قضاء الظل!
عنوان هذا الكتاب الذي جمع العلم والعمل معًا: قضاء الظل (المحاكم الخفية) اللجان الإدارية التي تزاول أعمالًا قضائية وشبه قضائية في المملكة العربية السعودية ( مع تطبيقات قضائية ذات صلة بأعمال هذه اللجان ). وهو من إعداد وتأليف د.عمر الخولي، وقد صدرت الطبعة الثانية منه عام (1439=2018م) عن المركز السعودي للبحوث والدراسات القانونية، ويقع في (253) صفحة مكونة من توطئة، وثلاثة فصول، وأخيرًا خمسة ملاحق.
أما المؤلف حسب مختصر السيرة المنشور على الغلاف الخلفي، فهو من أساتذة القانون وممارسيه، ومن خبراء المحاماة والاستشارات القانونية، وله في هذا الباب دراسة وتدريس، وإنشاء وتأسيس، وشهادات وعضويات، ومحاضرات ألقيت على طلبة البكالوريوس أو ما فوقهم، ومناهج وضعت لكليات شرعية وقانونية، مع العمل مستشارًا لأجهزة ولجان، والمشاركة في صلب العمل القانوني الواسع نطاقه تنظيرًا وتطبيقًا وتقويمًا. ومن سجله المهني أعمال معتمدة في الترجمة والتدريب والتحكيم، وافتتاح مراكز قانونية، وكتابة وتأليف، ومن أسماها العمل مع هيئة الإغاثة الإسلامية، ومع الهيئة العالمية للقرآن الكريم، ونحن بانتظار سيرته الذاتية المسهبة في أربعة مجلدات.
تعود قصة المؤلف مع الكتاب إلى عام (1407) حينما أسند إليه تدريس مادة القضاء الإداري، وما أن شرع في رحلة بحثية للتأليف نظرًا لخلو الساحة من كتاب مناسب لمنهج المادة، حتى صدر أمر بإنهاء خدماته الجامعية ومنعه من الكتابة، وعقب خمسة عشر عامًا صدر أمر آخر يلغي الأمر السابق؛ فقرر من فوره إكمال بحثه الآنف، وبدأ بالكتابة الصحفية عن موضوعه، ثمّ انقطع طوعيًا وواصل مشواره في التأليف وسدّ الفجوة المعرفية في هذا الحقل الملح والمهم، وبعد ست سنوات صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام (1431)، ثمّ طوره بعد متابعته للتفاعل مع نظام القضاء الجديد، وغايته من الكتاب إفادة القارئ المختص وغير المختص.
يدرس الفصل الأول طبيعة اللجان القضائية وشبه القضائية داخل المنظومة القضائية في المملكة، وفيه ثلاثة مباحث. ومما ورد فيه أن هذه اللجان وبهذه الضخامة تكاد أن تكون مثالًا فريدًا في المملكة، فوجود أكثر من مئة “محكمة خفية” تعمل بمعزل عن السلطة القضائية ليس أمرًا صحيحًا؛ بل هو من المآخذ الدولية على وجودها الذي يعود في أحد أهم بواعثه إلى موقف القضاء العام في التعامل مع بعض القضايا بسبب انعدام الرغبة أو فقد القدرة؛ فغدت هذه اللجان من الحلول المؤقتة التي اتسعت دائرتها بإفراط، والعلاج الجذري بدمجها، وتطوير القضاء الشرعي تطويرًا إداريًا، وتقنيًا، وفنيًا عبر المختصين والخبراء الضليعين بشؤون قد لا يحسنها بعض القضاة الكرام، ولقضاة المملكة التوقير والدعاء بالتوفيق.
وتتألف هذه اللجان من موظفين لا ينتمون للسلك القضائي، وتصدر عنهم قرارات تجري مجرى الأحكام القضائية، وليس لها نظام موحد، أو إجراءات على نسق واحد، ولربما أنها تعبر عن تجاوز أطراف من السلطة التنفيذية لحدود سلطتهم باقتطاع أجزاء من السلطة القضائية، حتى صارت الوزارات قادرة على مصادرة حق التقاضي، ومنفردة بهذا الشأن عبر لجانها القضائية وشبه القضائية؛ فغدت هي الخصم والحكم والمنفذ ومكان مقر المحاكمة، ولا يحق الاستئناف على بعضها، ولبعضها استئناف من نفس طبيعته المستقلة عن القضاء، الملتحمة بالجهاز التنفيذي، ويزيد من حرج الواقع السعي لإبطاء عمليات دمج هذه اللجان في إطار المؤسسة القضائية، ومن دوافع ذلك الإبقاء على ما تجلبه تلك اللجان من أموال وغرامات للوزارات والهيئات!
