عرض كتاب لغة وأدب

تدافع المصطلحات والمفاهيم

هذا الكتاب ليس فقط (172) صفحة من القطع المتوسط، وليس محصورًا بعودة مؤلفه إلى واحد وسبعين مرجعًا من أجل عرضه للقارئ واضحًا بلا لبس أو تعمية، إنما هو شيء أعظم، ذلك أنه دفاع عن دين الإسلام، وحضارته، ولغته، وبعث للعزة الدينية والثقافية في نفوس أبنائه، ودعوة للاستقلال الذي يبدأ من الكلمة؛ فحينما تكون أحاديثنا بما فيها من مصطلحات ومفاهيم خليّة من الانسياق خلف الآخرين، بريئة من التبعية المقيتة؛ فهذا يعني أن تفكيرنا سليم من شوائبهم، وعليه فأعمالنا صافية خالصة، وذلك غاية المبتغى الذي يُسمى وإن جلّ!

عنوان الكتاب الذي مضى شيء من خبره: وقولوا انظرنا: قراءة في تدافع المصطلحات والمفاهيم، تأليف د.يوسف بن عبدالله العليوي، صدرت طبعته الأولى عام (1444=2022م) عن شركة آفاق المعرفة للنشر والتوزيع. وفي عنوان الكتاب دلائل لا تخفى، على رأسها الاستمداد من القرآن الكريم وأعظم به من مدد، والتنبيه إلى أن المسألة ليست حروفًا وكلمات فقط، وإنما عملية تدافع وتزاحم تكاد أن تصل إلى وصف الحرب والعدوان على السيادة والأمن الديني والقومي، ومن إشارات العنوان أن أول الآية فيها خطاب للمؤمنين، وكذلك صنع الكتاب من عنوانه!

يتكون هذا اللباب المختصر من المقدمة وممهدات فيها تعريف المصطلح، وتعريف المفهوم، ودلالات المصطلح ثمّ وظائف المصطلحات وهي وظائف بيانية، وعلمية، وحضارية.. وللمصطلح وضع لغوي، وعرفي، وشرعي، وقد ينتقل من وضع إلى آخر. ومع اختلاف التعريفات إلّا أن لكل مصطلح مفهوم، ولكل مفهوم مصطلح، والمصطلح عنوان المفهوم كما ينقل المؤلف عن الشاهد البوشيخي، وفي هذه المقدمة وممهداتها من التأسيس المعرفي ما ينبغي أن يعيه المثقف المسلم لأهميته، ويرجع إليه كلما احتاج له.

تلك الأهمية هي التي جعلت علم المصطلحات وكشافات الفنون مما كتب فيه علماء الإسلام منذ القدم، ولهم فيه مصنفات من مجلد واحد وأكثر، وللدكتور الطناحي كتاب مختصر مفيد عن هذا الشأن، وليته أن يكون في مكتبات الناشئة والشباب المفتخر بإرثه الضخم. كما أن هذه المسألة عن المواضعة في الاصطلاح مما بحثه الشيخ د.بكر أبو زيد في كتابه “فقه النوازل”. ولخطورة المصطلح ومركزيته جاءت مقالتان من مقالات كتاب “أباطيل وأسمار” للعلامة محمود شاكر عن لفظ “الدين”، وهو اللفظ الذي أشار إليه المؤلف في أول الكتاب، وما كتبه أبو فهر حقيق بأن يبرز ولو في رسالة قصيرة.

يبحث القسم الأول من هذا الكتاب منظومة المصطلحات والمفاهيم الإسلامية، وهي حسب أنواعها خاصة بالإسلام أو كانت موجودة قبله، ومنها المركزي الواسع، والفرعي المحدود. وقد تكفل الله بحفظها حينما حفظ كتابه العزيز من التحريف والتأويل؛ ولذا جاءت بعض المصطلحات مع معناها ضمن النص الشرعي، وبعضها فهم من الاستقراء والتتبع، وإن أمرًا يحفظه الله الحفيظ الحافظ لتعجز عنه الإنس والجن ولو فعلوا ما فعلوا، والحمدلله.

