قراءة وكتابة

تجويد الكتابة

تجويد الكتابة

تلقيت دعوة من مبادرة معًا لنقرأ المنبثقة عن النادي الأدبي بالرياض بالشراكة مع جمعية نفع الأهلية بمكة للحديث عن موضوع في شؤون الكتابة، ولولا موافقة مسبقة لما مضيت في هذا الأمر؛ لضيق الأوقات وكثرة الواجبات؛ بيد أنه وعد لا مناص من إنجازه، هذا غير أن موضوع الحديث محبب لي، ذلك أن الكتابة وما يقترب من حماها المهيب القشيب له أولوية وتقدمة.

كان الحديث عن تجويد الكتابة، والمقصود بهذا التجويد المرتبط بالجودة والإجادة أن تكون الكتابة خالية من أيّ علة أو صفة تجعلها دون مستوى الكاتب الذي يتمناه أو عُرف به، أو أن يتحاشى الكاتب أي سبب يجعل كتابته يصدق عليها بأنها كتابة عادية، أو نصٌّ ردئ لا قدر الله. ومنها أن يكون فيها شيء من عوامل الخلود والبقاء، وبذور الانبعاث من مكمنها ولو بعد حين، والشأن الأهم أن يكون لها تأثير نافع في الحال أو في المستقبل، أيًا كان هذا التأثير الحسن في الكم والكيف.

وأول سؤال يرد على الذهن بعد التعريف، هو الاستفهام عن الأسباب التي تدعونا للاهتمام بمسألة تجويد الكتابة، وهذه الأسباب يمكن إجمال أهمها فيما يلي:

  1. أن تجويد الكتابة مسؤولية دينية ونظامية ومجتمعية، وفيما مضى قرأت أنهم في إحدى الحضارات يجبرون المؤلف على “لحس” أحبار كتابه إذا كان تافهًا، بينما استعان أحد الأمراء القدماء برجل قوي يصطحب إلى المسجد أيّ شاعر قال قصيدة مهلهلة كي يحسب عليه أداء مئة ركعة عقابًا له!
  2. أن الجيد يبقى والرديء يتلاشى ومصيره الطرد من حلبة المنافسة؛ وهذه ليست قاعدة مقصورة على الاقتصاد.
  3. عملك الكتابي جزء من تاريخك، والحصيف لا يرضى بما يشينه، ويخلص لاسمه ولاسم أسرته وعراقتها.
  4. الأصل أن الجودة يتبعها الأثر المطلوب ولو أن يسلي عملك محزونًا، أو يسعد مهمومًا.
  5. أن المنافسة مستعرة بين الأفراد والأفكار والحضارات، ولن يجد العمل موضعًا لائقًا بغير الإجادة.
  6. تجويد الكتابة لها وقع أعظم في معركة مدافعة القبح والتفاهة، وتضييق مساحتهما الآخذة بالتوسع.
  7. ستكون أعمالك الكتابية إرثًا لأولادك وأسرتك، وحنانًا يؤوي إليه تلامذتك ومحبوك، وحقيق بإرث هذا بعض خبره أن يكون مستجادًا قدر الإمكان والوسع.
  8. خدمة قضيتك أو القضايا التي تكتب لأجلها؛ فالحق يحتاج إلى حسن عرض وتعبير.
  9. التجويد يحول دون وصف الكاتب بالتقليد والتقلب وانعدام الهوية.
  10. يصبح العمل الجيد جديرًا بالترجمة إلى لغات أخرى وثقافات مختلفة.

ثمّ عقب الاقتناع بمسوغات التجويد، يأتي سؤال مهم وعملي ومنطقي خلاصته البحث في كيفية تجويد الكتابة، وهو لبّ هذا الموضوع وقاعدته المتينة؛ فمن أساسيات تجويد الكتابة ما يلي:

