راحلون من أسرة السديس وأعلام!
طفت مع هذا الكتاب وسعيت وأنا في الرياض لا في مكة، وعنوانه: في ركاب الراحلين: قطوف من تراجم بعض الراحلين والراحلات من أسرة السديس، تأليف: أ.د.أحمد بن صالح بن عبدالله السديس، صدرت الطبعة الأولى منه -حسب المطبوع عليه- عن دار الثلوثية عام (1444=2022م)، وهو مكون من إهداء ولافتة البدء وكلمات في البدء، ثمّ المقدمة للنشرة الثانية وسابقتها للنشرة الأولى، وبعدها الأصل والوالدان ثمّ ست طبقات للأسرة أطولها الثالثة والرابعة، تتلوها قافلة الراحلين والراحلات، فقالوا عن الكتاب، وأخيرًا أهم المصادر والمراجع من شخصيات وكتب، فالفهارس وتعدادها أحد عشر فهرسًا.
ترجع أسرة السديس إلى أسر الحمادى المنحدرة من آل أبي رباع، ومستقرها الأول في أشيقر بالوشم، ثم انتقلوا إلى التويم، وبعدها ارتحل جدهم الأكبر الحميدي إلى الشقة بالقصيم في سنة (1054)، ويجمع لقب “الحمادى” خمسًا وعشرين أسرة متفرعة من خمسة أبناء للحميدي. وأما جد آل السديس فهو عبدالله بن سليمان بن الحميدي (1175-1260)، وزوجته نصرة بنت علي الثويني (1185-1269)، وهي أم لكل من انتسب للجد عبدالله، وحقيق بهذا الاسم الجميل أن ينتشر في ربوع الأسرة. وقد لقب جدهم بالسديس لأنه طلب نصيبه من ميراثه بالشقة قبل انتقاله إلى البكيرية، وقال لبقية الورثة: “أعطوني سديسي؛ سأنتقل للبكيرية”. وله ولدان هما علي ومحمد، وعنهما انبثقت هذه الأسرة الطيبة، وعنده بنت واحدة هي خديجة التي توصف بأنهما عمة كل من كان “سديسي” الأب أو الأم حتى تقوم الساعة!
يوقفنا الكتاب على نثار بديع من أخبار أسرة ممتدة متفرعة نشأت من بيت عبدالله ونصرة، وهذا فيه العبرة لنا جميعًا، فكم من بداية آلت إلى شجرة وارفة، وكم من متباعدين يعودون لأصل واحد، وإن شعور الانتساب لجد واحد لشعور عظيم مهيب له لوازم ومقتضيات؛ فماذا لو أطلّ الأبوان الأوائل ورأوا هؤلاء الأحفاد من بنين وبنات؟ وبالمقابل لنا أن نتخيل الأجيال القادمة من نسلنا بعد عقود وقرون، وكيف سيكون المستقبل لهم؟ وإني لأعرف من يدعو في وتره للمسلمين من آبائه حتى آدم عليه السلام، ويدعو لأحفاده القادمين إلى أن تقوم الساعة.
فمن أخبار هذه الأسرة العريقة الكريمة نلمح سمتها العام في التدين والجدية، والارتباط مع القرآن الكريم، والضرب في الأرض بحثًا عن الرزق، إضافة إلى الريادة في التأسيس والمطالبة بالحقوق. ومنها الحرص على الصلة والتواصل، ونفع المجتمع الخاص والعام، والمسارعة للوقف وصنائع المعروف، والمشاركة الفاعلة في العمل المدني والعسكري، مع طول العمر، وتكرار الزواج، وكثرة الذرية، والتداخل مع أسر عديدة في البكيرية والبدائع ورياض الخبراء وغيرها، إضافة إلى الجمال والنضارة مع الستر والتصون. ولا يمنع هذا من وجود خلاف ذلك؛ فجمع كبير من آل السديس آثروا “التوحيد” على “التعدد” والسلامة لا يعدلها ياقوم شيء! وفيهم القليلة ذريته أو المنعدمة، ومنهم من فارق الحياة قبل دنوه من المشيب.
ويستبين لنا من الجهد الضخم في هذه السير أهمية الوثائق، والصور، والمرويات الشفهية، وحفظ المعلومة بأي وعاء قابل لاسترجاع ما فيه، وهذا واجب مشترك على الآباء بتحديث أبنائهم وأحفادهم، وواجب أشد في عنق الذرية بأن تسأل أكابرها، وتستخبرهم عن الماضي، والتجارب، وتدون مقولهم أو تسجله، وهو صنيع ضاربة جذوره في العراقة والأصالة، وكم من منقطع أو شبه منقطع يتمنى مثل هذا الإرث، ويتعلق بأيّ قشة أو حكاية مهلهلة كي يزعم بأنها من ماضيه، فللماضي تِلاد يوجد الطريف ويجدد السابق، وله مضاء سيف بارق قاطع، وليس من البر ولا الحصافة في شيء إهماله أو مجانبته.
