مواسم ومجتمع

شيء عن إيطاليا!

شيء عن إيطاليا!

لماذا إيطاليا بالذات؟ سأخبركم ولكن في سياق هذا الشيء وتلك الأشياء، ومن البدهي أن القارئ لا ينتظر معلومات يمكن الوصول إليها بيسر عن هذا البلد؛ ولذا فلن أحدثه عن عضوياتها، أو تصنيفها العسكري والاقتصادي والسياسي، أو درجتها في مستوى الرفاه وجودة الحياة، وكلها منازل متقدمة بالمناسبة. وأجزم أن القارئ المثقف يعرف شيئًا عن تاريخها البغيض في احتلال بلدان المسلمين الإفريقية، وربما سمع أو قرا شيئًا عن البطل الليبي المجاهد عمر المختار رحمه الله، الذي دوخ الطليان ولم يخنع لهم؛ فوقروه وأزروا بمن تعاون معهم، وما عند الله خير وأبقى للمتقين دون سواهم.

ومن المؤكد أن الشغوف بكرة القدم يعرف قوة الدوري الإيطالي، ويعلم عن تاريخ الأرجنتينيمَردونامع نادينَبولي“. وقد تأخرت أندية إيطاليا قليلًا في هذه الرياضة؛ وهكذا الدنيا إذ كانت بلادهم في مكان وهي الآن في مكان آخر؛ حتى أن منتخبها يغيب عن كأس العالم في نسختيه الروسية والقطرية، مع أنه فاز بالكأس أربع مرات، وشارك في جميع مسابقات كأس العالم إلّا أربع مرات، ومنتخب إيطاليا هو أول منتخب أوروبي يفوز بالكأس، وأول منتخب عالمي يفوز به مرتين متتاليتين، وهو المنتخب الوحيد الذي احتفظ بالكأس طيلة ستة عشر عامًا متوالية بسبب الحرب العالمية الثانية لا أعادها الله.

فمن خبر إيطاليا اللطيف أن سفيرها في جدة بين عامي (1373-1375=1954م-1956م) كان الناقل الأول للأخبار والأقوال والظنون والنمائم داخل مجتمع الدبلوماسية في جدة كما روى الدبلوماسي العراقي أمين المميز في يومياته المنشورة بكتاب ضخم عن تجربته في المملكة لمدة عامين فقط. ولم يكتف الرجل الإيطالي بذلك؛ بل تولت زوجه العمل القبيح نفسه داخل نساء البعثات الدبلوماسية، وحين تمكر المرأة وتكيد وتحبك النميمة والوقائع المتخيلة فاعتصم بربك، واستعذ به من الشياطين إنسيها قبل الجني المسكين منها!

وأذكر أني قرأت مرة عن موظف إيطالي في السفارة بجدة، وخلاصة قصته الطريفة أن الوضع لم يرق له؛ فلا خمور متاحة بسهولة، ولا سهرات عربدة بالعلن، ولذلك أراد الانتقال منها بأيّ طريقة. وحينما جاء رئيس بلاده لزيارة السعودية ولقاء الملك فيصل، اغتنم الدبلوماسي هذه الفرصة ليكون المترجم بين الزعيمين؛ لأنه يجيد اللغتين وهو ما تم فعلًا، ولكن بعد نهاية الزيارة وقبل أن يطلب الإيطالي من حاكم بلاده نقله لأيّ مكان خارج السعودية، صافح رئيس وزراء إيطاليا الملك فيصل قرب سلّم الطائرة، وربت على كتف المترجم، وقال للملك: أشكركم على إحضار شاب سعودي يجيد الإيطالية بمهارة ليترجم بيننا! وحينها سقط مشروع المسكين مع صعود زعيمه فوق عتبات الطائرة، وأسقط في يده؛ فأكمل المدة مرغمًا في جدة.

هذا الحديث يسوقنا إلى حكاية مستلطفة وقعت للسفير الكبير الشيخ محمد الحمد الشبيلي الذي رافق الملك فيصل إلى إيطاليا، بيد أنه استأخر عن الموكب العائد للمطار، ولذلك سافرت الطائرات بدونه، فلما وصل للمطار قيل له: هل توافق على الذهاب مع طائرة الشحن؟ فوافق ولم يمانع، وركب فيها مع أبي سليمان زميل له لم يكن راضيًا عن التأخر، وكانت المفارقة المخيفة أن الطائرة التي ركبا فيها محملة بالهدايا، ومن ضمنها قفص فيه أسد مفترس صاحبهم طوال الرحلة!

