سير وأعلام عرض كتاب

عبدالله بن خلف الدحيان: علامة الكويت

عبدالله بن خلف الدحيان: علامة الكويت

من كثرة ما سمعت عن مصباح الكويت الوضاء وعالمها الكبير الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان، لم أتصور أن تكون وفاته بعيدة نوعًا ما، ولم يدر بخلدي أنه انتقل إلى عالم البرزخ وهو دون الستين من عمره، وما عرفت هذه المعلومات الأولية -لجهلي وقصوري- إلّا بعد قراءة كتاب لطالما سمعت عنه، وحين قرأته عجبت كيف أستطاع المؤلف جمع هذه المادة الجزلة، خاصة مع صوارف الحياة، وطول العهد، وغياب جلّ الشهود، والضنانة البعيدة عن المحمدة التي بُلي بها أقوام يحتفظون بمخطوطات، ومراسلات، وتسجيلات، وأخبار!

عنوان الكتاب: علامة الكويت الشيخ عبدالله الخلف الدحيان: حياته ومراسلاته العلمية وآثاره، تأليف محمد بن ناصر العجمي، صدرت طبعته الأولى عن مركز البحوث والدراسات الكويتية عام (1415=1994م). ويقع في (458) صفحة مكونة من تصدير بقلم أ.د.عبدالله يوسف الغنيم، ثمّ تقاريظ لثلاثة من العلماء هم المشايخ العالم محمد بن سليمان الجراح، والأديب الشيخ إبراهيم بن سليمان الجراح -وكلاهما عاصرا المترجم- والدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، فمقدمة يعقبها بداية الترجمة، ثمّ ثمانية فصول وثمانية فهارس واستدراك أخير، فالمصادر والمراجع التي بلغت مئة وخمسة وعشرين مرجعًا.

ومع مرور مئة عام إلّا خمس سنوات على وفاة الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان (1292-1349)، إلّا أن عالم الكويت الكبير حاضر في مسيرة العلم الشرعي بالكويت والمنطقة، ولا غرو أن يكون ذلك كذلك وقد تراسل هذا العالم مع علماء المسلمين في أصقاع كثيرة، وحرص على الملاقاة في الحج وغيره من الرحلات، وتابع صدور الكتب ونوادر المخطوطات حتى تملكها واستوطنت الكويت من بلادها الأصلية، وصار بعضها وقفًا محفوظًا فيما بعد، هذا غير ما يصله من رسائل وكتب وأسئلة وأجوبة، وغير طلبة العلم الذين نهلوا من علومه، وتخرجوا عليه.

لذلك فعلاقاته المشيخية متنوعة جدًا سواء بالتتلمذ في الكويت أو الزبير أو غيرهما، وبالمزاملة الوفية من قبله لمن شاركوه في الطلب أولًا، وفي الأداء ثانيًا، إذ حماه الله بفضله من تنافس الأقران وتهافت بعضهم على المشاحنة. ومن سبل العلائق المتينة بالعلم وأهله المكاتبة التي عبرت الحدود، وتجاوزت أعدادها المحفوظ، ولو ظهرت لجاءت في مؤلف نافع. وقد بنى الصلات بالحج والرحلة، أو بالمذاكرة والسؤال، أو باقتناء الكتب والمخطوطات، أو بالإجازة التي منح إياها، ولا عجب بعد ذلك أن يقول حاج من جاوة لحاج آخر من الكويت: ليت أن عبدالله بن خلف كان عندنا! ثمّ يشرع بالبكاء فيندهش ابن الكويت من انتشار خبر عالمهم الراحل في بلدان بعيدة.

فإذا أردنا الوقوف على صورة عن حياة هذا العالم العامل في بلاده، سوف نجد العناية بالعلم وطلبته لدرجة التعاهد الدائم، والحرص على الكتاب تملكًا وقراءة وإضافة عليه من الفوائد والتعليقات؛ وكم في تعليقات العلماء والأدباء على جوانب الكتب وحواشيها من فوائد لو جمعت لكانت مادة ثرية مفيدة، وهي أمنية تسبقها أختها الكبرى بحفظ مكتبات أولئك العلماء والمثقفين، كي لا تندثر بالإهمال أو سوء التدبير، أو لا تضيع بين الباعة، أو تلقى في مكان لا يليق بها.

