رحلة محمد السبيعي من الغنى إلى الغنى!
إنَّ تسجيل التّاريخ أمانة في أعناق من عاصره أو رواه، ومن أمتع التّواريخ وأنفعها تدوين المذكرات والسّير، سواء دوّنها أصحابها وهو الأفضل، أو كتبها عنهم آخرون، وقد يؤلفها من عايشوا المترجَم له عن قرب، وكانوا لصيقين به، وبالتالي تكون الكتابة مزيجاً من الذاتية والترجمة؛ ولعله أن يكون خيراً للسيرة وصاحبها؛ خاصة إذا امتاز المترجم له بالتواضع وهضم النفس، وكان للمؤلف رؤيته المستقلة.
وكتابنا اليوم فاز بهذه الميزة، وزاد عليها أنه يؤرخ لرجل عاش أكثر من قرن، فالكتابة عنه تتضمن رواية تاريخ بلد، وقصة كفاح، وتعاقب أجيال، وانتقال من حال إلى حال أحسن، والفضل كله لله وحده، وما العباد إلا أسباب مسخرة.
عنوان الكتاب: رحلة الفقر والغنى: محمد بن إبراهيم السبيعي، أعدته ابنته هدى، وساعدها ممدوح بن محمد الحوشان، وصدرت طبعته الثانية عام 1438=2017م عن دار الثلوثية، بعد أن راجعتها دارة الملك عبدالعزيز، ويقع في (310) صفحات، ويتكون من تقديم، ومقدمة، ثم خمسة عشر فصلاً، فخاتمة يعقبها المراجع، ثم ملحق بالوثائق غير مرقم الصفحات، وعلى الغلاف صورة جميلة للشيخ محمد، وريع الكتاب يعود للمؤسسة الخيرية.
كتب الأمير فيصل نجل الملك سلمان تقديماً عبقاً للكتاب، ويختصر عنوان التقديم حياة الشيخ السبيعي: ورع الحياة والتجارة! وما أندر الورع بين الخلق بله التجار. وذكر الأمير بأن هذه السيرة ليست قصة عادية لرب أسرة مع أولاده، بل هي تاريخ ماثل أمام القارئ، وفيها ملامح مفيدة للإنسان في شتى مراحل عمره، ومختلف أدوار حياته، ومن الموافقات أن يسَّطر أمير المدينة النبوية تقديماً لكتاب رجل مات أبوه في المدينة قبل تسعين عاماً، وعمل هو نفسه في المدينة قبل ثمانية عقود.
وتلقت المؤلفة عشرات الرسائل بعد صدور الطبعة الأولى من الكتاب -قبل عشر سنوات- كما ذكرت في المقدمة، مما حفزها لمراجعة الطبعة القديمة، وإضافة ما استجد لديها، أو ما عثرت عليه من وثائق، ثم أعادت نشر مقدمة الطبعة الأولى التي تفيض بالمشاعر تجاه والدها، وختمت بشكر كل من شارك في ظهور الكتاب بطبعته الثانية.
وصنع فريق الإعداد لكل فصل عنواناً، ووضعوا تحته أبياتاً من شعر السبيعي، وتحدث الفصل الأول عن خطواته الأولى، حيث ولد في عنيزة عام 1333، وتوفي والده مبكراً في المدينة عام 1344، بينما امتدت حياة والدته إلى عام 1404، فكانت لليتيمين محمد وشقيقه عبدالله كل شيء في حياة أحاطها اليتم والفقر، والمصاعب الجمَّة، بيد أن التوكل ثم العمل مع حسن النية، جعلت من هذه المحن منناً ومكرمات.
وسار الطفل اليتيم من بلدته عنيزة مع موكب الحجيج عام 1344؛ كي يلحق بعمه ناصر في مكة، واستغرقت الرحلة شهراً إلا ثلاثة أيام، وكانت رحلة مضنية حتى أن الحجاج يموت بعضهم في الطريق، ويبدو لي أنها ذات الرحلة التي حكى الأديب إبراهيم الحسون رحمه الله تفاصيلها الدقيقة في سيرته الماتعة، التي كتبتُ عنها قبل عدة سنوات، وقد أضاع صديقي هذا الكتاب النَّادر بعد أن استعاره مني! وحين بلغ السبيعي مكة دخل الكتَّاب والمدرسة، وعمل صبياً مع عمه ناصر، ولتعارض العمل مع الدراسة، اضطر بحسرةٍ لترك الأخيرة لأنه ما جاء إلا للعمل.
