اجعلوها تسلل…!
يبدو أن مباريات كأس العالم استحوذت على نصيب كبير من اهتمام الناس، ولا أدري عن مصير جاذبية هذه المسابقة بعد الزيادة المرتقبة لعدد المنتخبات المشاركة. ومما لفت النظر كثيرًا في مباريات الكأس الأخيرة في قطر استخدام مصيدة التسلل بنجاح في الغالب، ودقة الرصد بمعاونة من الأجهزة الحديثة، حتى تكاثرت صافرات الحكام موقفة اللعبة، ومحتسبة ضربة ثابتة للفريق المتسلل عليه، ومغضبة جمهور المهاجم، ومديره الفني، والعكس لدى المقابل.
ويمكن للقارئ فهم قانون التسلل من خلال القراءة عنه، وهو قانون ابتكرته الدول الأربعة المنضوية تحت لواء بريطانيا عام (1886م)، ثمّ جرى عليه تطوير ومراجعة حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم؛ ولأنه بشري فمن الطبيعي أن يكون فيه ثغرات، وأن يتغير بين فينة وأخرى، وخلاصته أنه أسلوب دفاعي دقيق وحرج لإيقاع مهاجمي الفريق الخصم في موضع يُحكم على الواحد منهم بأنه متسلل، وهذا الحكم يبطل أفعال المهاجم كلها ولو سجل هدفًا تحركت لأجله الجماهير، وربما نال بطاقة إنذار بسببها.
الشيء المهم هو أنه يمكننا الإفادة من نظام التسلل على صعد فردية ومجتمعية، وفي مجالات إدارية وتقنية وغيرها. فمن الفائدة الفردية أن يجعل المرء ما يسمعه من سفاهة أو تخذيل دبر أذنيه وخلف ظهره، ويصيره كأنه كرة بين أقدام لاعب متسلل لا نفع منها ولا منه. ويزداد هذا الأمر حاجة وإلحاحًا لدى أيّ إنسان يعيش في أوساط مثبطة أو مرجفة، فهذا ديدن بعض الناس الذي يزعجهم نجاح الآخرين وربما آلمهم وأمرضهم، فضلًا عن أن مصيدة التسلل تخفف من وقع الحساسية والمشاعر الدقيقة عند من ابتلي بها، خاصة من الشباب في مقتبل العمر.
كما يستفيد المجتمع من التسلل بأهمية وجود الدفاعات وحوائط الصد والممانعة ابتداءً، على أن تكون متماسكة متعاونة متكاملة، تستطيع رد المقبل ومنعه، وتقوى على كشف المتذاكي المختفي بلطف الحركة أو سرعتها، وفي جميع الأحوال سيحمي الدفاع المفاهيم والمواضع التي لا ينبغي جعلها وحيدة أمام المناوئين، وليس من الغيرة أو الحصافة التخلية بينها وبين المهاجمين. وكم استطاعت المجتمعات الحيوية العريقة الحيلولة دون التغيير السيء بمثل هذه السياسة التي توقف تسرب الأفكار والسلوك المخالف لثقافتها؛ ففي الصين قاوم أهلها مكر الإنجليز، وفي جمهوريات آسيا الوسطى حافظ المسلمون على دينهم مع سطوة البلاشفة، والأمثلة كثيرة على مجتمعات تماسكت، وصابرت، حتى جعلت المهاجم خالي الوفاض، خاسر النتيجة، كئيب الحال، وعاد ولو بعد زمن بخفي حنين أو حتى بدونهما.
ونتعلم من التسلل أنه إجراء ناعم استطاع الذين أتوا به علاج أكثر من مشكلة حادثة أو متوقعه بذكاء، وهو تقنية لعب برعت فيها منتخبات وأندية، بيد أنها غدت متاحة للكافة بلا استثناء؛ فنجحت بواسطتها منتخبات أخرى ضد منتخبات عُرفت بها، واشتهرت باستخدامها الباكر، مثل منتخبات إيطاليا والنمسا والأرجنتين وإنجلترا، والقصد من ذلك أنه يمكن استيراد الخبرات والتقنيات من دول أخرى وحضارات مختلفة، ثمّ يعاد تكييفها بما يناسب بيئة المستعمل الجديد لها، والأفضل من ذلك كله متابعة حميد المساعي لصنع حلول منبعثة من البيئة، متوافقة مع المبادئ؛ فهي لعمركم أنجع وآمن وأطول عمرًا، وأكثر قبولًا وأقل مقاومة.
ولا ينفي التسلل مع أنه مصيدة مؤذية لطرف مبهجة لآخر محرجة لثالث بعض الإشارات عن أطراف المباراة، فمنها أن الهجوم كثيف وكلما زاد ارتفعت احتمالية الوقوع في هذه المصيدة، ومنها أن هذا الهجوم استعجل، أو لم يحسن اختيار المواضع، أو كانت حركته بطيئة، وربما ضعفت ملاحظته لدفاعات الخصم، أو لم يفلح في اختراق الدفاع، ومشاغلة أحد أفراده كي يبقى في منطقة الخطورة، ويمنع من الوقع في التسلل، وقد يكون الهجوم مصابًا بالأنانية وندرة التعاون المثمر؛ فتصبح جهود اللاعبين مبعثرة مشتتة لا يربط بينها رابط، ولو واصلنا في سوق الممكنات العقلية، وإيراد الاحتمالات؛ فلربما كان أحد أفراد الفريق متواطئًا في هذه العملية، وإنها لخيانة توجب العقوبة المغلظة.
