قراءة وكتابة لغة وأدب

وما أدراك ما الأدب؟

وما أدراك ما الأدب؟

أيّ قراءة ليست عميقة، أو متعجلة، ينتج عنها آراء سطحية، أو عبارات جميلة المبنى معيبة المعنى، فتصير الكلمة جاهزة يسهل الوصول إليها، والاستدلال بها كأنها مسلّمة قد فُرغ منها بلا حاجة لاستئناف. وقد كُتب لمثل هذه القوالب الذيوع لأسباب منها اختصارها، وجمال عبارتها أو سهولة حفظها واستدعائها، أو لأنها تريح الكسول عن التعب أو البحث، وترضي غرور بعضنا، أو لصدورها وتكرارها من رموز ثقافية، وربما أضفت على صاحبها مسحة رقيقة من دعاوى الفهم والنخبوية.

من هذه الكلمات الطاغية الباغية، والمفاهيم الخاطئة الماكرة، المرتبة الدونية التي تُصبغ بها العلوم النظرية أو جزء منها، والإزراء بها وبأهلها، مع التغني بالعلوم التطبيقية والحديثة، والانبهار بتوغل أمم الغرب والشرق فيها. والغريب أن الذي يقول هذا القول ليس لديه منجز واحد في العلوم التي يطنطن لها؛ بل وليس لديه مشروع أو عمل يقود للنهوض بها، وأعجب من ذلك أن الغرب المتخذ مثالًا فيما يبرع فيه؛ يعيش حال افتتان بالعلوم النظرية، وتقريب لرموزها في مطابخ القرار والسيادة والتدبير، وأعجب من ذلك كله أن بني قومنا يستنكرون العلوم النظرية بأدوات نظرية!

فنقرأ لهؤلاء أو نسمع منهم تنقيصًا لعلوم الأدب والشعر، والدراسات التاريخية والبلدانية، وعلوم الأنساب والمجتمع، والأبحاث اللغوية والبلاغية والنحوية، وقد يقلّل بعضهم من المرويات الشفهية، وأيّ شيء غير مكتوب. وبعض الحق الوارد في هذه الآراء ممزوج بباطل، أو تقليد، أو هوى، وصواريخهم وقذائفهم كلامية صرفة، خالية من الذكاء الطبيعي أو الاصطناعي! ولا يعني هذا التوجس رفض تلك الآراء كليّة، واعتماد المقابل لها بأجمعه، وإنما غاية ما هنالك دعوة للتوازن الذي يجئ من الاتزان، والروية، والاستقلال، والبعد عن فئوية التفكير والعمل. ولم أذكر من تلك الأصناف البشرية المبخوس المغبون الذي لا يرفع بالشريعة الغراء وعلومها رأسًا؛ فسقوطه مغنٍ عن إسقاطه، وجعله ذيلًا مهانًا لا رأسًا متطاولًا.

ومما ينقض مقولهم دون تقصٍ للشواهد، القصيدة التي قالها الخزاعي منتصرًا بالنبي صلى الله عليه وسلم على قريش وأحلافها الناكثة لعهد صلح الحديبية، ومنها قصيدة أبي تمام فيفتح عمورية، مع أن عمورية بلدة صغيرة، ومعركتها ليست من معارك دولة بني العباس المهمة على قلة الفتوحات والمعارك الكبرى في عصرهم قياسًا لعصر بني أمية الأقصر مدة والأعظم توسعًا، إلّا أن القصيدة والقصة المحكية معها صنعتا مجدًا وخلودًا للخليفة المثمن المعتصم، وهو ليس بثقافة أخيه المأمون، ولا بعظمة والده الرشيد أو جده المنصور.

كذلك منها ما سبكه المتنبي لسيف الدولة من سيرة بطلها أمير شجاع كريم لا تُنسى أيامه ومكارمه، وما رمى به كافور الإخشيدي من مقابح هو من بعضها بُراء، وسيرته أحسن مما تُوحي به أشعار أبي الطيب، وصدق الفاروق عمر رضوان الله عليه حينما قال لأبناء رجل مدحه زهير بن أبي سلمى ما معناه: إن ما أعطيتموه ذهب، وما قاله فيكم من مدح باقٍ يُروى، ولهذا تمنى عضد الدولة وهو حاكم مطاع أن يكون هو القتيل المصلوب مكان وزير عز الدولة أبي طاهر بن بقية، حتى تُقال فيه قصيدة ابن الأنباري الباهرة: “علو في الحياة وفي الممات“.

كما تحفظ كتب الأدب قصيدة أبي إسحاق الإلبيري؛ إذ قال المقري فينفح الطيب“: لما استوزر باديس صاحب غرناطة اليهودي الشهير بابن نغرلَّة وأعضل داؤه المسلمين، قال زاهد إلبيرة وغرناطة أبو إسحاق الإلبيري قصيدته النونية المشهورة التي منها في إغراء صنهاجة باليهود: ألا قل لصنهاجة أجمـعـين *** بدور الزمان وأُسد العـرين، فكان ما كان من هبّة أراحت البلاد والعباد آنذاك، ويُشاع أن صلاح الدين استعجل لتحرير القدس من الصليبيين بعد أبيات استغاثة وصلته على أنها من مقول المسجد الأقصى.

