محمد عزير شمس: ضياء وإحياء!
نعى البارحة الشيخ د.علي العمران أخاه وصديقه ورفيقه في أحد أهم المشروعات العلمية المعاصرة، وهو الشيخ المحقق محمد عزير بن شمس الحق بن رضاء الله (1957-2022م) الذي توفي بمكة بعد أن أمضى عمره محاطًا بالعلم من كل ناحية إن في البيت، أو المدرسة، أو المسجد، أو العمل، وسواء كان حاضرًا أم مسافرًا، ومهما بلغت الشقة، أو ناله النصب في سبيل قراءة كتاب، أو العثور على مخطوطة، أو فك مستغلق، أو خدمة باحث، أو تصحيح خطأ، أو إكمال نقص.
وإذا أردنا أن نستجلي العبر من سيرة حياة الشيخ محمد عزير، ومن مسيرته العلمية، فسوف تبرز لنا ملامح عديدة جديرة بأن توقظ الذهن، وتعلي من مستوى العزة، وتعيد للمعاني السامية رونقها وبهاءها وحضورها الذي يقصي ما سواها من لعاعات الدنيا، وتفاهات الأشياء، فقد رحل الشيخ من الحياة، بيد أن اسمه سيظل لصيقًا بعلوم ذات شرف وتقدمة، وبعلماء أعلام ومجددين، وبمشروعات في التأليف والبحث والتنوير الحقيقي الذي لا معنى له إن لم يقتبس من نور الوحيين الشريفين.
فأول أمر نراه يصاحبنا مع هذه النسمة الطاهرة هو بركة العلم، وقيمته العالية، ولو لم يشتغل الشيخ بالعلم أو يقترب منه، لما استطاع أن يضرب في أبواب من الحسنات كثيرة، وربما لم يتهيأ له العيش في المدينة النبوية أو مكة المقدسة، وغدا مثل أيّ إنسان عابر لا يؤبه به. وبالعلم اتصل الشيخ بسادات من السابقين، وتعرف إلى قامات من المعاصرين، وغدا علمًا يتأسى به الحاضرون والقادمون؛ فيا لجلال العلم وخدمته، ويا لبركات صرف العمر فيه ومعه.
ويقودنا الحديث عن العلم إلى مسألة دقيقة قمين بأن يلفت النظر إليها، وهي أن شيخ الإسلام ابن تيمية الذي عاش أغلب عمره في الشام ومات سجينًا مظلومًا في إحدى قلاعها، قد صنف الكتب وكتب الرسائل، ثمّ قيّض الله لها من أبناء المسلمين ذوي الأهلية الشرعية من يتتبع أثرها في أصقاع الدنيا، ويخرجها كما كتبتها اليد التيمية مع صعوبة خطه، وتلك آية تدل على خلود العلم، وصدق النية بإذن الله، ودليل على عراقة هذا الأمة التي يقوم الآخر منها بإرث الأول العلمي حتى لكأنه من نفائس الأموال أو وصايا الآباء والأجداد، وهو على التحقيق أغلى وأنفس.
كما تأخذنا هذه السيرة العذبة إلى أن العلم من أعظم ما يقاوم الاحتلال البغيض ومناهجه، ومن أنجح السبل لمدافعة التغريب والإفساد، فمع اجتهاد الإنجليز في كسر نفوس الهنود خاصة المسلمين منهم، ومع سعي خلفائهم وحلفائهم من الهندوس للتضييق على المسلمين وإفقارهم وبث الشهوات بينهم، إلّا أن المدرسة العلمية الشرعية في الهند ظلت صامدة باقية، تدرس الطلاب، وتعلّم الأجيال، حتى أصبح منهم العلماء في الحديث والسيرة والتفسير والفكر، وبل في اللغة العربية إن كان للعجب مكان لديك! ولهم من المؤلفات الباهرة ما لا يخفى على عارف، حتى أنهم فازوا بجوائز عديدة، وانتقلت منهم علوم الحديث والسنة إلى جزيرة العرب التي خرج منها الحديث الشريف أول الأمر.
