سير وأعلام

منيرة وثويني: حب ووفاء اجتمعا!

منيرة من موقع ماركات

منيرة وثويني: حب ووفاء اجتمعا!

درسني في المرحلة الثانوية أستاذ مصري مختلف؛ فهو أشبه بالأساتذة العلماء الذين نسمع أو نقرأ عنهم في المدارس، ولي معه خبر لربما أكتب عنه لاحقًا، وبسببه نشأت لي علاقة صداقة ومحبة أتمنى أن أنشرها فيما بعد. المهم أن أستاذي قال لي مرة: أمي هي أكبر أخواتها، وبالنسبة لهن تمثل صفة الأخت الأم، وعليه فهي مستودع أسرارهن، وموئل الاستشارة منهن، ومن العجبكما يقول الأستاذما لاحظه في علاقة الشك والنفرة بين خالاته وأزواجهن؛ حتى أنهن يحفظهن الذهب والمال لدى أمه، ويسمع منهن كلامًا غريبًا عن الأزواج وآباء الأبناء!

وبالأمس فرغت من قراءة كتاب جميل عن أسرة السديس وكتبت عنه، ووقعت فيه على قصة زوجين لافتة، فهي الأصل المبتغى في العلاقة الزوجية السليمة حتى وإن شابها ما يشوب حياة الشركاء مما ليس منه بدٌّ ولا مهرب. وركنا هذه القصة هما منيرة بنت محمد السديس (1240-1298)، وزوجها ثويني بن محمد الثنيان (توفي عام 1318)، رحمهما الله وجميع أموات المسلمين، ومن الموافقات بلا تقصد أن هذا المقال يُكتب في اليوم الرابع عشر من شهر فبراير الذي يطلق عليه يوم الحب! وهذه آخر جملة كتبتها في المقال عندما أبصرت التاريخ.

بدأت في العنوان باسم المرأة لا على طريقة بعض أهلالتميلح، وإنما لأن زوجها لو كان حيًا لطلب أن أبدأ باسمها، ولأنها رحلت أولًا، ولأن الكتاب المقتبس منه يخصّ أسرتها، والأمر لديّ يسير للغاية لا يستحق عناء التسويغ والشرح، وقد كتبت ما كتبت من توضيح لإبداء رأي جاءت مناسبته، والله يهدي كتائبالمتميليحين، إذ لو عرف الناس طرائق عيش نسائهم معهم؛ لأيقنوا أن ما يبدو منهم من كلام منمق مزركش وعبارات جوفاء لا معنى لها، وهي مثالية وأمنية في أحسن الظن، ودعوى استملاح في غيره، ومسطرة هذا الغير عريضة تستوعب احتمالات كثيرة ليس هذا مكان الخوض فيها.

والدة منيرة هي سارة بنت ناصر البراك (توفيت عام 1296)، وعرفت المنيرة منذ طفولتها بلقبحب الرمانلحمرة لطيفة في لون بشرتها، ولربما أن انتظام أسنانها يشبه انتظام حب الرمان، ويمكن الجمع بين القولين. ومن رجاحة عقل منيرة أن إخوانها الأحياء قرروا جعلها وكيلة أو ناظرة على وقف والدتهم بعد رحيلهاوما أقسى رحيل الأم؛ فهي التي تدير الوقف، وتجمع غلته وأمواله، وتصرفها كيفما شاءت، وفي هذا رد دامغ على من يتهم مجتمعنا بتهميش المرأة، وفيه إثبات أن الفقه فيه سعة ومندوحة، وإنما الضيق والتحجر في بعض العقول.

ولمنيرة من زوجها ثويني أربعة أبناء وأربع بنات، هم: ثنيان، وإبراهيم، وصالح، ومحمد، وموضي، وحصة، وعائشة، وميثا. وقد كانت ابنتها حصة كفيفة حافظة للقرآن الكريم، وترد على الإمام إذا أخطأ في صلاة التراويح، وتفتح عليه إذا نسي، وهي قصة تؤكد أن المرأة مشاركة أساسية لا كما يحاول بعض الملبسين إيراده زورًا أو مرضًا وشهوة، بيد أن مشاركتها محفوفة لها بالحفظ، ومصانة بما يمنع عنها السوء إكرامًا لها وإجلالًا. ومن خبر حصة أن والدتها منيرة خصتها بشيء من وقفها أو وصيتها بالاسم؛ مراعاة لفقدها البصر وإن أنار لها القرآن الكريم البصيرة، وصارت البنت الصالحة جدّة لبيوت من آل السحيباني الكرام.

