الخيل العراب عند العرب والأعراب
بعد زيارة إلى الكويت صانها الله وبلادنا، رجعت ومعي كتب من نفاستها يحتار المرء بأيها يبدأ على كثرتها، هذا وهي زورة ثلاثية قصيرة، فماذا لو كانت ثلاثينية طويلة؟! والله يبقي فينا حب الكتاب والقراءة؛ ذلك أنه أحد سبل تحصيل العلم وطلبه، وزيادة الوعي، ونفي الجهل. والله يكثر في بلاد العرب والمسلمين المراكز الرفيعة، التي يصرف عليها المال من أجل العلم، وما أجلّ المال الذي تخدم به الأمة وعلومها، وإنه لمال مبارك غير مهدر، وأجره عند الله عظيم، ولسانه في الآخرين باق محمود.
ومنذ كنت في الكويت إلى أن غادرتها وأنا أسارق النظر إلى هذا الكتاب ضنًا به أن ينتهي، ولكن لا مناص من الانتهاء حتى وإن حصل تباطؤ إضافي بسبب دخول شهر رمضان المبارك. عنوان الكتاب المقصود: الخيل العراب عند العرب والأعراب، تأليف اللغوي المؤرخ أنستاس ماري الكرملي، تحقيق ودراسة يحيى عبدالله الكندري، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1441=2020م) عن مركز الجواد العربي (بيت العرب) التابع للديوان الأميري في الكويت، ويقع في مئتي صفحة بطباعة أنيقة، وفيها صور جميلة معرفة للقارئ، ومنسوبة المكان والزمان والمالك أحيانًا.
يتكون هذا الكتاب النفيس من الإهداء فتصدير، ثمّ توطئة بعدها شكر وتقدير، ويليها أقسام الكتاب الثلاثة، فالمصادر والمراجع التي تجاوزت مئتي مصدر ومرجع غالبها ورقي. ويحتوي القسم الأول على سيرة المؤلف العراقي (1283-1366=1866-1947م) الذي يُعدّ من رهبان العلم والبحث والكتب والكنائس، وفي الثاني دراسة وافية عن الكتاب وتاريخ نشره وبواعث تأليفه ومصادره بقلم المحقق، ثمّ نصل مع الرجلين الكريمين إلى القسم الثالث وهو النص الأصلي المحقق الذي يبدأ من الصفحة رقم (129).
قبل أيّ شيء أشير إلى أن منهج تحقيق هذا الكتاب جدير مثله أن يدرس في علم التحقيق وخدمة النصوص؛ تلك الخدمة التي صيرت الفوائد في كتابنا متغازرة متكاثرة ومتجاورة في الصفحة أو متناثرة في جنبات الكتاب وصفحاته، ففيها قدر غير قليل من علوم الخيل، واللغة، والشعر، والتاريخ، والتراجم، والمكتبات، وأسماء الخيول وأصولها وأرسانها، وفيها ظهور جليّ لفضيلة الشموخ الحضاري، والاعتزاز الثقافي، وأدب نسبة الفضل لعلماء، ومكتبات، ومحفوظات، ومراكز، ومستشرقين، وصحف، ومجلات.
وقد أهدي الكتاب لسمو الشيخ صباح الأحمد حاكم دولة الكويت الخامس عشر، وراعي نهضة الجواد العربي العتيق فيها؛ ولا غرو فللأمير السابق يد لا تنسى على المركز وعلى الخيل وأهلها، ولذلك فللمركز كتاب عن الأمير الفارس. وفي تصدير الكتاب نقرأ كلمة لمعالي البروفيسور عبدالله بن يوسف الغنيم الذي أثني بحق على المادة وكاتبها ومحققها، وعلى المركز الذي تبنى إصدارها، وهي شهادة ثمينة من رجل عالم مخلص للعلم والوطن والأمة-أحسبه والله حسيبه-.