ولمصطلحاتنا ومفاهيمنا سمات تجعلها الأسنى والأعلى، فهي ربانية جاء بها الوحي المقدس لا عقول البشر، وفيها شمول وتكامل تعالج بهما جميع شؤون الدين والدنيا، ولا تقتصر على بقعة أو زمان فهي عالمية يخاطب بها المسلم وغيره، والعربي وسواه، ولأجل هذا وضع فضيلة أ.د.العليوي ضوابط مهمة لترجمة المصطلحات إلى لغات أخرى كي لا يذوب المصطلح أو يختفي لفظه أو يرتبك معناه، ومعها وصايا نفيسة للترجمان المسلم. ومن سماتها أيضًا الثبات في اللفظ والمفهوم، والحُسن باستخدام الكناية والتشبيه والمجاز تحاشيًا لما يُستقبح التصريح به في الأسماع.

كما تطرق المؤلف إلى مسألة مهمة وهي شبكة العلاقات التي جعلت المصطلحات والمفاهيم في تعالق وتعاضد، حتى أن أ.د.العليوي لم يقف على مصطلح مستقل بذاته، فهي مثل الشجرة بما فيها من مكونات مترابطة لا ينفك أحدها عن الآخر. ويأتي التعالق على صور مختلفة منها الترادف، والتناظر، والتقابل، وله صور أخرى مثل السببية، والشرطية، وعلاقة الكل والجزء، والملازمة، وما ينبثق عن الزمان والمكان، إضافة إلى العلاقة الدلالية بين المصطلح والمفهوم.

أما القسم الثاني فعن المفهوم الإسلامي (من المضاد إلى السائد)، ويرى أ.د. يوسف أن الإسلام اتبع منهج التخلية والتحلية في تغيير المفاهيم وإحلال مصطلحاته؛ فمن التخلية زحزحة الشرك وتحطيم صورته بربط الشرك والمشركين مع الظلم والجهل والخسران، وإظهار ضعف الشركاء وعجزهم إظهارًا مؤكدًا يزيد من هوانهم في النفوس وضعتهم في الأعين، ومنها تجلية التناقض في حال المشركين ساعة الرخاء وساعة الشدة التي يؤوبون فيها صاغرين إلى التوحيد بعد أن لجوا في الشرك حين الرخاء. ومنها كذلك استدعاء قصص مشركي الأمم السابقة ومآلهم، والتذكير بمصير المشركين في الآخرة أجارنا الله وإياكم.

فإذا خلت الساحة من هذا المصطلح والمفهوم، وأبغضته الفطر وكرهته القلوب، أتى وقت التحلية بغرس المصطلح الصحيح وإحلال مفاهيمه بربط التوحيد بالله سبحانه، وقصر العبودية عليه، وتوثيق عراها بالإخلاص، وتأكيد التلازم بين الألوهية والربوبية، والربط بين التوحيد والإسلام. وعقب ذلك يُستفاد من تقرير اليوم الآخر بالنقل والعقل، والبناء على الإيمان به الذي يُعدّ من أركان الإيمان، ولهذا الإيمان أثر بالغ في زحزحة الشرك، وإحلال التوحيد. وفي هذا القسم استشهاد واسع بالقرآن العزيز وآياته البينات يعزز مرجعية المصطلح والمفهوم إلى النص الشرعي المقدس.

ثمّ يتحول بنا الكتاب إلى القسم الثالث بعنوان المفهوم الإسلامي ( من السائد إلى المضاد)، وفيه تنبيه على مكر الأعادي، ومحاولاتهم المستمرة لتغييب المصطلحات الإسلامية بمفاهيمها، ومثّل الكاتب لذلك بالخلافة والجهاد وما جرى لهما من تنحية وتشويه وإرجاف. ومن إفكهم غير ما سبق السعي لتبديل المصطلحات والمفاهيم الإسلامية بنزع قداستها، أو إلغاء مفهومها، كما تفعل الباطنية بأركان الإسلام، أو بإعادة صياغة المعنى مثل مفهوم تجديد الدين، أو بتوسيعه مثل توسيع مفهوم الإسلام ليدخل فيه أهل الكتاب من باب الإبراهيمية ووحدة الأديان، ويقابل التوسيع التضييق الذي وقع على مفاهيم الكفر والجهاد.

