قصتي مع استعراض الكتب
كتبت حتى الآن أزيد من أربعمئة مقال استعرضت فيها عددًا من الكتب، وجلّها يقتصر على كتاب واحد، ولربما ورد في بعضها كتابان أو ثلاثة أو أكثر، وحظيت بعض الكتب بمقالات عديدة. وهذه الكتب المستعرضة تنتسب لأقسام علمية ومعرفية كثيرة، ولمؤلفين معاصرين وقدماء، ومن بلدان متنوعة، ولم ألتفت لموافقة المؤلف أو مخالفته في بعض المسائل. وبناء على طلب من بعض القراء، واستجابة لرغبة آخرين من المستمعين، تحدثت عن هذه التجربة، وكتبت عنها.
لذلك فلي مع الكتابة عن هذه المؤلفات المئوية قصة لا تخلو من فائدة ومتعة سأرويها هنا، وربما أتحدث عن شيء منها في لقاء قريب سيُعقد بإذن الله عن بعد. وآمل أن يكون في هذه الحكاية والخبرة والذكريات ما يقوّم عملي ويرشده، ويزيد صنعتي تجويدًا وبركة، ويفيد الآخرين الذين من المقطوع به أني لن أعدم منهم صادق الدعاء، وشيئًا غير مهمل من الرأي المبارك.
أول مرة أذكر أني كتبت فيها استعراضًا لكتاب كانت إبان المرحلة الجامعية، ونشر ذلكم المقال لا في صحيفة رسالة الجامعة الصادرة عن طلبة جامعة الملك سعود، مع أنها كانت تستقبل ما أكتبه، بل في صحيفة جدارية معلّقة في أحد الممرات بكلية الصيدلة، ولك أن تعجب حين تعلم بأن ذلك المقال المنشور في هاتيك الزاوية القصيّة وصل لمؤلف الكتاب وهو أستاذ في جامعة أخرى، ثمّ أرسل إليّ كتابه موضوع المقال الذي لم أحفظ نسخة منه، وعلى الكتاب إهداء بخطّ يده.
وقد غفلت عن هذا الأمر سنوات عددًا مع شدة إغرائه وحضوره في ذهني، لكني كنت دائم الحديث مع بعض الصحب عن الكتب، وأطلب منهم إفادتنا شفهيًا عما قرأوه، وقد أفعل ذلك أحيانًا حتى يقول قائلهم: شوقتنا لقراءة الكتاب! ولم يطرأ على بالي أن أبدأ في هذا المشوار المحبب؛ مع أني أقرأ لكبار الكتّاب وفي تاريخهم وسيرهم أنهم درجوا على الكتابة عن المصنفات والمطبوعات، وربما أُسند لبعضهم تحرير صفحة تتابع الكتب الجديدة، وتسعى لتقييمها في مجلة أو صحيفة.
ثمّ سافرت في رحلة عمل إلى الإمارات، وذهبت للتجول في مكتبات تجارية؛ فالمكتبات من خير ما يُزار في البلدان بدلًا من التسكع الخالي من المنافع، واشتريت من إحداها كتابًا حديث الصدور آنذاك عنوانه: الحرب على الموارد، وحينما قرأته قررت أن أكتب عنه، وأن يكون هو أول كتاب في سلسلة من التدوين عن الكتب، ووضعت بعض الملحوظات والخطط العريضة لمشروعي، ومن الطريف أن المشروع بدأ عقب سنوات؛ لكن بغير هذا الكتاب، الذي تراخت الهمة دون الحديث عنه إلى قريب من عقدين!
بعد ذلك توالي النشر عن الكتب المقروءة، فاتصل بي مالك موقع شهير في تلك الأيام، وقال لي: أرجو أن تستمر فإن استعراضك للكتب جميل! وحتى لا يكون هذا المقال عن عرض الكتب من باب الاستعراض ومدح الذات، أعترف بأن بعض القراء اعترض على طريقتي، وعلى وضع عنوان يخالف عناوين الكتب أحيانًا، وعلى الطول أو القصر، ومع ذلك فأنا مقتنع بما أصنع، وماضٍ فيه بحول الله؛ فالتنويع في الطريقة والتخصص ضرورة، واختيار العنوان يعود لرأيي فلست أكتب المراجعة في مجلات أكاديمية كي ألتزم بعنوان المؤلف الذي انتقاه بناء على ذائقته أو لأسباب تخصه.
