرة إلى أن هذه المذاهب هي مذاهب الأمصار الإسلامية عامة التي من سمتها أنها قد تكون متبوعة في أيّ بلد، ويوجد أربعة غيرها تقتصر على بقاع محدودة وطوائف محصورة، مثل الفقه الزيدي والجعفري والأباضي والظاهري.
من إتمام الفائدة يشار إلى أنه من حكمة الملك عبدالعزيز رحمه الله أن جمع الناس في الحرم المكي على إمام واحد بعد أن كانوا متفرقين على أربعة أئمة حسب المذاهب، واكتمل الجمع عام (1376=1956م) في عهد الملك سعود. ومن لطيف الفوائد أن للشيخ بكر أبو زيد رسالة ماتعة عن التحول المذهبي وأسبابه، وأن مدينة الأحساء السعودية تتميز بوجود المذاهب السنية الأربعة مع المذهب الجعفري، ولا غرو أن تكون بيئة علمية منجبة.
إن الفقه الإسلامي لفقه عظيم جليل القدر، فيه الديانة والتعبد، وفيه الخلق والأمانة، وفيه تعليم التفكير والتحليل، وفيه الموازنة الدقيقة ليس بين الخير والشر فقط، وإنما بين خير وخير، وبين شر وشر. وقد فتح الله به على أئمة كبار قدماء ومعاصرين؛ فمنهم المجتهد في مذهبه، ومنهم المجتهد المطلق على ندرتهم، ولم يسمع عن أصحاب المذاهب الأربعة، ولا عن أحد ممن كان قبلهم أو بعدهم نيته لتأسيس مذهب، ولم يدّع أحد منهم أن رأيه رافع للخلاف، أو جامع للأمة، أو واجب الاتباع، ولم يتجرأ أحد من هؤلاء الكبار على سنة النبي كما يفعل الصغار، بل تواردت عنهم المرويات بضرب أقوالهم بعرض الحائط إذا خالفت الصحيح من سنة النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 20 من شهرِ رمضان المبارك عام 1444
11 من شهر إبريل عام 2023م
3 Comments
شكرا جزيلا لك دكتور.
ما كنت أعلم بوجود هذا الكتاب لولا مقالتكم هذه.
شكر الله لكم، وتراث تيمور جدير بالانتفاع منه.
تسلم يمينك أستاذي الكريم ، مقال جميل لطيف