وهذا يجعلنا أكثر حرصًا على المسألة العلمية التي يجب أن يكون لها المقام الأول في جميع أعمال التصحيح ومناهج الإصلاح، فلا خير في شأن لا يتقدمه العلم، ولا ثمرة من وراء تعب ليس للعلم فيه مكان سني جلي، وإن مثل هذا الأمر ليزداد في أعصر يكاد أن تجبر فيه مجريات الحياة ولوازمها وتنظيماتها الناس على الابتعاد عن علوم الشريعة واللغة والتاريخ، وفي المدارس، والمساجد، وبيوت العلم سبيل لسدّ هذا النقص، وفي الوسائل الحديثة ما يعين على ردم الفجوة، وعلاج هذا الخلل، وملائك الرحمن تكتب الأجور لمن شارك بوقف أو مال أو وقت أو فكر أو علم أو مساندة وتيسير أو أيّ شيء يبقي على العلم وطلبه متاحًا غير عسير.
ومما يتبدى في سيرة العالم المحقق الشيخ محمد عزير تلك المنزلة الرفيعة التي تبوأتها الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، حتى غدت مقصدًا للمسلمين في بقاع العالم، ولربما أنها استقبلت طالبًا فأكثر من كل بلد تقريبًا، وهو مشروع عظيم في فكرته وعمله، ومع حداثة التجربة نسبيًا إلّا أن الجامعة أثبتت تفوقها، ووضعت لنفسها خانة مركوزة بجوار الأزهر وكبريات الجامعات الإسلامية، ومن المؤكد أن غير بلد يود لو كانت لديه مثل هذه الفرصة الثمينة التي صيرت إحدى الجامعات العلمية أشبه بوزارة خارجية بيد أنها تتعامل بالعلم مع سفراء الدول بعيدًا عن السياسة وخلافاتها.
كذلك الشأن في بقية جامعات بلادنا المباركة، ومنها جامعة أم القرى التي استقطبت الشيخ عزير للعمل فيها مستفيدة من جديته العلمية، ومواهبه البحثية، ومعرفته العميقة بالكتب والمخطوطات، وإجادته لعدة لغات منها العربية التي نافح عنها وساعد في نشر كنوزها، وتلك لعمركم آية لافتة حين تخدم هذه اللغة الشريفة حتى من غير بنيها، وهي نعمة من أثر الإسلام والقرآن والسنة، وإن لغة حُفظت بالكتاب المقدس المحفوظ من رب العالمين وبأمره لن تضيع ولن تزول ولو ضعفت أو بليت بما يكون لغيرها السبب المميت.
وإن نسيت فلن أترك صدق فراسة الشيخ العلامة بكر أبو زيد حين اصطفى الشيخ محمد عزير وزكاه وأثنى عليه كما ذكر الشيخ د.علي العمران في مقال تعريفي مختصر قديم، حتى أصبح الشيخ عزير واحدًا من المحققين البارزين المشاركين في المشروع العلمي الضخم الذي أشرف عليه الشيخ بكر، وغايته إعادة نشر الإرث العلمي لعدد من كبار علماء الإسلام القدماء والمعاصرين بصورة متينة في الإخراج العلمي، وحلة قشيبة من الإخراج الفني، ولم يقف المشروع العظيم عند هذا الحدّ، بل أظهر للعلماء والقراء عددًا من الرسائل والكتب التي لم تكن معروفة فيما سبق، أو غير منسوبة، أو غير مكتملة.