ومن الطبيعي أن تحدث لي بعض القصص بسبب هذا المشروع الذي آمل أن أصل فيه إلى ألف كتاب، وهي قصص مختلفة، ولا يخلو بعضها من طرافة. فمما جرى لي أن أحد المؤلفين غضب من إبداء بعض الآراء في أثناء الحديث عن كتابه مع سروره بمجمل قولي، ولأنه مسنٌّ وليس له معرفة بوسائل التواصل الاجتماعي، كتب في حسابه يناقشني كأننا في منتدى أو أنني أمامه! ونقل لي صديق يدّرس في الجامعة أن مجموعتهم الوتسية تداولت هذا المقال، وعلّقوا عليه ما بين موافقة أو مخالفة، وقال لي كاتب صاحب عمود في صحيفتين سعوديتين حينما اجتمعنا في مناسبة: ما كتبته أفضل من الكتاب نفسه!
هذا التفضيل تكرر عليّ كثيرًا؛ حتى أن بعض المؤلفين ومنهم وزراء سابقون، وأكاديميون، وأصحاب قلم، وذووا تآليف سابقة، قالوا لي في سياق الشكر والثناء ما معناه: لو طُلب إلينا تعريف كتبنا لما خططنا أزين مما سطره قلمك! ولو كانت هذه الوقائع كلمة واحدة لعددتها من لطيف المجاملات وجبر الخواطر، بيد أنها واحدة ولها أخوات أخريات متواليات لا تنقطع بلا حرص مني ولا طلب ولا متابعة؛ فالحمدلله على نعمه، وأبرأ له سبحانه من الحول والطول والقوة، ولا آنف من ناصح، ولا أجفل من وجود القصور؛ فنحن بنو آدم عليه السلام الذي تاب وأناب.
كما “أيملني” مؤلف من خارج المملكة كاتبًا: لقد أحرقت كتابي بتعريفك الشامل! فأجبته: هل أحذف المقال المنشور؟ فرفض مؤكدًا بأن المؤلف يفرح بما يُقال عن كتابه. وعندما طبع بعض المؤلفين نشرات جديدة من كتبهم، أضاف عدد منهم لها ما كتبته عنها، وذات مرة أرسل لي زميل في مجموعة وتسية صورة من أحد الكتب المطبوعة حديثًا، وفيها مقال لي عن الطبعة الأولى من الكتاب نفسه، وسألني بعد أن أطلع المجموعة على الصورة: أهو أنت؟ ثمّ أردف بعد أن عرف الجواب: ولم هذا الصمات الرهيب منك في المجموعة؟!
ومن طريف المواقف أن أحد الأقارب أرسل لي صورة من صحيفة عربية مهاجرة سيارة، وفيها مقال من نصف صفحة، يستشهد كاتبه برأي نسبه لي، والحقيقة أنه ليس رأيي، وإنما قول مؤلف الكتاب الذي راجعته، وهذه معضلة لا انفكاك منها؛ فعدد غير يسير من القراء يربط بين الرأي الوارد في الكتاب المستعرض، وبين آراء كاتب العرض، ولا تلازم بينهما البتة لمن وعى وتبصر. ويزداد الحرج لو كان المقال منشورًا قبل مدة من الزمن، ثمّ طرأ تغيّر حادث جديد غير متوقع في النظر إلى المؤلف أو الكتاب أو الموضوع أو الناشر، وبعض من يهيمون بسوء الظنّ لا يقدّر أننا لا نعلم الغيب حينما كتبنا، وأن التدوين عملية قديمة لا تقع عليها الرجعة، إذ أن النشر تمّ في وقت لم يكن فيه أيّ بأس يحوم حول أطراف الكتاب وإن قل.
كذلك أذكر أن رئيس قسم في جامعة شيعية عالمية تواصل معي للسؤال عن كتاب على اعتبار أني مؤلفه، وهذا خطأ متكرر بالمناسبة، فأخبرته أن الكتاب ليس لي، وأحلته لمن يملك حقوق النشر فمنحوه نسخة إلكترونية شرعية؛ فعاد الرجل إليّ شاكرًا ذاكرًا، خلافًا لآخر سألني عن كتاب ثانٍ صادر عن المؤسسة ذاتها، وسبق لي الكتابة عنه أيضًا، وبعد أن ربطته بهم، ونال نسخة إلكترونية شرعية منهم، مرَّ كأن لم يطلب مني شيئًا، وإن كنت لا أنتظر منه جزاء ولا شكورًا؛ بيد أن اللطف واللباقة محبوبان، والاستنكاف عن البوح بكلمة حسنة واحدة طبع يثير الشفقة على البخيل بكليمة حلوة!