وفي واقعنا المحلي نجد أثر القصيد الشعبي في عرضات الحرب التي يؤديها الرجالوالرجال فقط، حتى أن بعضها تمثل حافزًا على النشاط والحيوية والمشاركة مثل قصيدة العونيمني عليكم يا أهل العوجا سلام *** واختص أبو تركي عمى عين الحريب، وذكْر العوني يدعونا للإشارة إلى قصيدته الذائعةالخلوجوأثرها في عودة العقيلات من ديار تجاراتهم وقوافلهم إلى القصيم. ومن هذا الباب التنويه بقصائد ذات تأثير وامتداد مثل استغاثة الهزانيدع لذيذ الكرى وانتبه، بل يصل الأمر إلى أن بعض أبيات الشعر أو الحكم المروية تفعل بالمنصت إليها ما لا تبلغه كثير من الحجج والمواعظ وألفاظ الاسترحام، وكم من مرة ومرة حالت دون صنيع أرعن، أو عجلة مذمومة، وجاءت بخير أو تحقيق مطلوب.

ثمّ إنه يناسب الإشارة إلى أن هذه الخاصية ليست قاصرة علينا؛ ففي التراث الأدبي الغربي يأتيهاملتوهو من شخصياتشكسبيربالمرتبة الثانية بعد المسيح عليه السلام، والأدب سلاح قوي اعتصم به الأفارقة لاسترجاع هويتهم، واعتمدوا سياسة المقاومة بالأدب كما فعل الأديب الكيني الكبير “نغوجي”، ولاذت بالأدب شعوب لاتينية للتعبير عن مطالبها وإعلان مظالمها عبر الرواية، وارتبطت كثير من الأحداث المهمة بالأدباء والكتّاب؛ فلا تكاد بعض المفاصل التاريخية أن تُسترجع دون الإشادة بسير كتّاب ومفكرين أثروا فيها وأثروها، وكان نتاجهم الكلامي من الموقظات أو المحركات أو الموجهات.

لأجل هذه المكانة أصبحت للأدب جوائز عالمية، من أشهرها جائزتا نوبل والملك فيصل، وله جوائز محلية وإقليمية لا تُحصى. وحظي الأدباء بمكانة كبرى منذ القدم؛ إذا ارتبطت الوزارة ومناصب الشورى بالكتابة والشعر، حتى عمر الأدباء المجالس الحكومية العليا، ونزل نابليون الثالث من عرشه للترحيب بالروائي الفرنسيفيكتور هوجوتقديرًا لأدبه ومنزلته في فرنسا، ونافس الزعماء والساسة والأثرياء الأدباء في ميدانهم شعرًا ونثرًا عن استحقاق أحيانًا، أو بعريض الدعوى أحيانًا أكثر، وطالت أعمار مصنفات أدبية، وكثر الاستشهاد بها مثل كليلة ودمنه لابن المقفع، والبيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد، ومعلمة الأغاني للأصفهاني.

ليس هذا فقط؛ بل هجم على ساحة الأدب أناس من أصناف مهنية وعملية، ومن طبقات اجتماعية واقتصادية، وكان هجومهم هجومًا فيه قوة من الحق والبرهان مؤيدة، أو هجومًا يشبه الاقتحام الغوغائي الغاشم! وبعضهم سلك هذا الطريق لما وجدوه في الأدب من تأثير وراحة نفس، وربما جعله البعض مطية لبغية من أعطية مادية أو معنوية أو وظيفية، ولا يمنع من أن يكون الأدب لآخرين كالعصا لموسى عليه السلام التي لها غرض أساسي عنده، وله فيها مآرب أخرى، وليس من بأس مبدأي في أن يكون المرء مختصًا بعلم، وهو أديب في الوقت نفسه، وما أكثر الشواهد. إن الأدب هو أحد المنصبين كما قيل سابقًا.

كما يمكن التنبيه إلى عناية المستشرقين بآدابنا ترجمة وتحقيقًا ودراسة، وقد يكون لهذه العناية مغزى علمي خالص، وربما تكون لغايات فهم الشرق تمهيدًا لاحتلاله أو تنصيره، أو تغدو سبيلًا لتشويه صورتنا وإطراب الذائقة الغربية المفتونة بالغرائب والأعاجيب من سحر الشرق وأخبار ألف ليلة وليلة وأمثالها؛ وأيًا كان فلولا الأهمية لما فعلوا. وفي هذا السبيل كان من نتائج الاحتلال القبيح لعالمنا ومقدماته البغيضة أنهم حفظوا المخطوطات الأدبية واللغوية التي سرقوها من بلادنا، وأودعوها في مراكزهم، وجعلوها في حرز ومأمن، ثمّ درسوها وربما أفاد منها باحثون من بلاد العرب والمسلمين فيما بعد.