بدايات الكفاح هو عنوان الفصل الثاني، وفي آخره جدول بالأعمال التي مارسها السبيعي في شبابه المبكر، ولم يجد السبيعي ولا أبناؤه حرجاً في ذكرها، وهذا ديدن الكبار الذين لا يأنفون من ماض ليس فيه ما يعيب أو يشين، فمن سقاء وبائع إلى عامل بناء وطباخ، ثم أضحى بائعاً متجولاً، والتحق بوظيفة مشرف عمال، ثم مفتش طرق، وكانت سنُّه حينذاك تماثل عمر الطالب في المرحلتين المتوسطة والثانوية، وكم في سير الكبار من سياط تلهب ظهر الكسل، والتواكل، وتفاهة الاهتمامات، وقد خرج السبيعي من تجاربه الأولى بقاعدة حياتية مهمة، ظلت معه طوال حياته، ملخصها أنه لا عسير على من سأل الله التيسير ثم بذل الأسباب.
الفصل الثالث عنوانه العود.. أربح، حيث هجر الشاب السبيعي الوظائف وعاد إلى مكة وعالم التجارة، وأصدق تصوير لهذا الهجران الميمون، هو التمثيل بانتقال المرء من الرق إلى الحرية، وهل الكسب، وصدق التوكل، وملك النفس، إلا في التجارة دون الوظيفة؟ وبدأت شراكته الرائعة مع العصامي الكبير الشيخ سليمان الغنيم رحمه الله، وكانت قائمة على الصدق، والتفاهم، ولذلك كانت البركة معهما في حلهما وترحالهما إلى أن انتهت الشراكة بتراضٍ، ورقيٍ، وألقٍ يروى.
وبرزت لأهل السوق مبادئ هذا الشاب النجدي، وأخلاقه، فهو صادق، جميل المعشر، أمين، يمتاز بحيوية متدفقة، وإنجاز متقن، وفكر مبدع، وجلد عجيب، وفوق ذلك كله سمو في التعامل مع المال والشريك، ولعمر الله إن التجارة والشراكة لتكشف دواخل النفوس وبواطنها.
عنوان الفصل الرابع رحلة الغنى، حيث استشرف السبيعي المستقبل، وعرف أن الحجاز الشريف سوف يستقبل المزيد من الحجاج والعمار والزوار، ولذا ولج إلى عالم الصرافة وبيع العملات مقابل الذهب والفضة بكل ثقة وعزم، مستصحباً ما جبل عليه من خلق وأمانة، ومنطلقاً من المصداقية المتينة التي بناها، حتى أسس عام 1357 شركة الصرافة مع أخيه عبدالله، وكانا أول نجديين يعملان في الصرافة بمكة، ثم توسعت أعمالهما ففتحا فروعاً في جدة والرياض والمدينة، وأخيراً توج السبيعيان العراقة المصرفية بافتتاح بنك البلاد مع شركاء آخرين عام 1425.
ويحكي الفصل الخامس قناعات اقتصادية لدى الشيخ، وعلى رأسها أهمية الاستثمار في الصناعة والزراعة، لما فيهما من إنتاج ووظائف، وأمن واكتفاء للوطن. ويجزم أبو إبراهيم بأن التجارب الخاسرة مفتاح للنجاحات العظيمة، ويؤكد على التاجر ضرورة مراعاة المصلحة العامة، دون أن يهمل مصلحته طبعاً.
ومع أهمية بذل الأسباب، إلا أن السبيعي يرى بأن رضا الوالدين ودعاءهما المستمر يعد عاملاً في تحقيق النجاح، وألا مناص من الاستثمار داخل البلد خدمة له ولأهله، ويعتقد بأن الحزم والمتابعة، وتراكم الخبرة وعدم المجاملة مع أحد، تورث النجاح، ويختم بالحض على تعلم اللغات الأجنبية، وإذا كانت اللغة الثانية للمثقف عقلاً آخر، فهي للتاجر مجال استثماري جديد، وأمان من الخداع، وكل تاجر أعرف باللغة التي يتوجب عليه إتقانها.