وذات مرة وصلتني رسالة عبر تويتر، يطلب صاحبها كتابًا نادرًا كتبت عنه فيما مضى، وقد استربت من الرسالة وصاحبها؛ فأسلوبها راق للغاية، بينما الحساب المرسلة منه يكتب بلغة مصابة بهزال بيّن، وجلّ ما يكتبه بعيد عن موضوع الكتاب كما بين المشرقين! فرددت على الرسالة موضحًا استغرابي، وهو الاستغراب الذي زال بمجرد قراءة جوابه ومختصره أنه باحث دكتوراه، وليس لديه حساب بتويتر، وإنما هو حساب نجل شقيقه المراهق! وطبعًا وصلته نسختي من هذا الكتاب ليستفيد منه، وهو أمر عجزت عن تحقيقه لباحث عراقي يسعى للحصول على الدكتوراه في التاريخ الأوروبي، وسألني عن كتاب عرضته؛ لكني لم أهتدِ لنسختي، وحاولت الاستعانة بقارئ من الجزائر تواصل معي وأخبرني أن الكتاب لديه، والحمدلله أن تمكن الباحث من نوال مطلوبه فيما بعد.
يقودنا الحديث عن العراق إلى أني كتبت مرة عن كتاب فيه حوارات مع الكتّاب، فتواصل معي مترجم الحوارات من العراق شاكرًا، وأخذ عنواني البريدي ليرسل لي كتبًا أخرى له، ومنها كتاب عن ترجمته لحوارات مع كاتبات عالميات، ولكن لم يصلني الكتاب المرسل بريديًا مما كدّرني وأحزن الرجل. وبعد سنوات من هذه الحادثة، وصلتني نسخة من الكتاب هدية من أحد الأصدقاء في الأردن على هامش معرض الكتاب الأخير بالرياض، وله ولمن تسلّم الكتاب نيابة عني، وأوصله لي المحبة والدعاء، ولعلّي أن أتمكن من نشر بعض المقتبسات منه حسب عادتي مع الكتب التي تتحدث عن الكتابة؛ لأني أحبها.
ومن غريب ما عبر بي أني كتبت عن كتاب صغير تلبية لطلب صديق يعمل لدى مؤلف الكتاب، والكتاب على صغر حجمه فيه فكرة لطيفة، وحينما نشرت المقال بعد صلاة العشاء بساعات تواصل معي عبر تويتر في الوقت نفسه ابن المؤلف شاكرًا وطالبًا رقمي؛ لأن والده الذي ينام مبكرًا يرغب في التواصل معي صبيحة الغد، فأعطيته الرقم الذي يمكن الوصول إليه بسهولة دون سؤال.
المهم أن المؤلف لم يتصل كما روى عنه ولده، وليس يعنيني ذلك، والمقال موجود لم يتغير منه حرف واحد؛ لكني تعجبت من الحرص والإلحاف ثمّ الإهمال، وربما لحقهم شك من تجاوبي السريع معهم جريًا على عادتي -مالم يحل حائل دون ذلك- وخلافًا لعادات آخرين غيري يرون في تأخير الجواب أو تركه كليّة نوعًا من اصطناع الأهمية و”الثقل”، فظن المؤلف وآله -وبعض الظن إثم- أن لي من الأغراض ما دفعني للاستجابة السريعة، وهو ما أغراهم بالهروب طلبًا للسلامة، وقد يكون لهم عذر آخر.
ولن أخفي على القارئ أني أتعمّد عرض بعض الكتب ليفهم الناظر فيها أن هذا كل ما في الكتاب؛ فلا داعي لشرائه وقضاء الوقت معه. وإذا كان الكتاب نادرًا أو قديمًا منحته قدرًا من العناية؛ لصعوبة توافره ووصول نسخة منه لجميع القراء. وفي بعض المرات يكون العرض لكتاب مهم متاح، بيد أن حفظ وقت سراة الناس بقراءة ملخص يضم لباب الكتاب ويجمع أشتاته هدف مهم، وقد يصبح هذا العرض سببًا في طلب استعارة الكتاب كما حصل معي غير مرة.