كما ذكر الإذاعي المخضرم د.محمد الصبيحي في سيرته موقفًا حرجًا بعد تسجيله عدة برامج وثائقية في فرنسا، إذ أراد شكر إحدى المتعاونات لتفانيها البالغ فقال لها: تستحقين أن نذبح لك سبعة طليانجمع طلي وهو الخروف الصغير حجمه اللذيذ طعمه؛ فصعقت المسكينة؛ لأن المترجم فهم أنه يريد ذبح سبعة إيطاليين إكرامًا لها! وبعد أن فهمت المقصود هدأ روعها، وقد أعجبت هذه القصة عددًا من طلبة المنح الذين حضروا معي برنامجًا تدريبيًا عن الكتابة، وفيهم شاب نبيه من شعب إيطاليا الأصلي.

وقرأت أن رئيس إيطاليا سأل الشيخ محمد بن جبير عن إمكانية زيارته لحرم مكة، فأجابه رجل الدولة بدبلوماسية أنه يمكنه مشاهدة الحرم عبر الصور الحية، وكان الرئيس الإيطالي يحتج بتمكن أيّ مسلم من زيارة الفاتيكان؛ وهي بمناسبة ذكرها إحدى دولتين مستقلتين تقعان داخل إيطاليا، وللفاتيكان ممثل للكرسي الرسولي في جلّ دول العالم، ويتجول البابا محاطًا بالتبجيل والتقديم، وله كلمات تتجاوز المواعظ إلى السياسة، ولم نسمع مع ذلك أحدًا يتشدق بوصف مخترع اسمهالنصرانية السياسية، حتى مع وجود أحزاب ذات امتداد ديني واضح في إيطاليا وألمانيا وغيرهما، وقد اعتلى بعضها سدة الحكم في بلاد تعلن صراحًا أنها لا دينية.

وتحتضن روما عاصمة إيطاليا مقرالفاووالإيفادوهما منظمتان دوليتان للزراعة والأغذية، وصندوق للتنمية الزراعية ومكافحة الفقر والجوع، وقد رأسهما في وقت واحد مسؤولان عربيان أحدهما السفير الشيخ عبدالمحسن السديري. ولأننا ذكرنا الزراعة فمن المناسب أن نشير إلى أن المعارضة اليمينية انتقدت وزيرة الزراعةتِريزا بيلَنوفاالتي انتشر بكاؤها فرحًا إبان إعلان عفو حكومي مؤقت عن العاملين من المهاجرين غير الشرعيين لإيطاليا، وهو موقف نبيل من الوزيرة التي لم تأبه لليمين المتطرف ذي السطوة الجاثمة على أوروبا وأمريكا، وهو هذه الأيام يحكم بلادها، والله يعين اللاجئين العالقين في البر والبحر؛ فحتى فرنسا تستنكر موقف الحكومة الإيطالية نحوهم.

وبما أننا مع وزراء إيطاليا فمن الطريف المحرج أن الحكومة عينتفرانشِسكو براغاوهو أستاذ كندي من أصول إيطالية وزير دولة لشؤون الزراعة مع أنه غادر إيطاليا منذ ثلاثة عقود تقريبًا! والحقيقة أن المنصب يخصفرَنكو براغاالقريب من اسم مواطنه المهاجر؛ ولذا حدث الالتباس وسبقت التهاني إلى غير صاحب المنصب. ولم يسلم هذا الانتقاء من انتقاد الأول للحكومة الإيطالية على اختيارها مهندسًا مدنيًا لقيادة عمل في الأغذية دون أن يكون اقتصاديًا ملمًا بشؤون المجال. ومن لافت شؤون صاحبات المعالي من الوزيرات النساء، أن عارضة أزياء أصبحت وزيرة للعدل في إيطاليا ضمن أعضاء حكومة رئيس اشتهر بعلاقاته النسائية المتشعبة، وواهًا لعدل هذا شأنه!