كما أنه درّس علوم التفسير والحديث والفقه، وكان بيته ومجلسه مفتوحين للناس دون تمييز، وهما متاحان للفائدة، وقضاء الحوائج، والوعظ، وليس لشيء من أمر الدنيا. وله طلاب كثر من أبرزهم في خارج الكويت الشيخ عبدالرحمن الدوسري، وله مكتبة قيمة بما فيها من كتب ومخطوطات، ومنها مخطوطة بقلم شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب مهداة من الشيخ التاجر السياسي فوزان السابق، ومن علماء آخرين في نجد والأحساء والعراق والشام، وبعض خطبه ومواعظه محفوظة مجموعة في كتاب، والمفقود أكثر.

ومن خبره أنه رفع عن الناس الحرج فكتب لهم الوثائق، وعقود النكاح، وفي ذلكم الزمن ندر الكتبة؛ فكان فضل من ينذر نفسه لهذه المهمة كبيرًا على معاصريه، وعلى مجتمعه، وعلى التاريخ، وعلم الوثائق شاهد صدق. وفي حياة شيخنا يظهر سعيه الحثيث لقضاء حاجات من قصده طالبًا أو مستشفعًا، ولم يتوقف عند هذا الحد؛ إذ بادر لمتابعة بيوت الذاهبين للبحث عن الرزق في عرض البحار مع أنه غير مسؤول عنهم، ولاحظ أهل بيته نقصان كمية الأرزاق كلّ صباح لأنه يتصدق منها يوميًا، وروي عن مؤذن مسجده أن الشيخ يشتري منه العنب، ويرسله مفرقًا لبيوت المحتاجين وغيرهم.

كما حظي الشيخ الدحيان بالمحبة والتوقير من الناس عامتهم وخاصتهم؛ حتى أن مسجده يُقصد للصلاة فيه ولو بعدت المسافة إليه، وكانت قراءته خاشعة دون تكلّف، وإنما تخرج القراءة الخاشعة من القلب المعمور بإجلال كلام الله، وممن يقرأ بعد تدبر وتعظيم لخطاب الرب الجليل سبحانه. ومما لا تخطئه العين شدة محبة طلابه له، وهذا واضح في تقريظ الشيخين الشقيقين المعمرين من آل الجراح للكتاب، وفيما حواه الكتاب من أوصاف، وكلمات، ومراثي شعرية ونثرية.

فهو رجل مهيب الطلعة، نوراني الوجه، خفيض الصوت، وإنه لزينة للبلاد، وموضع الثقة والطمأنينة الشرعية من الأهالي، ومفزع لطلاب العلم والنجدة، ويذكر بالسلف الصالح في هديه وسمته، ومن أخصر الشهادات وأعمقها قول مؤرخ الكويت الشيخ عبدالعزيز الرشيد عن الشيخ الخلف إنه أجلّ علماء الكويت. وبعد أن توفي أضحى محل الوعظ مقفرًا كما قال الشاعر الشيخ ابراهيم الجراح، وبكاه الكافة حتى لكأنه استودع ألسنة الورى وعيونهم درًا فحان أداء حسب تعبير باهر للشاعر صقر الشبيب، وغدت الكويت برحيله وكل فرد من أهلها كَلِم الضمير يجود في عبراته كما يصف الحال الشيخ عبدالله النوري. ولو وقفنا مع كل جملة ذات دلالة في المراثي لما أحاط بها مقال واحد؛ علمًا أنه رثي بمئة وأربع عشرة قصيدة، واستمر ابن أخته يقرأ على الناس ما كتب في خاله من رثاء كل ليلة لمدة تجاوزت شهرًا ونصف الشهر.

ومع أن الشيخ العالم ابن خلف لم يعرف عنه غشيان مجالس الكبراء والاختلاط بهم، وحين وصلته أعطيات من أمير الكويت تعامل معها بزهد وورع، مع استصحاب مراعاة مكانة الحاكم الذي قدّر للشيخ رفضه قبول الأعطية، ولم يحمل عليه في نفسه، والدليل أن الشيخ أحمد الجابر أصر على تولية الشيخ عبدالله ابن دحيان قضاء الكويت بعد وفاة القاضي من أسرة العدساني، ولم يتزحزح الأمير عن رأيه الذي رأى فيه تحقيق الصالح العام حتى لو تمنّع الشيخ ابن دحيان.

فوافق الشيخ عبدالله على هذه المهمة على أمل ألّا يطول له بها عهد وقد حصل بوفاته عقب ذلك بسنة واحدة أو أقل، ولم يتقاض على هذا العمل أجرة، وكان يحث المتخاصمين على الصلح قبل النطق بالحكم، ومن تبجيل شيخ الكويت له أنه يضع أحكام قاضيه الشيخ الدحيان على رأسه إذا وصلته كي يعلم القاصي والداني أنها مقدمة على كلّ شيء؛ فقيمة القضاء تكمن في الاستقلال والاستقرار والمضاء الناجز. وبعد أن توفي الشيخ العالم القاضي شهد أمير الكويت الشيخ أحمد الجابر، وولي عهده الشيخ عبدالله السالم، جنازته في صبيحة يوم رمضاني، وبعد أن أقيمت ندوة عنه حضرها الأمير وولي عهده، واستمعا لكلمات خمسة عشر متحدثًا تأكيدًا على المكانة التي تبوأها عالم الكويت، وعلى الرزء الكبير بفقده.