أشير أخيرًا إلى أن معرفة الكاتب لا تُعدّ عاملًا جوهريًا يحفز على الكتابة، وأن وصول الكتاب هدية من مؤلفه ليس سببًا كافيًا للكتابة عنه، وهو شأن أتعرض له كثيرًا مع تلميح أو تصريح، فإن من ولج إلى هذا الباب سيغدو مقصدًا للمؤلفين ودور النشر. ومن ناحية اخرى أذكر أني سارعت لعرض بعض الكتب تفاعلًا مع حدث أتى أو سيأتي، كما صنعت بأربعة كتب بعد وفاة الوالدة غفر الله لها، ومن الموافقات أن وصلتني قبل أيام قلائل قبيل الفجر رسالة من قارئ مفجوع بأمه، ويشكرني على أحدها لما وجده فيه من مسلاة، وكانت رسالته الوتسية دافعًا لكتابة هذا المقال.
وقد يصبح موضوع الكتاب سببًا أساسيًا في الكتابة عنه لوجود اهتمام خاص به، وعناية زائدة بمضمونه؛ فلدي حرص على بعض الموضوعات، وعليه فحينما أقرأ أشارك غيري بالمختصر، والغاية الإفادة، وسرعة الرجوع إليه في أيّ وقت، وتنشيط الذهن. وفي بعض الأحوال يكون للزمان، والمكان، والحال، عوامل مساعدة في الدفع نحو الكتابة، ومن أمثلتها أني كنت سأشترك مع مؤلف يكبرني بثلاثين سنة في محاضرة؛ فسارعت لعرض أحد كتبه قبل عقد تلك المحاضرة، وأردت تلطيف الأجواء مع آخرين فكتبت عن أحد مؤلفاتهم، وهي جميعًا من الكتب ذات المحتوى النافع والمضمون الرزين، فمن الغش، ونقص الأمانة، وتضييع العمر، أن أضع سوداء على بيضاء من أجل سواد العيون فقط!
خلاصة هذا كله يا معاشر القراء الكرام والكريمات، ويا أيها الكتّاب النابهين والنابهات، لكم أن تجعلوا من مراجعة الكتب بالحديث عنها أو الكتابة سببًا لتركيز القراءة، وتعظيم ثمرتها. وهي فرصة لإدامة القراءة، وتتابع الكتابة، فما أجمله من عمل ذلك الذي يجمع بين القراءة والكتابة، هذا غير ما فيه من التعريف بكتاب ومؤلف، والتيسير على قارئ لا يقوى على القراءة الطويلة، أو لا يقدر على سوق الثمن. وفيه أيضًا إدخال السرور على قلب صاحب الكتاب وناشره، وعلى نفوس عامة القراء بما يحصدونه من فوائد دانية بلا مشقة، والله يكتب أجرك، ويعينك، ويرفع منزلتك، ويتقبل جهدك بقبول حسن منه سبحانه.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 17 من شهرِ ربيع الأول عام 1444
13 من شهر أكتوبر عام 2022م
9 Comments
ماشاء الله تبارك الله.
زادك الله من واسع فضله.
فكرة رائعة واجتهاد لاحرمك الله أجره.
حبذا لو تم اضافة تسجيل صوتي لها.
مقال جميل جدا
مبهج… بس خوفتنا
👍🏽👍🏽جميل
اخوكم خالد من تشاد
لعلكم تجمعونها في مجلد لطيف
وفقك الله وسددك ونفع بعلمك وعملك
لو طُلب إلينا تعريفٌ… لما خططنا أزين مما سطره قلمك!
وصف بديع “مرَّ وكأن لم يأخذ مني شيئًا، وإن كنت لا أنتظر منه جزاء ولا شكورًا؛ بيد أن اللطف واللباقة محبوبان، والاستنكاف عن البوح بكلمة حسنة واحدة طبع يثير الشفقة على البخيل بكليمة حلوة!”
“لا أحد يدرك أن هذا الصمات الرهيب في المجموعة،هي حالة كل من يبتلى بحبها؟ يبدو أنه عادتي مع الكتب التي تتحدث عن الكتابة؛ لأني أحبها.”
شأنه شأن من درجوا على الكتابة … يحفرون عميقًا في الصمت؛ ينثر رمّانة الغياب مخضبّة بدم مطلول؛ آن له أن يبوح ويسأل ويقول كما قيل( أنا في الغار متوحدٍ مع الكتابة..من أحب صحبتي؛ أحببته، ومن رَغِبَ عنها؛ دعوتُ له.)؛ قصة ممتعة عن استعراض الكتب.
رعاكم الله
جزاك الله خير يا استاذ، ما فعلته شيء مميز ويستحق القدير.
شكرا لكم يا أنيس