ومما قرأته أن السفير المصري الجوّاب للبلاد د.محمود سمير أحمد تفاجأ بتعيينه في روما؛ لكنه لم يضع الوقت فشرع يتعلم الإيطالية، علمًا أن بين مصر وإيطاليا علاقات قديمة منذ احتل الرومان مصر ستة قرون أنهاها الفتح الإسلامي، وكانت مصر مقر منفى الملك الإيطالي، وبعد سنوات أضحت إيطاليا مقرًا لمنفى الملك المصري! وعندما زار السادات الفاتيكان أبدى البابا وساسة الفاتيكان رضاهم عن سياساته السلمية تجاه إسرائيل. وفي زيارة رئيس وزراء إيطاليا لمصر غاب المترجم عن اللقاء الصحفي المعتاد في المطار، فتولى السفير الترجمة لرئيسي الوزراء والصحفيين بأربع لغات هي العربية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية، وفي هذه الزيارة انبثقت فكرة مشروع طريق سريع مقترح من إيطاليا كي يربطها مع مصر والسودان والسعودية.

أما في الجانب الثقافي المتداخل مع السياسة فنجد أن من أشهر كتب الممارسة السياسة كتاب الأمير للوزير الإيطالينيقولا ميكافيلي” (1469-1527م)، وهو حصيلة ممارسة وتفكير، ويُعدّ من أهم كتب عصر النهضة الأوروبية في المجال السياسي، ومن المصادفات أن يكون الكتاب موضوعًا نال بهموسولينيدرجة الدكتوراه، إذ وصفه بأنه كتاب ملازم ضروري لرجل الحكم، وقد قرأموسولينيكل مؤلفاتميكافيلليحتى لا يجعل بينه وبين المؤلف وسيطًا قديمًا أو محدثًا، وفي هذه المساحة لا يمكن نسيان المقولة الذائعة للكاتب الإيطالي اليساريغرامشي“: أنا متشائم الفكر متفائل الإرادة!

كذلك نقرأ في مذكرات الكونتجيانووزير خارجية موسوليني وصهره (1937-1943م)، نصًا نقله لنا الدبلوماسي العراقي نجدة صفوة في كتاب قديم جميل، مع أن الوزير لم يعمل في العراق قط، لكنه كتب عن مظاهرات حدثت في بغداد ضد قيام حكومة إيطاليا بالتهجير الجماعي إلى ليبيا؛ لاعتقاد أهل العراق بأن هذه الهجرة الإيطالية ستخل بالأكثرية العربية، ويردف الإيطالي بقوله: وإنهم لمصيبون فهذه هي غايتنا، وقد أمرتني الحكومة بتطمين وزير العراق المفوض مع استمرار الهجرة مستقبلًا بصورة سرية، وهذا يعني أن الناس كانوا أوعى من الوزير الذي يبدو أنه اطمأن لكذبة وزير الخارجية.

أيضًا يحب الإيطاليون المزاح والفكاهة بشدة، ويعبرون عن مشاعرهم بتحريك الأيدي، وهم كثيرو الصخب والضوضاء، وعندهم براعة في الفنون، ولهم تاريخ كبير في الحروب، ويطربون للألقاب والتفخيم. ومما يشاع عن الإيطاليين حبهم الكبير للقيلولة أكثر من حبهم للمال؛ حتى قال أحد القساوسة الطليان: لا يرى المرء في الشوارع وقت القيلولة غير الكلاب والحمقى والفرنسيين!

وهم خليط من أجناس عدة، ويختلف سكان شمالها عن سكان جنوبها حتى قيل: إن أوروبا تبدأ وتنتهي عند روما، فمن جنوبها تبدأ إفريقيا، بينما تبدأ أوروبا من شمالها. وللمرأة مكانة فريدة في المجتمع الإيطالي، وتتميز العائلة الإيطالية بالتكتم والتكتل، مما أعاق مهمة الحكومة في تعقب عصابات المافيا المنتشرة في البلاد. ويحمل كثير من سكان الجنوب الإيطالي صفات المجتمع العربي من كرم ونخوة وغيرة على الشرف.