كما كتب في التوطئة المحقق البصير الشيخ يحيى بن عبدالله الكندري قصة الكتاب وتاريخه باختصار، وأبان عن فضل الكتاب بفضل مؤلفه الذي يفوق كتابات الغربيين بحكم لغته العربية المتقنة، فضلًا عن تداخلها مع نفسه وعقله وعلومه، حتى أنه قرأ لسان العرب ثماني مرات، وقرأ تاج العروس ثلاث عشرة مرة! وكان لا يستهين في مواجهة من يخطئ بالعربية، ولا يلين في البيان والتوضيح، هذا مع أنه يجيد لغات أخرى تتجاوز العشر، مع معرفة بلهجات البدو، وقبائلهم، وأشعارهم، وبلدانهم.
ومع أهمية هذه الدراسة الكرملية فقد كاد أن يطويها النسيان لولا همة المحقق الموفق الذي بعث الكتاب من مرقده، وأحياه بعد موات، ولم يكن بعثه للنص العزيز مقتصرًا على نشر الكتاب الفريد، ولو فعل لكان محسنًا، بيد أنه أضاف له مادة علمية ثمينة، وأجرى عليه قلمه الأمين بالتحقيق والتوضيح وربما التعقب؛ حتى أصبحت حواشي الكتاب مليئة بالعلم والفائدة، بعيدة عن السآمة أو الحشو لغرض تسمين الكتاب بمادة لا تسمن ولا تغني، بل تمرض وتجفل كما يفعل بعض من اقتحموا التحقيق ودراسة التراث!
ومما يظهر العناية والإخلاص والجهد المتعب للشيخ يحيى أنه رجع لكتب كثيرة قديمة وحديثة، عربية وأجنبية، ومن ذلك رجوعه لعدة شروح لكتاب واحد مثل حماسة أبي تمام بتحقيقات مختلفة، ولربما اكتفى المحققون بواحد منها! وطاف مع كتب الخيل قديمها وحديثها ليلم بشؤونها وخبرها فيكون على مستوى منشئ النص وتلك حكمة تغيب عن كثير من المحققين والمترجمين. وأفاد من كتابات الأجانب، وغاص مع العالم اللغوي أنستاس في معجم تاج العروس، وديوان أشعار العرب، وزاد عليه وربما تعقبه، حتى أخرج لنا هذا العِلق النفيس نفاسة فرس اسمها سكاب، وخبرها مستشهد به في آخر الكتاب.
أما قصة هذا الكتاب فتعود إلى دعوى من مستشرق فرنسي ألقاها في مؤتمر، وبها ينفي عن العرب معرفة الخيل قبل الإسلام؛ فانتهض الكرملي للرد عليه ردًا جمع التاريخ مع اللغة، والشعر مع الرواية، والمنطق العقلي مع التحليل المسكت. ولعمركم فما أكثر دعاوى الأجانب في القديم والحديث، ولو أجري عليها منهج العلم أو وضعت فوق ميزانه، لاستبان أن جلّها هباء أو مبالغة، وفيها من الأغلاط مالو اتخذ بارودًا ناسفًا لهدم الجبال، ودكها دكًا كما يقول الكرملي، وما أحرانا بالتيقظ حيال الترجمة أو النقل عنهم، وما أوجب “تعجيم” كتبنا العربية إلى لغاتهم علينا؛ ليفهم المنصف منهم، والمتجرد للعلم والحقيقة.
كما يجدر هنا التنبيه إلى أن حضارة الأمة الإسلامية عرفت عددًا من العلماء العرب من اليهود والنصارى الذين نافحوا عن ديننا ولغتنا وتاريخنا وتراثنا، وعن كثير من شؤون حضارتنا وثقافتنا، وصدوا عادية الأفاكين والمستشرقين المجافين للعدل، وفيهم أسماء معاصرة مثل الكرملي وإدوارد سعيد ونقولا زيادة وغيرهم كثير، ومثلهم جدير بأن يفاد من علومه، وأن تخرج للناس كنوزه، ومنها كنز لغوي فريد في بابه عنوانه “المساعد” يتتبع المعاني اللغوية واستعمالاتها عبر العصور وكيف تغيرت، وهو محفوظ ضمن تراث أنستاس الكرملي في المكتبة الوطنية العراقية، وما أكثر ذكاء وتوفيق أيّ مجمع أو مركز لغوي يسبق إلى خدمة هذا المعجم وطباعته؛ فهو باب غير مطروق في لغتنا.