وقد رزق ثويني زوج منيرة رزقًا واسعًاوبعض الزوجات نواصٍ مباركةوكان سخيًا جواداً وهي سمة حاضرة في خلفائه من أسرة الثنيان، وبسبب هذا الثراء أطلق يد زوجه في المالخلافًا لبعض الرجال بعذر أو بدون، فكانت المنيرة لا ترد سائلًا ولا محتاجًا. ومن عظم الثقة بين الزوجين أن ثويني حرر وثيقة في أوائل عام (1298) أثبت فيها بأن زوجه منيرة ليس عليها حرج فيما دخل عليها من حلاله كثيرًا كان أم قليلًا، وهي حرةتتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم في الحياة وبعد الممات“.

لكن شاء الله وقدّر أن تموت هذه المرأة المباركة في نهاية تلك السنة بعد عودتها من حج عام (1298)، وفي وفاتها وفاء وعبرة؛ إذ شعرت بدنو أجلها، فأسرت لزوجها وهي تغادر بلادهم إلى مكة مع ابنهما الأكبر ثنيان بذلك، ونصحته بأن يتزوج حصة ابنة أخيها عبدالكريم إذا وقع الأجل المحتوم، وبعض النساء تصيبها الحموضة والقشعريرة والتسلخات الجلدية إذا خطر ببالها أن زوجها سوف يقترن بأخرى عقب مماتها! وقد ماتت المنيرة فعلًا في مكة عقب إتمام مناسك الحج، ودفنت هناك، وعمل زوجها بنصيحتها، وتزوج حصة العبدالكريم التي ظلّت زوجة له عقدين من الزمان حتى توفي عام (1318)، وفي سماعه لنصيحتها دليل على ثقته برأيها وصدق دلالتها.

ليس هذا فقط؛ فعندما رحلت منيرة إلى ربها راضية مرضية، تركت خلفها أموالًا ووصية، فأما الوصية ففيها حجة لزوجها ثويني وبه بدأت، وحجة لوالدها، وأما والدتها فقد سبق لها الحج عنها بنفسها. وتذكر في وصيتها نخلتين لها وما يُصنع بغلتهما؛ لكنها تقول بأنهما هبة لها من زوجها ثويني، وإثبات الهبة غير ضروري في هذا الموضع، وإنما هو حسبما يترجح من وفاء المنيرة البهية لزوجها الكريم، ورغبة منها في أن يذكر أبو ثنيان بالدعاء والرحمة.

ثمّ ذهب ثويني مع أولاده وبناته من منيرة الراحلة آنفًا، وأقروا في وثيقة مكتوبة في الثالث عشر من شهر ربيع الأول عام (1299) بأنهم أوقفوا جميع أنصبتهم التي آلت إليهم من مورثتهم منيرة ليكون ضمن وصيتها، وثوابًا وأجرًا لها، ويصبح العمل فيه على ما أرادت، ولك أن تعجب من تنازلهم، ومن مسارعتهم لهذا بعيد رحيلها مباشرة، ومن إحالتهم الإرث إلى شرط وصيتها ومضمونه، والله يديم هذا البر والمعروف فينا، علمًا أني أعرف قصة أكثر من امرأة معاصرة ثرية تبرع زوجها وبقية الورثة بعشرات أو مئات الملايين من ميراثها كي يصبح ضمن وقفها.

إن حرصي على استلال هذه القصة وإبرازها مع أن الكتاب فيه حكايات كثيرة تستحق الإفراد، يعود لما يشوب العلاقة الزوجية هذه السنون من كدر، فمع كثرة العزوبة والعنوسة، وكثرة الطلاق والخلع وسهولتهما، وتيسر سبل التمرد والتملص من الزوجين، وهي ظواهر أقلقت المجتمع والحكومة، ولذلك نحتاج إلى إحياء معاني السكينة والرحمة ولو بدون محبة في البيوت وبين الأزواج؛ وهنيئًا لآل السديس وآل الثنيان هذه القدوة الماثلة حية في تلك القصة الحقيقية التي تؤكد أن الأصل ثابت، والجذر راسخ، والفرع في السماء، والثمار مستيقن نباتها ونضجها وينوعها، ومهما جاءت الجوائح متوالية متساندة، فهي مؤقتة وزائلة، ولها أحكامها الفقهية والتربوية، وعلى الله قصد السبيل!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 23 من شهرِ رجب عام 1444

14 من شهر فبراير عام 2023م

Please follow and like us:

11 Comments

  1. قصة مؤثرة، هكذا يجب أن تكن الثقة بين الأزواج، لتستمر الحياة دون عناء، وصدق الشاعر حافظ إبراهيم الذي قال: الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ.

    1. سألت أستاذا عالما في اللغة وهو د.فيصل المنصور فكان جوابه رعاه الله ووفقه:

      ‏وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
      ‏نعم، يصح. وتسمى هذه (لام لمح الأصل) كما يقال: جاء حسن والحسن وفضلٌ والفضل. وفائدتها التنبيه على معنى العلَم ولا سيما إذا كان حسنًا.