ويقف الفصل السادس عند معالم شخصيته، حيث رسمت مصاعب الحياة شيئاً من ملامح الشخصية السبيعية، فهو صلب قوي الشكيمة، ويخوض غمار التحديات غير هياب ولا وجل، مع تجمله بالصبر والتريث والأناة، وإن أتجاوز فلن أتجاوز قدرته على اتخاذ القرار، وكم قتل التردد من فرص!
وكل نجاح حققه يعمق انتماءه لعائلته، ومجتمعه، ويزيده منهما قرباً. ولأنه نشأ يتيماً أفاض على أولاده حناناً لا تخبو جذوته؛ بل تزيدها الأيام توقداً وإن كبر وكبروا، وبسبب بداياته الضنكة نظر إلى الفقراء والمساكين بعطف سابغ، وأما الأيتام فكانوا موضع رعايته، وكيف لا يكون ذلك وهو اليتيم وشقيق اليتيم؟
واكتسب السبيعي من سكنى الحجاز المبارك أفقاً واسعاً، واطلاعاً كبيراً على عادات الشعوب الإسلامية، وثقافاتها، وطبائعها، وعاد عليه ذلك بانفتاح منضبط مقارنة بالذين ما برحوا ديارهم من جيله، وبالجملة فكل نجدي ضرب في الأرض للتجارة مع العقيلات أو في الحجاز أو غيرهما، يكون غالباً أوسع فكراً، وأطول بالاً من نظرائه القاطنين في ديارهم.
وحين فتح الله على محمد البراهيم السبيعي خزائن المال لم يبطر، ولم يتغطرس، فكانت حياته معتدلة، وأعماله بعيدة عن أي استثمار مريب ولو بشبهة، وخالط الناس وكأنه من عامتهم وليس من كبار النخبة الاقتصادية، وما أجمل تواضع ذي الجاه، وأقبح بالكِبر ممن كان.
واختص الفصل السابع بعلاقة السبيعي وولاة الأمر، وفيها طرف من علاقاته بعدد من الملوك والأمراء، وكان الفصل الثامن عن رجال حول السبيعي، حيث خرج من المواقف والتجارب متوشحاً بنجاح أو متدثراً بحكمة. ويعتبر السبيعي أن وصايا عمه ناصر هي سر نجاحه، وأن شقيقه عبدالله قليل النظير، وكل واحد منهما يكمل الآخر، والحق أنهما ضرباً مثالاً فريداً في الشركات العائلية والمؤسسات الخيرية، وافترقا بموت الشيخ محمد، وكل واحد منهما يحمل للآخر مثل ما يحمل لنفسه؛ وربما أزيد!
فالسبيعي سيمنح قلبه فقط لشقيقه عبدالله، وحين يمهر أحدهما ورقة بتوقيعه، فسيكون التوقيع عجيباً؛ لأنه يحمل اسم الشقيقين، وعندما قررا قسمة الثروة والممتلكات بينهما عن تراض وتشاور، كان خير توجيه يعطيه الشيخ لأنجاله هو أن يقسموا الثروة بين محمد وعبد الله كما تقسم البطيخة؛ دونما تدقيق، بينما يتقاتل الإخوة في المحاكم على مبالغ معلومة، فلا قلوبهم تصافت، ولا أموالهم تضاعفت!
وليت أن أبناء الشقيقين يتعاونون في الكتابة عن علاقة محمد وعبد الله، ويستثمرون وجود الشيخ عبدالله-أطال الله عمره على الطاعة والعافية- لسؤاله، والاسترشاد بمعلوماته وتفسيراته، وسيكون هذا العمل مفيداً مع تزايد خصام الأسر والإخوة، كما أنه سيرسخ هذه التقاليد الشامخة في أسرة السبيعي، وهم الأحق بالاقتباس من أبويهم.
وللسبيعي علاقات متينة مع تجار ثم مع أولادهم، وله تعاملات راقية مع شركاء، ومع موظفين أصبحوا شركاء، بيد أن أميز علاقة له كانت مع الشيخ عبدالعزيز بن باز، فهما متقاربان عمراً، ومتشابهان في سمات الكفاح والإصرار، والابتعاد عن المظاهر، وكان التاجر لا يرد للعالم طلباً ولو كان رصيده خاوياً، وأوصى العالم بأن التاجر مصدّق فيما يقوله دونما حاجة لبينة، وها قد رحلا، وخلّفا وراءهما هذه المواقف التي بمثلها يفتخر.