ومما ظهر في الكتاب فأبهرني أن المحقق الشيخ يحيى بن عبدالله الكندري ذكر ما يعلمه مما فتح الله تعالى عليه به، وسكت عن أمور متمنيًا أن يفيده عنها من لديه بها علم أو معرفة، ورد الفضل لأهله كثيرًا سواء من العاملين معه في المركز، أو من آخرين من فضلاء المشتغلين بالعلم واللغة والتحقيق وجمع الكتب، وتلك لعمركم سمة العلماء الواثقين بأنفسهم، البريئين من ثقل الادعاء ودعاوى الاكتفاء.
وهو الشأن الذي يشهد له الكتاب وما فيه من مبتدئه العذب إلى ختامه المحزن بالانقضاء، وهو كذلك ما شعرت به في لقاءين اثنين من أمتع اللقاءات وأكثرها فائدة وأنسًا مع الشيخ المحقق الذي فاز بيت العرب باصطفائه واستقطابه؛ ولا ريب فالخيل العربية كريمة عتيقة جياد عراب لا يخدمها بعلمه وعمله ووقته وجهده إلّا من له من النفاسة والسمو مثلها وأزيد؛ خاصة إذا أخذ الكتاب بقوة مثل يحيى!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الأحد 04 من شهرِ رمضان المبارك عام 1444
26 من شهر مارس عام 2023م
One Comment
يستوقفني كثيرًا أي موضوع له شأن بالأصالة، خاصة إذا فيه أطراف حديث عن الخيل؛ فالخيل العربية كريمة، و اما ما يستوقفني أكثر ذلك الربط اللطيف الجميل في تشبيه العرب للفرس الأصيلة بالمرأة!!
يقول خالد الفيصل شاعر الخيل:
أشبهه باللي عسيف من الخيل
تلعب وأنا حبل الرسن في يديّا
والعسيف هي المهرة الجموح التي لم تعسف بعد!! أي لم يتم تذليلها لصعوبتها!! فهي لا تخضع إلا لفارس بارع يعسفها وهي سعيدة راضية!!
والوصف بالمهرة – مثلاً – فيه جانب معنوي بديع وهو الجموح وصعوبة الحصول والوصول.. وهذا أقوى وأحرق للشوق!!!
وقد ورد هذا التشبيه في الشعر الشعبي والفصيح..
تقول هند بنت النعمان-لله درها- (وقد كرهت زوجها لبغيه وظلمه):
وما هند إلا مهرة عربية
سليلة أفراس تحللها بغل!!
فإن ولدت فحلاً فلله درها
وإن ولدت بغلاً فجاء به البغل!!
وتشبيه المرأة الأصيلة الجميلة بالمهرة العربية الأصيلة الجموح التي لا يستطيع ترويضها إلا فارس شهم لا يتركها كما يشاء بمزاجه او يحب وصلها حسب رغبته، قد ورد ذلك في الشعر النبطي،
بنت تشبّ اللهيب من الرماد!
ما تهاب انسان نيرانه خمدها!
خاطفة من سود الأيام السواد!
وكحلت في عينها النجلاء سعدها!
“روحها الحرة تعاف الانقياد”!
من لفافة مهدها لين”لفة” لحدها!
-الإهانة-ماهي بكبوة جواد!
ما يهين البنت إلا اللي-زهدها-!
ويبقى سؤال عالق وهو سؤال جاد وحقيقي أتمنى لو أجد جوابه لدى باحثنا الاستاذ يحيى او كاتب المقالة؛ لو كان الخّيال يحب فرساً بشدة، وكان لديه مهرة او اثنتين او ربما اصطفى لنفسه مهرة ثالثة أثخنت فيه طعنات الهوى وتعلق بها ثم أنسته فرسه التي أحب بشدة، لأي منها يبقى محبًا وفيًا لها، هل الخيّال العربي يملك القدرة أن يحب بذات القدر والشغف والقوة كل ما في اسطبله من جياد وأمهار ام هناك تمايز فيما بينهن!