ومن بهتانهم تجزئة المفاهيم حتى بتنا نسمع عن إسلام عربي وأعجمي وأجنبي، وإسلام جديد وآخر قديم، وإسلام سياسي أو اجتماعي، وغير ذلك من الخطل وإنما الإسلام واحد لا يقبل التجزئة ولا القسمة، ولكل أحد من أهله نصيب بحسب اتباعه وقربه من مراد الله وسنّة رسوله عليه الصلاة والسلام. ولعل القارئ أن يلاحظ أن بعض المتشدقين بهذا التقسيم يطربون وهم يلوكونه، ويظنون أنفسهم من الخبراء البصراء، وهم على التحقيق نقلة مقلدون ينقصهم الوعي، وربما يعوزهم الذكاء والزكاء!

إن باطل القوم يتزين بسعيهم الحثيث لتقبيح مصطلحاتنا، وتحسين ما يضادها، ومن التقبيح ربط المصطلح والمفهوم بما يُستكره مثل ربط الحجاب بالتخلّف مع أن المنطق والواقع يثبتان ألّا علاقة بينهما البتة، وربط الحدود بالتوحش، وبالمقابل يخلعون على زورهم أوصاف العقلانية والتنوير والانفتاح والحرية، وأيّ شيء من المكاشفة والفحص يثبتان لطالب الحق أن هؤلاء الكذبة وما جاءوا به من زخرف القول أبعد ما يكونون عن معاني كلماتهم البراقة، ويوقف المنصف على حقيقة مصطلحاتهم النظيف مظهرها، النتن مخبرها، المسموم مضمونها.

كذلك فإن من التضليل الزعم بأن المصطلحات والمفاهيم الإسلامية لها تاريخ محدد، وزمن انقضى، وكأنها منتج له تاريخ صلاحية، أو أنها مؤقتة بعصر سلف ولن يعود، والعجيب أن بعض من يقول ذلك يتكئ على مقولات قديمة قبل الإسلام لكنه لا يجعلها مرحلية لها تاريخ، والأعجب أنك لو سألته عن العمر الافتراضي لمصطلحاته ومفاهيمه لأزبد وأرغى! ومن الضلالة إحلال مصطلحات جديدة ومضادة كي تطرد المصطلح الإسلامي الأصيل، وتقصي المفهوم الشرعي الكامل النبيل، وما أولى أهل الإسلام بالحذر والحيطة.

وماذا بعد هي خاتمة الكتاب، وفيها توصيات عملية لاستحياء هذه المسألة الأساسية على صعيد العلم والعمل والتربية؛ لأن غياب المصطلح يعني غياب حمولته الشرعية والحضارية، ويعني فساد اللغة العربية، ويعني أن الكتابة والصياغة ستفقد روحها وقوتها، ويعني أن الأمة ستغدو تابعة منقادة، ويعني أن مفاهيم الدين وأحكامه ستغيب، ويعني أن عقولنا ترتهن لليهود والنصارى والمنافقين البارعين بالتحريف والتأويل، ويعني أن حال الذل والهوان لن ترتفع عن البلاد والعباد مادام القصور مستحكم حتى على ألفاظنا وكلامنا، وإن اللسان لمغراف القلب، ومبين عن العقل، وحري بنا إصلاح المنطوق الذي يبين عن سلامة التصور والمفهوم، وجدير بمن يغار أن ينظر في هذا الكتاب وإخوانه، وأن يبّث مفاهيمه فيمن حوله، فهذا من العبودية والاعتزاز، والله غالب على أمره.

ahmalassaf@

الرياض- الخميس 10 من شهرِ ربيع الأول عام 1444

06 من شهر أكتوبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)