ولست بغافل عن أثر المنزل والأسرة في حياة الشيخ عزير، ذلك أن جده لأمه آلى على نفسه ألّا يزوج بناته لغير العلماء وطلبة العلم، وذلك من رعاية الأمانة وحسن الولاية. ثمّ تربى الشيخ في بيت والدين صالحين، ولوالده وجده وأعمامه وإخوانه تاريخ علمي راسخ. وقد درس الشيخ في صباه بمدارس ومعاهد وجامعات، حتى تمكن من إجادة عدة لغات، والبصر بالقراءة والكتابة والتأليف. ومن خبره المبكر أنه كتب وهو في السادسة عشرة من عمره مقالات متينة صارت كتابًا فيما بعد، ونشرت هذه المقالات في أرقى المجلات، وكان بعض الناس يظنه رجلًا كبير العمر من مقدار ما فيها من علم وفهم. ويمكن لمن شاء الاستزادة أن يبحث عن حلقات جميلة مع الشيخ لرواية سيرته، وأدار الحوار فيها الخبير العارف د.عبدالرحمن قائد.
إننا أمة عريقة ممتدة، لا يُدرى أين يكون النفع فيها، وكم في العالم الإسلامي العربي وغير العربي من كنوز بشرية تغار على دينها وتدافع عنه وعن الجناب الكريم، وعلوم الشريعة، واللغة وآدابها، والتاريخ ورموزه، ولو لم يسخر الله أمثال هؤلاء الكرام البررة لطمست معالم الشريعة من قرون، فالحمدلله أن حفظ الدين بهؤلاء العدول المرابطين المنافحين الذين يذبون كل متقحم بسوء أو جرأة قبيحة، وهم صنو إخوانهم في الجهاد ودفع الصائل وصدّ العوادي؛ فنحن أمة القوة في إسنادها، وأمة القوة في أجنادها، أو هكذا ينبغي أن نكون.
فيا عبدالله اضرب بسهمك ولا تستقلّ الجهد أيًا كان، وادل بدلوك ولا يقعدن بك بُعد القاع، أو صغر الدلو، أو ضعف الحبل، أو كلال اليد، فإن النية الصالحة تسبق بالعمل وتبقيه وتنميه. ويا أيها الناس أبشروا وظنوا بربكم أحسن الظن الذي هو أهله سبحانه، وأديموا أحسن القول والعمل، فما يدريكم لعلّ شيئًا من ثماركم يكون مثل الشمس في ضيائها ونورها ودفئها وعافيتها، أو مثل عزير الذي كان مثالًا على القدرة الربانية بالإحياء بعد موات استمر مئة عام، وأيّ شأن أجلّ وأسنى من أن تكون شريكًا في الضياء أو الإحياء.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الأحد 20 من شهرِ ربيع الأول عام 1444
16 من شهر أكتوبر عام 2022م
2 Comments
حقيق بأن تُكتب له سيرة 👌🏻♥️
يقول الشيخ د. وصي الله عباس المدرس بالمسجد الحرام:
(انا لله وانا اليه راجعون توفي البارحة مع اذان العشاء الاخ الحبيب العلامة المحقق المتفنن الدكتور عزير شمس في مجلس منزله وكان مع بعض طلبة جدد جاءوا لزيارته فكان ينصحهم ان يخلصوا نياتهم ويكونوا مع الله ويجتهدوا في الطلب والتحصيل اذ سمع اذان العشاء فاراد ان يقوم فسقط امامهم على الزربية وكان في المجلس احد الاطباء الهنود الذي كان دعاه لطعام العشاء فجاء لياخذه الى بيته فكشفه في حينه بعد دقائق فوجده قد توفاه الله وطلبوا الاسعاف فجاء الفريق وقرروا انه توفي ولا حاجة للاسراع به الى المستشفى وقرر اهله ان يكون الدفن في فجر الاثنين غدا ان شاء الله لان احد ابنائه يدرس في المانيا ويرجى وصوله الى مكة الليلة القادمة اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه واغفر ذنوبه وارفع درجاته في الصالحين و تقبل اعماله بقبول حسن آمين يا رب العالمين والمتوفى رحمه الله مشهور بين طلبة العلم في البلاد الاسلامية والمسلمين باعماله العلمية جعل الله ثوابها جارية له آمين).