عنوان الفصل التاسع جهوده ورؤيته في العمل الخيري، وهو فصل قصير كبعض فصول الكتاب، بيد أنه لا يخفي جلالة قدر الرجل، وسابقته في العمل الخيري الفردي والمؤسسي والوقفي، وقمين بالمؤلفة أن تتوسع في هذا الفصل بعد رحيل الشيخ، وانتفاء الحرج من الثناء على الأحياء، وهذا من تعظيم الأجر لوالدها. وقد يكون من المناسب استكتاب القريبين منه في عمله الخيري المؤسسي، فضلاً عن غيرهم من رموز العمل المجتمعي، فهم شهود الله في أرضه، وإن أبا إبراهيم ليستحق أن يشهد له الخيرة من الناس فيما نحسبهم.
تاجر.. وشاعر هو عنوان الفصل العاشر، وهو عنوان ديوان الشيخ المطبوع، ويبدو أن السبيعي وجد في الشعر متنفساً للتعبير عن مكنونه وخلجاته بعد اللجوء إلى الله كما قالت المؤلفة، ولا ريب أن العمل الإبداعي كتابة وشعراً ورسماً يعين صاحبه على بث الشكوى، والتعبير عما يستكن في النفس، وتريح المرء من أحمال الحياة وأثقالها، تماماً كما يفعل المصدور حين ينفث فيسكن.
وعبر الشعر، أبان الشاعر عن حبه الكبير لوالدته نوره العماش، وتقديره العميق لشقيقه عبدالله، وعشقه المتنامي لزوجه منيرة السماحي التي يصفها بأنها عباته كأصدق تعبير عن القرب والمحبة، وله قصائد وطنية، وأخرى لا تخلو من المداعبات كعادة الشعراء.
والفصل الحادي عشر عن النظرة للصحة والمرض، وأغلبه رواية عن طبيبه وصهر شقيقه الدكتور سليمان السحيمي، ولصرامة السبيعي في نظامه الصحي والغذائي لم يضطر لتناول أدوية السكر، وتعايش مع المرض عدة عقود، وكان حريصاً على الفحص المبكر، والمشي، فمن ترك المشي صعب عليه. وكان مع هذه الاحتياطات مؤمنا بالقضاء وأنه هو الخيرة من الله، ومن سماته لطفه مع فريقه الطبي، ومؤانسته لهم، وحرصه على زيارة المرضى طلباً للأجر حتى وهو منهك صحياً.
وصايا ويوميات هو عنوان الفصل الثاني عشر، ومن أكثر وصاياه الإيمان بالله، وحسن الظن به، والتوكل عليه، مع العمل وبذل الأسباب، والحث على التبكير، وبهذه المزايا بعد نعمة الله، انتقل السبيعي من صبي في دكان إلى مؤسس بنك كبير. ويجعل السبيعي في جدوله وقتاً للعائلة، وآخر للأسرة، وثالثاً للجيران والأصدقاء.
عنوان الفصل الثالث عشر السبيعي في الصحافة، وفيه مقالات كتبها الشيخ في مناسبات مختلفة، وأما خبر من كتبوا عن السبيعي ففي الفصل الرابع عشر، حيث يبرز للعيان متانة علاقاته بشركائه ومنافسيه، وجيرانه وأصدقائه؛ وما أجمل أن يعرف الأبناء أحباب والديهم ليصلوهم، بيد أن السبيعي فعل العكس، وكان هو المبادر للتواصل مع أبناء أصدقائه، وهم الذين ورثوا عن آبائهم حب هذا الرجل، ثم زاد الحب بتواصله ووفائه، وحرصوا على استمرار العلاقة الطيبة، والشهادة الصادقة عنها.
واختارت المؤلفة عنوان الفصل الخامس عشر والأخير مسك ختام عن والدها في عيون محبيه، حيث افتتح بكلمة للشيخ عبدالله عن شقيقه، ثم كلمة لزوجته السماحية أم إبراهيم، وبعد ذلك بدأت ابنته الأولى لولوة بنثر مشاعرها تجاه والدها ووالدتها موضي الدامغ وجدتها أم محمد-رحمهم الله-، ثم شكرها الرقيق لزوجة لوالدها، وحين جاء دور الابن الأكبر إبراهيم ذكر أن والده كان بالنسبة له كالجامعة التي تخرج فيها، واغترف أبو عادل منها معرفة وخبرات لا تقدر بثمن.