ومن إشارات التسلل أن الدفاع ذكي ومتفاهم للغاية؛ وربما أن هذا الدفاع يشكو من ضعف بقية أعضاء الفريق؛ فلو كانوا من أهل المهارة لما تركوا مهاجمي الخصم يتحركون بحرية واطمئنان في مربعهم، ولما كانوا في حال غزو مستمر لأخطر مناطقهم، مما يضطر الدفاع إلى نصب هذه المصيدة المحفوفة بالمكاره، فهي مصيدة ربما تتعثر فينجو مهاجم واحد منها، وحينها لات ساعة مندم، وسوف تهتز الشباك غالبًا من أثرها، وعليه فالخطر المحتمل الناجم عنها كبير جدًا، ومحزن جدًا، والمغامرة بتفعيل التسلل يمكنه وصفه بسهولة على أنه مقامرة.
كذلك من الإشارات وما أوضحها في عالم الرياضة أن حكم الساحة يحتاج لضبط هذه الحيلة الخفية إلى حكمين يساعدانه ويقفان على الخط أو يجريان عليه مع حركة اللاعبين، ومؤخرًا دخلت الأجهزة والذكاء الاصطناعي في هذا الباب لعون الحكم على اتخاذ قرار قريب إلى الصواب، وهو قرار نهائي لا رجعة عنه بعد المباراة، وفي هذا الملحظ نجد إشارة واضحة لضرورة تحري الصواب في كل قرار خاصة ما ينبني عليه نتيجة تشمل عدة أطراف، وما لا تكون الرجعة عنه يسيرة، وألّا يستفرد المرء بشأن وفيه من يعينه من أناس وأجهزة وغيرها، حتى لو اضطر للبحث عن المعين، وإشراكه معه في المداولة والقرار.
أيضًا مما يلفت النظر في التسلل أنه مع استقرار الكرة في الشباك إلّا أن إبطال هذا الأثر وارد جدًا، وبالتالي فأيّ إصابة وقعت متسللة يمكن إهدار قيمتها وإبطال كيدها، وفي بعض الأحيان يعاقب من يصر عليها مع ظهور المعايب فيها. ومنها أن التسلل يصيب المهاجمين ولاعبي الخصم بالإحباط، والهزيمة الداخلية؛ خاصة حينما يرون جهودهم المضنية وقد صارت مثل الهباء المنثور، أو الزبد الذاهب جفاء، وتلك منقبة لهذه المصيدة، ولمن يحسن وضع الهجوم فيها وإن كان شرسًا كاسرًا.
وفي قوانين التسلل المختلف في فهمهما وتطبيقها والرضا بها أو عنها، نرى أن التسلل يمتنع إذا وصلت الكرة للمهاجم من قبل الدفاع، وما أتعس القوم حينما ينفذ إليهم العدو من قبل أحدهم، وما أصعب وصف المرء أو الموضع أو الحال بأنه ثغرة ومنطقة رخوة يمكن العبور منها بسهولة مثل الجدار القصير الذي يقفز فوقه أيّ أحد ولو كان قزمًا. ومما عرفته عن التسلل أنه قانون ابتكر لمنع المهاجم من التسمّر في مكان واحد، ولمنح المدافعين وبقية اللاعبين الفرصة للحراك داخل الملعب، وفي هذه الحركة بركة وإمتاع؛ لأن الوقوف ينجم منه الشلل والملل، مثل الماء إذا ركد أسن، وبمناسبة الماء والتسلل فإن الماء يمتاز بقدرته اللطيفة على التسلل لأصعب المواقع رويدًا رويدًا، وقطرة قطرة، وتلك لعمركم حكمة وأيّ حكمة!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 21 من شهرِ جمادى الأولى عام 1444
15 من شهر ديسمبر عام 2022م
2 Comments
مقال رااااائع لا عدمناك
مرة أقول هذا محلل رياضي متمكن وثانية أقول هذا مفكر نحرير وثالثة مدرب في الذات ورابعة وخامسة
موفق 🌹
مقالة بديعه، تلهمك على الحركة نحو الكتابة والتسلل إليها!
((وبمناسبة الماء والتسلل فإن الماء يمتاز بقدرته اللطيفة على التسلل لأصعب المواقع رويدًا رويدًا، وقطرة قطرة، وتلك لعمركم حكمة وأيّ حكمة!))
الماء والمطر أكثر نعومة حينما يتدفق، ونسائم الهواء تبدو شرقية، الجلسة أمام الماء.. فيها تأمل يلامس العمق..ثق أنه ليس ثمة متعة سوى انسكاب الماء ولطفه حين يتسلل، ومامن لذة تعادل ذلك كله سوى تسلل رؤوس الأصابع لعقدٍ في جيد حسناء!