سير وأعلام عرض كتاب

حكايا من ذاكرة فهد العليان

حكايا من ذاكرة فهد العليان

بين يدي كتاب حديث الصدور، جمع فيه مؤلفه المقالات التي كتبها خلال سنوات سمان كما يحب التعبير عن أعمال غيره، وعنوان هذا الكتاب: حكايا من الذاكرة، تأليف: فهد بن علي العليان، صدرت طبعته الأولى عن جداول للنشر والترجمة والتوزيع عام (٢٠٢٢م)، ويقع في (٢٧٢) صفحة مكونة من إهداء وتقديم فمقدمة، ثمّ ثلاثة وسبعون مقالة تتحدث عن أناس أو أماكن أو مشروعات نهارية وليلية، وبعضها تكررت الكتابة عنه، وفي آخر الكتاب تعريف مختصر بالمؤلف الذي أهدى كتابه لوالديه الجليلين متعهما الله بالصحة والعافية.

وحتى نعرف مضمون أيّ كتاب بجلاء، يمكن الاستعانة بوصف المؤلف وصفته حتى يستبين المحتوى. والذين يعرفون الدكتور العليان سيؤكدون معي أنه مسكون بالقراءة والحثّ عليها ولو كان على مقعد طائرة، وهو حفي بالعربية، فخور بلسانها المبين، مصرٌّ على المنافحة عنها ولو خذله من خذله. كما أنه شغوف بالعمل المجتمعي والخيري في مداه الرحب الذي يجعل خير الجزيرة لأهل الجزيرة. ومع أنه لصيق بالثقافة ومساراتها، إلّا أنه اجتماعي ودود صاحب لقاءات دورية تختلف روابطها، خلافًا لبعض من حصرتهم الثقافة في إطار، وكان ينبغي لها ألّا تفعل، وكان يؤمل منهم الحرص على الحرية والانعتاق مما لا بأس في الخلاص منه.

إذا وعينا ذلك فلن نعجب من كون المقالات التي تكوّن منها الكتاب تخبرنا عن رجال ونساء من السعودية وغيرها، ينتمون إلى جلّ التخصصات العلمية والخبرات العملية، ولم يغب عنها أهل الرياضة والمسرح والفنون فهم شركاء أساسيون بالثقافة على معناها الواسع، ومن جملة المجتمع ومكوناته. ولا يجمع أصحاب السير المترجمين في الكتاب طيف فكري واحد، ومهما تأول متأول، أو تمحل متمحل، أو حكك محكك -وما أكثرهم- فلن يصل إلى نتيجة سوى أن هؤلاء الكرام من أهل الفضل بعلم وأدب، وتربية وخدمات اجتماعية، وشؤون ثقافية ورياضية وفنية، وأعمال خيرية ومجتمعية، وأن تلك المشروعات نافعة للجميع، وهاتيك الأماكن ليس فيها إقليمية مقيتة ولا عصبية مذمومة.

مما تمتاز به هذه المقالات أن غالبها عن أناس أحياء؛ بمعنى أنهم ممن يقرأ ما سطرته عنهم يد حانية، وعقل جميل، وقلب محب، وخلق وفي؛ ولعلها أن تغدو لبعضهم مثل البلسم، وعسى أن تكون لهم من عاجل بشرى المؤمن، ومن أسباب الدعاء المستمر، وألّا تكون من الطييبات المعجلة. ومن مزاياها أن المؤلف كتب عمن لقيهم وصادفهم في دروب الحياة وعاصرهم عن قرب، وجلّهم من جيل الكاتب، وفيهم من هو أسنّ منه أو أصغر في العمر، وقد ابتدأت الحكايا بالحديث عن ابنته “حنين” وكم ضج الحنين من الحنين!

كما أن القارئ لن يخطئ آثار الكاتب والأكاديمي د.إبراهيم التركي في الكتاب من مستهله إلى ختامه، إن في التقديم، أو فيما كتبه د.العليان عن د.التركي من مقالات مستقلة، إضافة إلى توالي النقل عنه بالنص أو بالمعنى، والإشارة المتكررة إليه وإلى أفكاره، مع ظهور شيء من نَفَس التركي الكتابي في بعض تراكيب الجمل، وفي خواتيم المقالات. ومما ينبه إليه أن د.إبراهيم ممن حثّ صاحبه د.فهد على جمع مقالاته في كتاب، وأن الرجلين اشتهرا بالكتابة عن الأحياء، في مبادرة للوفاء، واستبقاء المعروف بيننا، وإدامة الثناء على من يستحقه دون ابتغاء مصلحة، وإن اقتداء أهل الفضل والعقل بأمثالهم لسنة حميدة ماضية.