أما لطائف هذا الكتاب فمنها أن الدافع لتأليفه هو رغبة الشيخ المحقق محمد العجمي بأن يصنع شيئًا من البر بشيخه محمد الجراح، فما وجد للبر بالشيخ أعظم من الترجمة لشيخه، وذلك توفيق من رب العالمين وهداية؛ لأنه بر بالشيخ صاحب الفضل، وبر بالعلم وأهله، وبالمكتبات والكتب وأصحابهما، وبر بالكويت وجيرانها، وبر بالأمة الإسلامية بتخليد أحد علمائها المتأخرين، والدلالة على فضل أبناء هذا الزمان وسيرهم، وفتح باب من أبواب التصنيف لمن شاء.

ومنها أن بعض مراسلات ابن خلف نجم عنها كتاب أو أكثر، مثل مراسلاته مع عالم الحنابلة بدمشق الشيخ عبدالقادر بدران الذي ألف كتابه “العقود الياقوتية في جيد الأسئلة الكويتية”، ثمّ بعد تراسل آخر أصدر كتابه الثاني بعنوان: “الفريدة اللؤلؤية في العقود الياقوتية”. وكان بين ابن دحيان وبين الشيخ المؤرخ إبراهيم بن عيسى رسالة مؤرخة في منتصف ربيع الأول عام (1336) وفي نهايتها يثني العيسى على إفادة الدحيان له عن حرب الدول، ويطلب منه موافاته بالجديد فيما يخصها، ويبدو أن المقصود الحرب العالمية الأولى، والرسالة تدل على متابعتهم إياها.

كذلك من لمحات الكتاب الثناء على مجموع ابن رميح، وتوثيق بعض ما أحدثه من إزعاج لأهل البدع في بعض البلاد، ومدح عنيزة وأهلها حينما اختار الشيخ العيسى المقام فيها. وفي رسالة من الشيخ الدحيان لابن أخته وعديله الشيخ أحمد الخميس حينما كان يتلقى العلم في الزبير يخبره بأن يوسف ينهض للقيام، ويمشي معتمدًا على الجدار، ولعلّ يوسف هذا ابن للشيخ أحمد، لأنها جاءت في رسائل شخصية بينهما، عثر المؤلف على سبع وثلاثين رسالة منها، توضح أسلوب الشيخ، وحبه للعلم وأهله، ومن اللطائف أن مؤذن مسجد الشيخ الذي بنته أسرة البدر اسمه بلال وهو من الحبشة! ولو نظر القارئ في الكتاب لوجد كثيرًا من الفوائد في الرسائل مع ابن مانع، وابن عوجان، والأثري، والهاشم، والشنقيطي، وغيرهم.

هذه سيرة عالم مات وهو في السابعة والخمسين من عمره، وشيعه الناس في صبيحة يوم الثامن والعشرين من شهر رمضان عام (1349) فأولهم في المقبرة، وآخرهم عند مسجده، وكلهم جاء بقلب حزين، وعين دامعة، ولسان لاهج بالدعاء والثناء، ولعلّ هذه المحبة أن تكون من دلائل القبول، فالناس شهود الله في الأرض، وماذا يرتجي أولئك الصائمون من راحل عن الدنيا وهو حين كان فيها لم يكن من أهلها المقبلين عليها؟!

والحمدلله أن أصبح مركز البحوث والدراسات الكويتية مطابقًا لما أراده مرسوم إنشائه؛ بأن يكون المركز مصدرًا وطنيًا للعلم والمعرفة بتاريخ دولة الكويت وشؤونها السياسية والاجتماعية والثقافية، كما قال معالي البروفيسور الغنيم في تصديره لهذا الكتاب المعروض آنفًا. ولتحقيق هذه الغاية الضرورية يمضي المركز قدمًا في رعاية مشاريع كتابية عن تاريخ الكويت السياسي، والعلمي، والتجاري، والاجتماعي، والخيري، مع حفظ سير أعلامها، وإجراء دراسات مستوعبة لأبرز الأحداث الواقعة في حاضر الكويت وماضيها، مع تقصي آثارها ودقائق أخبارها.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 08 من شهرِ رمضان المبارك عام 1444

30 من شهر مارس عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)