  • حرث الحقل الكتابي وغرسه: فالحرث يتضمن التهيئة، وإزالة ما يضر الأرض، وإتاحة الضوء والهواء والماء، وانتقاء البذور الجيدة، والشتلات الطيبة، ثم الزرع والغرس. وهذا يتطلب التوكل على الله ثمّ الثقة بالنفس وحسن الاستعداد بالقراءة والتفكير والتأمل والمشاركة في الحياة، وجلب كل شيء إلى حقل الكتابة ومعملها حتى لو كانت العلاقة مع هذا الشيء خفية أو ثانوية.
  • أثر المسودة الأولى! ذلك أن الأعمال العظيمة سبقت بمسودات ونسخ تجريبية قد تختلف عنها كليّة، وعليه فلتكتب مسودتك الأولى ولا تجفل ولا تخشَ شيئًا، ثمّ انهض للتحسين والتهذيب والتكميل.
  • الاستمرار بالكتابة ووضع حد أدنى لها؛ لأن الانقطاع عن الكتابة أحد موانع الجودة، ومن القواعد الصادقة أن كثرة الكم يقود إلى الرقي في المنتجات الأخيرة. والاستمرار لا يعني بالضرورة النشر؛ لكن المراد أن تكتب بتتابع دون انقطاع، ولو كانت دورية الكتابة متباعدة.
  • المراجعة فهي أحد أساسيات جودة الكتابة، ومن أسرار الكتابة وتعليمها، وهي أهم مرحلة كتابية. وللمراجعة أقسام منها الفوري ومنها المتراخي، منها الداخلي أو الخارجي. ومنها ما يخص المعنى أو المبنى أو السياق، وفيها القصيرة مدته، ومنها طويل المدة.
  • تكوين الشغف الكتابي وزيادته تدريجيًا؛ فأي عمل بلا شغف يكون باهتًا بلا بهاء ولا روح.
  • طرح هذا السؤال دومًا: كيف أستفيد من هذا الشيء كتابيًا؟ والشيء لفظ عام يصدق على أي حدث أو قصة أو منظر أو كتاب أو خبر أو إنسان، والمهم استحضار هذا السؤال كل حين وآن.
  • متابعة شؤون الكتابة بصورها المختلفة، ذلك أن الكتابة ليست نزوة عابرة، أو شهوة طارئة، إنما هي حياة داخل الحياة، وتخالط اللحم والدم والعظم وشغاف القلب.
  • مخالطة البيئة والمجتمع وتجييرهما لصالح حرفتك، وهذه الخلطة تكون بمقدار، وحسبما يجب عليك، وبالطريقة التي تنفعك وتنفع من حولك.
  • التجديد والابتكار في الموضوع أو زاوية النظر والمعالجة؛ فبعض الموضوعات صارت خَلِقَة من كثرة الترداد، والموفق من أتى إليها بمعالجة عظيمة، أو من كوة لم ينفذ منها قبله إنس ولا جان!
  • تشبّع من مادتك العلمية والفكرية والأدبية ثمّ انطلق، والتشبع لا يعني الامتلاء أو الفيضان، وإنما غاية ما هنالك ألّا تقدم على الكتابة في أمر وأنت خالي الذهن منه.
  • لا تعاسر نفسك؛ فالكتابة سريان وتدفق وجريان، ولا إكراه في الكتابة.
  • يرتقي الإبداع في الكتابة إذا تخلّص الكاتب من أغلال الصنعة، وانتقل إلى رحاب السجيّة، وبين الصنعة والتكلف والسجية مراحل وعرة، ولكن بالدربة والمران والمواصلة يجتاز الكاتب تلك العقبة الكؤود.
  • النظر الدائم في كتب تعليم الكتابة، وفي سير الكتّاب وأساليبهم؛ فالتقليد والمحاكاة مرحلة من مراحل التعلم، وطريق نحو التجويد شريطة الانعتاق منه.
  • الرجوع المستمر إلى كتب المعاجم والشواهد، وأذكر كلمة لأديب مصري قال: مضيت مرة إلى الشيخ المرصفي فقال: هل عندك نسخة من لسان العرب؟ فقلت: لا! فقال: تبيع جبتك وقفطانك وتشتري نسخة من لسان العرب!
  • أنت -أيها الكاتب والكاتبة- السر أسلوبًا وقاموسًا؛ فاصنعهما على مهل وتؤدة، وانضجهما بهدوء على عينك الباصرة، وأمام بصيرتك النافذة.
  • الحرص على التخصص والتركيز؛ فالاهتمام ينتج الثمار الناضجة، والتشتت مضيعة للعمر.
  • من الإجادة إثارة التساؤل في نفس القارئ ولو من غير إيراد إجابة، ففي القراء من يحركه السؤال للبحث.
  • لا تغرق في سوق المعلومة ومراكمتها، إذ يستطيع القارئ الوصول إليها، والإكثار منها في زمن الانترنت غدا مملًا إلّا ما دعت إليه الحاجة.
  • استمتع بنبش ذاكرتك وذهنك، أو تجول في عقول الاخرين وذكرياتهم، وستصنع لك تفردًا وجودة.
  • حينما تكتب حاول أن تكتشف نفسك قبل أن تكتشف العالم! وإذ وصلت إلى تلكم النقطة المختفية أحيانًا في عتمة الصوارف فلربما تغدو منصة تحليق رفيعة لك في دنيا الكتابة!
  • في زيادة المنابع إثراء وإغناء لك سواء أكانت مباشرة أم تحويلية.
  • تذرع بالصبر وتدرع به؛ فبلوغ الثمرة يحتاج إلى وقت وزمن؛ ذلك أن نار القش سريعة الاشتعال سريعة الخمود وحاشاك من حالها ومشابهتها، بينما النار النافعة بطيئة الاشتعال بطيئة الانطفاء واسعة الأثر، ويتزاحم المتحلقون حولها بحثًا عن دفء أو نور أو شواء أو حتى أنيس الحكايات.
  • الإحاطة بالموجود من موضوعك الكتابي ثمّ الزيادة عليه؛ وليكن في عملك غالبًا إضافة بجمع المواد ذات الصلة بالموضوع، ومعرفة ما يدور في ميدانك، فهذا طريقك الأكيد نحو الإجادة.
  • ابحث عن بواعث الابداع لديك واستثمرها، وهي إما في زمان، أو مكان، أو حال، أو إنسان، أو طعام، دون أن تسيطر عليك وتغدو قيدًا مقلقًا في هيئة طقوس يعسر الخلاص منها.
  • ثق أن تجويد المعاني مقدم على تجويد الألفاظ، وهي سبب لها؛ فشريف المعاني لا يُكسى من الألفاظ بغير الشريف السامي، وهما من عوامل تحقيق الجودة.
  • معرفة متى يكون الاسترسال والتوقف، وما ألذ استرسال الجاحظ والطنطاوي على سبيل المثال، ومن لم يوفق لصنيعهما فحقيق به أن يجيد وضع النقطة والتوقف؛ وفي الوقوف والسكوت بيان وأيّ بيان أحيانًا.
  • تعلم فنّ الاختصار والتكثيف، وهو مرحلة متأخرة، ويتأتى من تلخيص الكتب والمحاضرات والتدرب عليها، ومن إكثار النظر في جوامع الكلم، وأجزم غير حانث لو حلفت بأن الخلود والتداول والانتشار هبات تترافق مع من تغازر لديه وعى الحكمة حتى نطق بها.
  • كن نائبًا أمينًا عن العبقرية، وعن الكتابة، ومطاردًا حثيثًا خلف الجودة، فأنت على ثغر وباب من المسؤولية، ومن شعر بذلك وابتدأ الطراد فسينال ما يريد.
  • التجويد يتطلب التخلي عن كثير من اللحظات لأجل الكتابة، ومن الحكمة اغتنام نشارة الحياة في خدمة الكتابة، وهذا الاغتنام نصيحة قالها نجيب محفوظ لرجاء النقاش.
  • لا تبدد موهبتك بإهانتها وإهمالها وصرفها فيما لا يليق بك أو مالا يستحقك؛ فالكاتب جوهرة والواجب عليه النأي عن المزابل والمواضع التي تخفض من شأنه معنوية كانت أم مادية.
  • الشعور الذي لا ينقطع بفخامة الحرفة الكتابية سبب للتجويد.
  • كم في الخلوة والعزلة من أسباب لميلاد أعمال بديعة شريطة ألّا تكون العزلة دائمة.
  • في براعة الترميز تجويد وإبهار؛ فقراءة ما لم يُكتب مهارة راقية يحتاجها القارئ، على أن يحتاط من سوء الفهم، ومن سوء الظن. ومثله إيصال معنى لم يُكتب مهارة حاذقة يحتاجها الكاتب أحيانًا، بقيدٍ هو ألّا يكون الترميز لغزًا محيرًا، وأن يورد ما يدل على المعنى المقصود.
  • معرفة العوائق دون التجويد والتغلّب عليها، وهذه العوائق سأذكرها في نهاية المقال، واستحضار الدواعي للتجويد وهي مسطرة في رأس المقال.
  • إدامة العلاقة وتوثيقها مع القرآن العزيز، والحديث النبوي الشريف، والشعر العربي في أزمانه الأولى، فكم فيها من المعاني العميقة، والبيان الرفيع.