وممن تكرر الحديث عنهم فيما كتبه أبو علي ستقع العين الباصرة على أسماء مثقفين وأكاديميين وعلماء مثل د.عبدالمحسن العقيلي، ود.راشد العبدالكريم، ود.عبدالله الموسى، ود.خالد الراجحي، ود.محمد المشوح، ود.عبده الراجحي، ود.عمر سعيد، وآخرين. وفيما خطه عنهم قلم د.العليان ما يبعث الشوق لرؤية ثمار عقول وأقلام من لم يتشجع منهم بعد على النشر والكتابة، وليتهم ألّا يتأخروا، فهي من آثارهم التي ستثقل صحائفهم.

سيجد القارئ في الأسماء الواردة بالحكايا أصدقاء طفولة، أو زملاء دراسة من الابتدائية حتى الدكتوراه، أو رفاق تعليم إن في التعليم العام الذي يفتخر الكاتب بانتسابه إليه وينعى على آخرين محاولة التهرب منه، أو في التدريس الجامعي الذي نال شيئًا من التوسع قياسًا على خبرة د.العليان الطويلة فيه حتى أغلق باب القاعة معه في مقال مشحون بالعاطفة الصادقة، ومنهم أصدقاء في العمل المجتمعي، والشأن الثقافي، ورفقاء السمر والرحلات التي تجمع الأنس والفائدة، وتخلو من الشوائب والكدر، وتلك “الجمعات” تختلف في دواعيها من حلة العنوز إلى أوهايو!

كذلك من لطيف المقالات ما كتبه مؤلفنا عن أسرته وبناته وأولاده وأخواته، وعن عم وعمات بمثابة الأخ والأخوات، حتى أن جدته “مزنة الجمعة” قالت عنه: هذا ابني وليس ابن ابني؛ ولذا فلا غرابة أن كتب عنها مقالة خاصة، وما أجمل ذكرى الجدّة. ومن اللطيف أنه حينما كتب عن عمه وصفه بالأخ الذي لم تلده أمه “مزنة الزمام”، ويبدو أن المزن الكثير القريب من صاحبنا قد جعله مثل الغيث المبارك الذي ينفع أينما حل. وممن كتب عنهم أيضًا شقيقاته، وأنسابه، وعدد من جيرانه وأصدقائه الذين تمتد الصداقة مع بعضهم لأربعين عامًا، وفي مداده تلّطف ظاهر حتى بألقاب مثل نور العيون، وبيتو، وإن خيركم خيركم لأهله.

ولأن أبا علي قال مرة: “أدركوا حروف إبراهيم التركي”؛ فسنجيبه وندركها من التقديم الذي استفتح به أبو يزن هذا الكتاب، وفيه أن الكتابة ليست نزهة عابرة بل نصب يعانيه من كابده، وسؤال منبثق عن منهج المؤلف في الكتابة عن الأحياء، وفيه حث لغيره على الاقتداء، ولوم عن تأخير إبداء الأحاسيس؛ فلم لا نمتاز بالوفاء مثل تفوقنا بالرثاء؛ حتى يأتي الوفاء قرينًا للقلم بدل أن يكون الرثاء قرينًا للألم؟! ومن جملة التقديم أن هذا الكتاب ضم مشاعر بلا شعارات، وبدون تطلّب منفعة، ومع أن د.إبراهيم لا يذكر متى تلاقيا إلّا أن صلة الأرواح بينهما ترتقي في المدارج، وختم د.التركي تقديمه مستنتجًا أن د.فهد لا يكتب بل يشعر، والقارئ يعي أن كلماته نبع قلب سليم يحركه الخير، ويعلي من فضيلة الإيثار، ويصطفي الأحرف توثيقًا لأعمال وآمال وذكريات، ويسبق إلى مبادرات قبل أن تُطفأ السُّرج وبعدها؛ ولا غرو أن يقول د.العليان في أحد مقالاته: إنه ليس قلمًا يكتب، وإنما هو قلب يملي!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 16 من شهرِ ربيع الأول عام 1444

12 من شهر أكتوبر عام 2022مِ

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)