ثم تحدث الابن الثاني ناصر، وهو يحمل اسم عم والده، واسم جدهم الأكبر، واسم جد أبيه لأمه، وسمى إحدى كريماته باسم جدته نورة- وحقيق بالحفيدة أن تزهو بجمال الاسم وموافقة اسم الجدة -، ولذا كان يمازحه والده ويناديه بذي النورين. وقد أفاض أبو ماجد بذكر ما يستحقه والده من سمات، فهو أب رحيم، ومرب حكيم، وتاجر حاذق، وإداري بارع، وأخ وصديق لبنيه في الكبر، وفوق ذلك مدرسة تكتنز كثيراً من خبرات الحياة وعلومها. وكتب عنه إبراهيم النجل الأكبر لشقيقه عبد الله، وزوج المؤلفة، وذكر أبو وليد أنه لم يعرف كلمة عمي حتى كبر، لأنه كان ينادي عمه يا والدي، وقد كان له ولأخوته كأبيهم، وأفادوا منه وقبسوا من تجاربه وصفاته.
وبعد ذلك كتبت عنه بناته هيفاء، ووفاء، ومها، وندى، ثم ابنه عبدالعزيز، فابنته الصغرى نهلة. وألحظ في مشاعر بناته تجاه أنهن أجمعن على فرط حنانه، وحاجتهن حتى بعد الكبر-وبعضهن ستصبح جدة أو أصبحت- إلى احتضانه، ويتذكرن باستطعام كبير لذاذة القرب منه، وأثر فروته أو مشلحه، وفي ذلك رسالة للآباء أن أفيضوا على بناتكم حناناً واحتضاناً، فالبنت تحتاج لذلك من أبيها، وأكثر.
ومما يلمح في حديث البنات عن أبيهن، أنه يرخم الأسماء حين المناداة، أو يجعل الاسم في عبارة مسجوعة تدليلاً وممازحة، وكنت أتمنى أن تكون كتابة بناته عنه بلا تدخل تحريري بالزخرفة اللفظية التي تميت المعاني، وتسلب الحياة من الكلمات، تلك الحياة التي بدت واضحة في أصغر كلمة كتبها ابنه عبدالعزيز عبر خمسة أسطر، حيث اختصر أبو خالد القول حين كتب: أعطيتنا أكثر مما نستحق، والله يعيننا لنعطيك بعضاً مما تستحق.
وبلطف وبر وحسن معشر، استكتبت زوجات الأبناء الثلاثة للحديث عن جد أولادهن، واثنتان منهما كريمات شقيقه الشيخ عبد الله، بينما الثالثة بنت الجيران كما كان الشيخ السبيعي يناديها ملاطفاً، وقد أجمعن على أبوته الثانية لهن، وتعامله الكريم معهن، وبعد ذلك كانت الخاتمة المختصرة، والمراجع، والوثائق.
واليوم، يكاد أن يكمل الشيخ محمد شهره الأول راحلاً عن دنيا الناس بعد أن توفي في يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر ذي القعدة الماضي، وقد ترك سيرة عذبة كريمة، ومسيرة حافلة باذخة، وأسرة فاضلة خيرة، وانتقل عبر أكثر من قرن من الزمان، في رحلة طويلة شاقة من الفقر لكن بغنى النفس من الإيمان، والنشاط، وحسن الظن بالله، وجميل السجايا، إلى مرحلة أخرى من الغنى بالمال، والجاه، والحضور؛ لكن مع بقاء الغنى الأول وربما تعاظمه.
فجمع الله له سماحة النفس، وسجاحة الروح، ورجاحة العقل، وغنى الجيب، فلم يطغ المال، وحبه، وجمعه، على فضائله أيام الفقر والفاقة، وظل وفياً لأناسه وبلده ومبادئه، ليكون بذلك قدوة للفقراء، ومثالاً للكادحين، ونموذجاً للأغنياء، وإماماً للمنفقين والواقفين، فاللهم اجعل ما قيل وما سيقال عنه من الذكر الحسن في الآخرين، ومن استمرار الأجر له بالاقتداء في التربية، والكفاح، والتجارة، والإنفاق.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -الرياض
الاثنين 13 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1438
04 من شهر سبتمبر عام 2017م
4 Comments