وفي الكتاب مادة جميلة يمكن أن تستل في مقالات منفردة، ولعلي أن أفعل شيئًا من هذا الاستلال إذا ما نشطت له لاحقًا، وتلك من بركات المؤلف والمتعاونين معه، ومن بركات الكتاب والأسرة العزيزة أدام الله خيراتها، ومن بركات الشيخ يوسف شقيق المؤلف الذي أهداني هذه النسخة. وفيه صور ووثائق وحواش وتراجم لغير الأسرة، وشيء من علوم البلدان والزمن القديم، والسفر والرحلة والعناء، ولا تخلو من قصائد مشجية رثى بها المؤلف الشاعر أباه صادحًا بخط البنان أبتاه، وأخرى رثى بها شقيقه الراحل مبكرًا بخطأ طبي، وهو الشيخ عبدالله أحد قطاب العمل الخيري المحلي.
ومن لطيف أنباء الأسرة ماورد في قصة الشجاع الشهم “الطوب”، وسيرة رجل عمل في هيئات الحسبة ثمّ غدا أول أمير للبدائع بعد استقلالها الإداري عن عنيزة، وقصة حب ووفاء خالدة بين زوجين، وسبب تلقيب أحد الكرماء بلقب “العكام”، وأسباب التسمية بمختصرات مثل “الكيم” و “العبود”. ومن أجلّها دلالة حكاية الرجل الذي نال إعجاب الملك سعود؛ لأنه عندما زار القصيم وقابله سأله عدة أسئلة، فأجاب الرجل عن ثلاث منها بقوله: لا، فقال الملك لرجاله: استعملوه فهو الوحيد الصادق معي، ومثل هذه الرواية كاشفة ناصحة، ولعلّها أن تلجم الموغلين في التزلّف بالكذب أو إظهار الموافقة بلا باطن يسندها أو حقيقة تؤيدها؛ إذ لا ينفعهم ولا يقربهم ولا يرفعهم.
كما أن الكتاب لا يخلو من حوادث حزينة طبيعية في المسيرة البشرية، مثل الوفيات الباكرة أو الأليمة، والموت الجماعي، والميلاد مع اليتم، والمرض الوحيد الشديد أو المترافق مع غيره. ومنها حوادث مفجعة لسقوط من نخلة، أو في بئر، أو حادث سيارة بانقلاب أو تصادم، ومن أعجبها أن أحدهم اطمان على أفراد أسرته الذين كانوا معه في الحادث واحدًا واحدًا، ثمّ أسند رأسه على مرتبة سيارة المسعف، وأسلم الروح لبارئها، وفيها أن أحدهم مات بعضة من جمل هائج في رأسه، ومنهم من نام أو جلس وهو معافى؛ بيد أن أنفاسه في الحياة قد انتهت.
ومما يلفت النظر في الكتاب التوثيقي، كثرة الحفظة والأئمة من آل السديس؛ بل إن إحدى الحافظات كانت ترد على الإمام في صلاة التراويح بشهر رمضان المبارك. ومنها توافد عدد منهم إلى الإقامة بمكة، والمجاورة بحرمها الأقدس، وفيما بعد أصبح اسم الأسرة على لسان جلّ المسلمين ببركة إمامة الحرم المكي الشريف والخطابة فيه منذ أربعة عقود، ورئاسة شؤونه والقيام على إدارة جهازه الحكومي عدة سنوات، وبالمناسبة فإن صاحب الفضيلة والمعالي أ.د.عبدالرحمن السديس هو الوحيد من المعاصرين فيما أعلم الذي خطب في الحرمين الشريفين بمكة والمدينة، وعلى منبر نمرة يوم عرفة.
ومن ثمار الكتاب معرفة شجرة التداخلات بين السديس وأسر كثيرة مثل التويجري، والثنيان، والخضير، والبراك، والجفير، والحضيف، وغيرهم. وفيه سرد لأسماء ذكور وإناث وبعضها نادر، وربما يمتلك بعضها قصة طريفة، وفي بعض الأسماء تباين لافت كأن يكون الولد اسمه البراء والبنت اسمها مايا، ولي مع الأسماء وقفات لربما تعجب القارئين، علمًا أن المؤلف حرص على تقييد أسماء أزواج بنات الأسرة، وذريتهن، وهذا عمل مشكور مفيد للأسرة، وفيه إحياء للعلاقات، وتجديد للروابط.
إن هذا الكتاب المكون من (652) صفحة بطباعة أنيقة لجهد يستحق عليه مؤلفه ومن ساعده الثناء والدعاء، مع الإعذار وإحسان الظن، وهو جهد ينضم في ركابه كتاب إلكتروني آخر عنوانه: أسرة السديس أعلام وعلائم، وهو في قوائم وإحصاءات حسب المراتب والتخصصات ينقصها قائمة بالكتّاب والمؤلفين، ويساندهما شجرة وموقع وربما تطبيق أو هكذا يجب، وما أبهاه من عمل جدير بأن يتحول داخل الأسرة إلى برنامج مؤسسي يُرعى ويُحدث كل عقد مثلًا، وأن يصبح لدى الآخرين قدوة وإمامًا، ذلك أن قوة الأسر ومتانتها مما يزيد في تماسك شبكة المجتمع، وزيادة الخير والمعروف، وانحسار الشرور والمنكرات.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 22 من شهرِ رجب عام 1444
13 من شهر فبراير عام 2023م