لذلك يقترب المطبخ الإيطالي من ذوقنا الشرقي، وللمكرونة أهمية خاصة في المائدة الإيطالية حتى أن الحفلات التي تمتد لبعد منتصف الليل يضع الداعي لها مائدة أخرى من الإسباجتي فقط وغالبًا يصنعها المضيف. وللمطاعم الإيطالية رواج في بلادنا العربية خاصة لدى الفتيات. وقد جذبت آثار إيطاليا، وجمال مدنها، وأكلها الطيب، ومزاح أهلها عشرات الملايين من السياح سنويًا، فضلًا عن أن روما متحف مفتوح هذا غير متاحفها المغلقة التي تتجاوز العشرين، وفي إيطاليا أكثر من ستين كنيسة وكاتدرائية تُزار، وتحتل الجبال ثلث مساحة البلد؛ فتهبه مظهرًا جماليًا وتنوعًا في التضاريس، وقد أبدى د.محمد المفرح انبهاره بهذا التاريخ المتحفي والآثاري عقب عبوره بهذه البلاد.

ويبدو أن لإيطاليا قدم راسخة في الرسم والنحت، ويستبين هذا من قصورها ومنتجاتها، وقرأت في سيرة العراقية ميادة العسكري أن تمثال الملك فيصليبدو أنه الأولالمنصوب في الصالحية دون موافقة الملك كما تقول ابنة العراق، قد صنع بإشراف النحات العراقي المقيم في إيطاليا علي الجبري، ثمّ أنزله الانقلابيون عام 1958م، وأعاده صدام عام 1989م. وقرأت في كتاب لطيف عن خفايا الحياة الدبلوماسية أن السفيرة الأمريكية بإيطاليا تعرضت لتسمم غذائي، وبعد فحص اكتشفوا أن سقف منزلها الفخم يذر الزرنيخ على أطباق طعامها دون أن يشعر أحد؛ فكاد جمال السقف أن يودي بحياتها! ولإيطاليا ريادة بالأزياء الرسمية في أوروبا.

مما أذكره عن إيطاليا أني قرأت حوارًا مع رجل الأعمال والإحسان الشيخ عبدالرحمن العلي الجريسي، وفيها أنه يجيد التحدث بالإيطالية أو يلم بها إلمامًا حسنًا. وكان لنا قبل ثلث قرن جار من أهل بريدة يزحف نحو السبعين من العمر آنذاك، ويجيد اللغة الإيطالية حتى استعان به أحد المصارف لفتح خزانة كبرى مصنوعة بإيطاليا وليس لها دليل مترجم. وحدثني أستاذ جامعيمن صحبة خريفنا المزهرأن أحد طلبته اعترف له بأنه يعاني من مرض نفسي يقوده إلى الانفصال التام عن المجتمع؛ فلا يعرف ما حدث وما جرى، ومن شأنه أنه ذهب لدراسة اللغة الإنجليزية لمدة ستة أشهر، وجاءته الحالة المرضية هناك، فتزوج فتاة إيطالية قضى معها ثلثي المدة الدراسية، حتى استرجعه أهله دون أن يعي شيئًا من لغة الإنجليز أو الطليان، وكان بالثانية أحرى وأجدر!

ربما أن القارئ الأثير لديّ ينتظر أن أفشي له سر هذه الكتابة؛ وليس دون قارئي سر، فعندي جلسة خريفية سنوية ينتظرها روادها الأماجد سنة تلو أخرى، ونعقدها في مزرعة فيحاء بالعيينة بضيافة صديق صالح كريمة نفسه، أنيس مجلسه، منيف عزمه. وفي آخر مرة اجتمعنا في الأيام المنصرمة ورد شيء من الملح الإيطالية، فاستحسنها أولئك الكرام وهم أهل فهم وذوق؛ ولذا انقدح في ذهني أن أضم معها أخواتها ثمّ أنشرها تسلية للقارئ خاصة أنها تأتي في وسط أيام الامتحانات يسرها الله وأعان من يخوضها من طلاب ومعلمين وبيوت.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 22 من شهرِ ربيع الآخر عام 1444

16 من شهر نوفمبر عام 2022م

 

Please follow and like us:

2 Comments

  1. سامحك الله 😂

    قرأت مقالتك في الصالة، وكنت لوحدي، فلم أمالك نفسي إلا وأنا أضحك بصوت عالٍ على غير عادتي، فخشيت أن تفاجئني زوجتي والأبناء ويأتيهم الروع على غير عادتهم وعادتي 😈

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)