إن الأدب بمعناه الواسع مثل جواز السفر لمناطق مختلفة من الجمال والتأثير والخلود والمال ومنادمة الكبراء وغيرها، وهو يُبنى على التفكير والكلام مثل سائر العلوم؛ ولا مثلبة في ذلك وإن قال قائل: إنه مجرد كلام! فهل يخلو أيّ علم من الكلمات في جميع مراحله؟ وهل يعيش الإنسان بغير الكلام والحديث الذي له لذة تزداد ولا تنقص؟ وفوق ذلك فإن الكتب المقدسة كلها كلام، وخير الكلام كلام ربنا سبحانه وتعالى المنزل في القرآن الكريم، ثمّ الوحى الذي كان يوحى إلى النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، وحفظته دواوين السنة الشريفة.

فيا أيها الأديب ويا أيتها الأديبة: استمروا بالكتابة والحديث نثرًا وشعرًا؛ فإنكم درر مضيئة في سلاسل غالية، وإنكم لمعلمون هداة، وقادة رأي أوفياء لدينكم وبلادكم وقومكم. واعلموا علم اليقين الذي لا يزول ولا يحول أن لجهدكم ثمرة مرجوة مأمولة، ومن الحتمي المؤكد أنكم إن لم تدركوها في الدنيا؛ فسوف تجدونها وآثارها في صحائف أعمالكم يومًا ما، والله يكتبها لكم ضمن الصالحات المقبولات، ومما يقربكم من مولاكم، وينيلكم رضاه وجنانه ورؤيته سبحانه.

ثمّ أيا قوم: اجعلوا لكم نصيبًا من الآداب وعلومها، ومن اللغات وفنونها، واحفظوا أجود الشعر والنثر والحكم والأمثال دون تسليم بمحتواها، وشاركوا بهما ترديدًا أو إنشاءًا حسب المناسبة والمقام، وإن من حفظ ووعى لقمين بأن ينطق غالبًا بمثل جنس حفظه أو أحسن منه. وفي جميع الأحوال ففي الأدب إسعاد روح، وإجمام نفس، وسعة فكر، وطلاقة لسان، وهو خير من الحصر والعياية، وأفضل من إعادة الكلام الناجم عن فقر لغوي، وأجدر من استخدام المستهلك من الألفاظ والتراكيب والجمل، وكم في مكتبتنا العربية الأدبية من كتب مختصرة وواسعة تستحق أن تكون بين يدي الواحد منكم يقلّبها مستمتعًا متعلمًا في أيّ وقت، وبأيّ صفة؛ وسيجني من ثمارها في الفصول الأربعة، وأيًا كانت الأجواء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

ليلة الخميس منتصف شهرِ رمضان المبارك عام 1444

06 من شهر أبريل عام 2023م

Please follow and like us:

5 Comments

  1. دخل الحارث بن نوفل بابنه على معاوية، فسأله: ما علمت ابنك؟
    قال: القرآن والفرائض.
    قال: روِّه من فصيح الشعر، فإنه يفتح العقل، ويفصح المنطق، ويطلق اللسان، ويدل على المروءة والشجاعة، ولقد رأيتُني ليلة صِفّين وما يحبسني عن الفِرار إلا أبيات عمرو بن الإطنابة، حيث يقول:
    أبت لي عِفّتي وأبى بلائي *** وأخذي الحمدَ بالثمن الربيحِ

    وإِقْدامِي على المَكْرُوهِ نَفْسِي *** وضَرْبِي هامَةَ البَطَلِ المُشِيحِ

    وَقَوْلِي كلَّما جَشَأَتْ وجاشَتْ *** مَكانَكِ، تُحْمَدِي أَو تَسْتَرِيحِي

    لأُكْسِبَها مآثِرَ صالِحات *** وأَحْمِي بَعْدُ عن عِرْضٍ صَحِيحِ

  2. لا عجب أن ما تكتبه يستوقفنا، مقالة ” تستحق أن تكون بين أيدينا نقلبها مستمتعين بها، وبأيّ صفة؛ و سوف نجني من ثمارها في الفصول الأربعة، وأيًا كانت الأجواء!! ”
    قوة الأدب، ومبلغه في النفس عظيم، ومن الأوصاف المقرّبة لي مقولة أحد الأدباء..
    وليس بشاعر أو أديب من إذا أنشدك لم تحسب أنّ سمعه مخبوءٌ في فؤادك،وأن عينك تنظر في شغافه، فإذا تَغزَّلَ أضحككَ إن شاء، وأبكاك إن شاء، وإذا تحمَّسَ فَزِعت لمساقط رأسك، وإذا وصف لك شيئًا هممت بِلَمْسِه،حتى إذا جئته لم تجده شيئًا، وإذا عَتِبَ عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك، وإذا نَثل كنانَتَهُ رأيت من يرميه صريعًا لا أثر فيه لقذيفة ولا مُديةٍ، ولكنها كلمة فتحت عليها عينهُ، أو ولجت إلى قلبه من أذنه، فاستقرت في نفسه،وكأنما استقر على جمر!
    وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه، وإذا رثى خِفت على شعره أن يجري دموعًا،وإذا وعظ استوقفت الناس كلمته، وزادتهم خشوعًا،وإذا فخر اشْتُمَّ رائحة المُلْكِ،فحسبت أنما حفَّت به الأملاكُ والكواكب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)