كما تثور تساؤلات حول طبيعة ما يصدر عن هذه اللجان؛ فهل هي قرارات إدارية يجوز الطعن فيها أمام القضاء الإداري، أم أنها أحكام قضائية لا يجوز الطعن فيها إلّا بطرق الاستئناف المقررة نظامًا؟ وطبعًا لا يندرج تحت موضوع البحث اللجان المنبثقة عن بعض الوزارات ومهمتها التفتيش على المخالفات وإيقاع العقوبات والغرامات المقررة عليها؛ لأنها ترصد واقعًا ولا تحسم خلافًا بين خصوم؛ ولذلك أخرج المؤلف أيّ لجنة تنفيذية لا تزاول أعمالًا قضائية، ومثّل لها بأمثلة واقعية.
ثمّ تناول د.الخولي في الفصل الثاني السمات العامة للجان القضائية وشبه القضائية ووسائل تطويرها، وفيه ثلاثة مباحث أيضًا، فمن الخصائص المشتركة بين هذه اللجان جواز التظلم من قراراتها أمام ديوان المظالم مما يمنح ضمانات قضائية للخصوم، وعمل معظمها على درجتين إحداها للاستئناف. وهي بمجملها تنتظر الانضواء تحت منظومة القضاء العام للقضاء على غالب المآخذ، ولا مناص من تغيير مسميات بعضها ليتوافق مع طبيعتها، ومن الضرورة ألّا تقيّد عملية سماع الدعوى بمدة معينة، واعتبار عقود التحكيم والعمل بموجبها، ووضع أساس للفصل في التنازع حول مسائل الاختصاص.
ومن المهم ضبط عملية تكوين هذه اللجان، واختيار أعضائها بعيدًا عن أجهزتهم التنفيذية التي لا يستطيعون الحيدة أمامها، ولا الخلاص من سطوتها، مع التحيز لها في الغالب، إضافة إلى ضرورة اعتماد التأهيل القضائي لهم، ووجود قضاة على رأس هذه اللجان، ومنعها من إصدار أيّ عقوبة سالبة للحرية، وتوحيد اختصاصها، وتفكيك مركزيتها حتى يكون لها فروع في المناطق، وتحرير هذه اللجان من سلطة الوزير المختص الذي يعين الأعضاء أو يقترحهم، ويوافق على إحالة القضية من عدمه لهم أصلًا، ثمّ يصادق على القرار حتى يصبح نافذًا!
وفي ختام هذا الفصل النظري العملي وضع المؤلف القانوني بعض التوصيات لتطوير هذه اللجان، ومنها إنشاء محاكم اقتصادية أو مالية، فوجودها يسرع العمل التجاري والاستثماري، ويرسخ التخصص الذي يؤدي إلى جودة الأحكام، ويفيد من السوابق والمبادئ القضائية. ومن المقترحات العمل الحثيث على استقلال هذه اللجان، وتوحيد إجراءات الترافع أمامها، وزيادة تأهيل أعضائها تأهيلًا علميًا، والتوسع الجغرافي في فروعها إن كانت ستبقى ويطول أمدها، ويظلّ التطوير الأساسي في استحداث دوائر نوعية متخصصة تحت المحاكم؛ فتؤول إليها أعمال هذه اللجان، ويمكن الإفادة من خبرائها وأساطينها.
أما آخر الفصول وثالثها فعن اللجان القضائية وشبه القضائية في المملكة العربية السعودية، وفيه ثلاثة مباحث أسوة بأخويه السابقين كليهما. وقد أوضح المؤلف في جداول مكثفة الأساس القانوني لإنشاء كل لجنة، وتكوينها، واختصاصها، والعقوبات المتاحة لها، ومقرها، وهل يمكن الاعتراض على قراراتها ومتى وكيف؟ واللجان الواردة في هذه الجداول متنوعة، فبعضها لجان كثيرة تتبع وزارة واحدة، وأكثرها لجانًا وزارات الداخلية، والمالية، فالتجارة، والصحة، والزراعة، وفيها وزارات ليس لها سوى لجنة واحدة وهي أربع وزارات فقط، وختامها لجان تابعة لمؤسسات وهيئات عامة بلغت ستًا وعشرين لجنة، وفي الملاحق الخمسة قوائم وقواعد ونماذج.
إن توالي الجهود العلمية والعملية الهادفة لتطوير الجهاز العدلي بأطرافه العديدة لعمل جليل القدر والوقع والقيمة، وهو واجب على أهل العلم وأصحاب الخبرة والرأي والنصح الرشيد، ذلك أن حاجة الناس للعدل القوي المستقر المستقل تماثل الحاجة للهواء والماء حتى لو لم يدخل المرء إلى نيابة، أو لم يزر مكتب محامٍ، أو ينتظر في محكمة، أو يجلس بين يدي قاضي؛ لأن الشعور بوجود العدل والحق، وسبل الحفاظ على الحقوق واسترجاعها، ضامن للرضا والقبول، وطارد للأشرار والشرور والشرر؛ ولهذا ينظر دومًا إلى وزارة العدل بتقدير جعلها وزارة سيادية.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الأربعاء 24 من شهرِ رجب عام 1444
15 من شهر فبراير عام 2023م