هذه فيما بدا لي جملة من أساسيات تجويد الكتابة، ولهذا التجويد عوائق يمكن تجاوزها وتحطيمها؛ فمنها:

  1. الملل.
  2. التوقف.
  3. رفض النقد كله، وإن الكاتب السعيد من يحظى بنقد عمله ويستفيد منه.
  4. الرضا التام عن العمل.
  5. الكتابة في كل شيء، وعن كل مناسبة.
  6. الكتابة التجارية والعبثية، أو التي تستهدف المال والشهرة.
  7. وحدة المشرب بلا تنويع وتغيير؛ فمن يورد عقله بئرًا واحدة سيغيض إبداعه ويضمر.
  8. الارتباط دومًا بزمن وبقعة، وهذه الكتابة تكون في بعض الأحوال معيقة عن التجويد والانتشار والبقاء، إلّا إذا استفاد صاحبها من بعض ماورد أعلاه؛ فربما تكون المحلية سببًا لانجذاب الأباعد لها، والجيد منها سيكون مقبولًا في محيطه فضلًا عما سواه.

أخيرًا فليس مهما في الكتابة تعقيد اللغة، وتكثير المفردات، وإقحام المصطلحات، وليس مطلوبًا من الكاتب أن يخوض مع الخائضين في كل محفل ومجال، بل المطلوب توقير الحرفة، والدخول إليها بتقدير مكانتها، والاستعداد بلوازمها، وتحمل عواقبها، وسيعلم الكاتب الخبير بأن لباب التجويد، وأسرار العظمة الكتابية، يكمن في فكرة واضحة مخدومة، وكلمات فصيحة مفهومة، حتى يقول من يقرأ ويسمع: ألا ما أسهلها! ولكن ما أصعبها!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 05 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1444

29 من شهر ديسمبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)