  2. رغم ملازمتي للفراش، من وعكةٍ ألمت بي، إلا أن قصص الحب والوفاء، لا تبقي فيني إحساسًا ولاتذر!
    وبالرغم أيضًا تقديري لذلك الثناء الجميل لتلك المنيرة الفاضلة، ووقفتها مع زوجها، لا ننسى الجانب المشرق في زوجها لولا مناقبه وصفاته ومآثره وحسن تعامله ودماثة خلقه وكرمه وسخائه لما تفجرت يديها بالعطاء والإحسان، -بعض الأزواج نواصي خير على زوجاتهم! –

    وتذكرت مقالة جميلة لموقف أيضًا موازي بالحب والوفاء لهذه القصة، ذكرها العالم اللغوي بروس إنغام، أستاذ اللغويات في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن كتب ابحاثا أكاديمية محكمة عن الرواية التاريخية الشفهية لوسط الجزيرة والقبائل العربية، تروي أحداثا تاريخية هامة لشخصيات تاريخية معروفة في عالم البادية تحفظ شفاها وتنتقل من جيل إلى آخر يشتمل على تجسيد قيم المجتمع، وخاصة على مواقف الحب وما يضربه الرجال من قصص حب وشهامة مع النساء!
    فعرض لنا قصة أثرت به وأعجبته بشكل لافت ،فيها وفاء وحزن وعشق لا يتكرر ، الأمير عبدالله بن رشيد أحد أمراء حائل كنموذج عندما أجبر على الفرار من جبل شمر ، ففر ذات مساء مع مرافقه المخلص حسين يتربص به الموت وهو لايعلم على أي ناصية الطرق سوف يموت، لم تصبر زوجته على فراقه فلحقت بهما دون اكتراث لما سوف تلقى من حتف ومصير مجهول، كانت على وشك الولادة، اشتد حزنه فهي لن تتمكن من العيش بمثل هذه الظروف وهذه الصحراء الشاسعة والخطر يحدق بهما ويلاحقهما. فطلب ابن رشيد من مرافقه حسين البقاء معها بعدما فاجأها المخاض خوفا عليها وحرصا على حياتها،وبعد أوقات عصيبة حيث الصحراء الموحشة مترامية الأطراف كانت السيدة المترفة بنت الشيوخ المدللة منهكة وحافية القدمين وغير معتادة على مثل هذا الترحال. وأدمت قدماها بسبب الأحجار والأشواك فقام حسين بتضميد قدميها واختار لها طريقا رمليا أكثر ليونة، مبتعدا عن الأراضي الصخرية،حتى لحقت بزوجها!
    ومما قاله زوجها الشاعر الأمير تعاطفاً وتوصية وحنانًا بها!

    أرم النعل لمغيزل العين يا حسين
    واقطع لها من ردن ثوبك ليانه
    يا حسين والله ما لها سبت رجلين
    يا حسين شيب بالضمير اهكعانه
    جنب حفاة القاع واتبع بها اللين
    قصر خطا رجليك وامش امشيانه
    وان شلتها يا حسين تر ما بها شين
    حيث الخوي يا حسين مثل الامانة
    ما يستشك يا حسين كود الرديين
    والا ترى الطيب وسيع بطانه

    عندما يكون الرجل يسطر أروع الأمثلة بالتضحية والحب والمبادرة؛ قطعًا ستبادله المرأة الوفاء والبقاء معه لآخر نفس!
    واما ما يشوب العلاقة الزوجية هذه السنون من كدر، وكثرة الطلاق والخلع وسهولتهما، وتيسر سبل التمرد والتملص من الزوجين، فلتكن على يقين أن أحدهما لم يعد شريكًا ملائمًا حتى تستمر الحياة معه!
    اللهم عوضًا جميلًا.. لكل ما خسرناه في علاقاتنا! وحكاية حب تكون جذورها ممتدة حتى النهاية!

  3. ‏السلام عليكم أستاذي أحمد والله أني لأغبطك على دعوات أتتك في جوف الليل من إمرأة لا تعرفها ولا تعرفك إلا من خلال هذه الحساب والمدونة المباركة فأنا أقرأ على والدتي من مدونتك بين الحين والآخر فلما قرأت عليها ما كتبت عن منيرة السديس رحمها الله دعت لك وللمتوفين دعاء الله لا يحجبه وتيمناً بقول نبينا صلى الله عليه وسلم (من صنع إليكم معروفا فكافئوه ، فَإِن لَم تجدوا ما تكافئوا بِه فَادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) جزاك الله خير وبارك في جهودك وأصلح الله لك النية والذرية وارزقنا وإياك ووالدينا الجنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)