ثمار دانية من مؤتمر المدينة للأوقاف
هنيئًا لكلّ من عمل ولو بربع كلمة في الإعداد والتنظيم لمؤتمر المدينة للأوقاف الذي بدأ وانتهى خلال الأسبوع المنصرم؛ بيد أنه على التحقيق بدأ من حين ازدادت العناية بالأوقاف وما يخصها، ولم ينته حتى لو قفل الناس إلى بلادهم، وأُعلنت نهاية المؤتمر؛ ذلك أن ثماره باقية مستمرة متناسلة، ولسوف تكون سببًا لمداد لا ينقطع من التنظير والتطبيق والتجديد، حتى يجد الناس بركة المدينة وإن كانوا في طرف قصي من الأرض؛ فهنيئًا لمن ضرب بسهم في هذا الشرف الثابت، والمجد الكافي.
فمن ثمار هذا المؤتمر المباركة ذلكم الحضور الكبير بمن فيه من رجال دولة من أمراء وعلماء، وأثرياء ووزراء، ومهنيين ومسؤولين، وأصحاب اختصاص علمي أو عملي بالصناعة الوقفية وما يؤثر فيها، إضافة إلى كثير ممن حضروا لنقل تجربة، أو للإسهام في نفع، فمن خصائص الأوقاف أنها تقبل أيّ عامل للحال أو المآل إذا كان يبتغي ما عند الله أيًا كان واقعه؛ فالوقف حاضر ومستقبل يتجاوز الدنيا إلى الآخرة.
من أجلّ الثمرات أيضًا بناء إطار للشراكة الإيجابية غير التدافعية، والبعيدة عن المغالبة، بين المؤثرين في هذا القطاع الأساسي على تباين المسؤوليات والمرجعيات، ومع توحيد النوايا الخيّرة، والحسّ المشترك بالنفع والقيمة، ويشترك في حمل هذا الهم، واكتساب ذلكم الأجر والفخر أجهزة رسمية، ومؤسسات بحثية، وشركات مختصة، وخبراء، وواقفون، ووجهاء، وقضاة، وعلماء، والله يجعلهم بلا مثنوية من المتعاونين على البر والتقوى، المتجاوزين للصغائر وعوالق النفوس، حتى تحطّ الحسنات في سجل تاريخهم وصحائفهم فردًا فردًا، وما ذلك على ربنا الكريم التواب بعزيز، وكي نصل إلى هذه المرحلة فلا مناص من تكاتف مخلص رشيد لخدمة الصناعة الوقفية بتآزر جهود أطرافه الرسمية والمجتمعية.
كذلك من ثمار مؤتمرنا أن النجاح الذي تلذذ به الحضور والمشاركون يفتح الشهية لمزيد من الأعمال بناء على طعم النجاح المدني، ولربما يتكرر المؤتمر نفسه في أماكن أخرى، أو تُعقد مؤتمرات شبيهة به كما تمنى مشاركون من إندونيسيا. هذا غير ما حدث بين جنباته من تعارف، وتآلف، واتفاقيات بأنواعها، ومن المجزوم به أنه كان سببًا في تعديل صورة ذهنية باهتة خاطئة، من خلال التنظيم، والإدارة، والطرح، والنقاش؛ كي لا يظن ظان أو يبخس باخس فيقول أحدهما: إن الأوقاف عمل خلي من الإجراءات، أو أن القائمين عليه أقرب للدروشة منهم إلى حسن الأداء.
كما كان من يانع الثمر تلك المبادرات والمشروعات والأفكار التي أشاعت الحيوية والبهجة في جنبات المؤتمر فما بعده، ومنها الإعلان عن فكرة تحت الدراسة لإنشاء سوق مالية “بورصة” للصناديق الوقفية، وقد يكون مقرها في المدينة النبوية التي يُراد لها أن تكون عاصمة الأوقاف في العالم، ومن الفأل الحسن أن رئيس هيئة سوق المال أ.محمد القويز افتتح أول مسجد يمول بناؤه من الصناديق الوقفية، وعسى أن تصبح فكرة البورصة المدنية الوقفية واقعًا في أقرب وقت ممكن.
ومنها الدعوة الموفقة التي أطلقها الشيخ أ.د.سعد الشثري لدراسة إتاحة استقبال الأوقاف من خارج المملكة، وإنشاء الأوقاف داخل المملكة للإنفاق على أعمال في خارجها، وفي هذين المشروعين المتقابلين فوائد جمة سياسية واقتصادية ومجتمعية وريادية، وضبطها الإداري والمالي والأمني مقدور عليه، والتحفيز عليهما له مسوغاته المتوافقة مع الرؤى والتوجهات لجعل المملكة بيئة جاذبة، وموئلًا لمشروعات اقتصادية ووقفية واستثمارية، إضافة إلى الحراك النشط المرتبط بهما من ناحية علمية للتطوير وابتكار الجديد، ومن ناحية عملية عبر إيجاد الوظائف، وإنشاء المشروعات المنافسة.
واقترح د.إبراهيم الغفيلي إنشاء وقف الملك سلمان بالمدينة على غرار وقف الملك عبدالعزيز بمكة، وجاء مقترحه في ورقته التي احتوت منتجًا ناضجًا لتمويل الأوقاف تفردت به المملكة عن غيرها. وأوضح أ.أيمن أبانمي منهجية عملية في تنويع المحافظ الوقفية الاستثمارية وتوزيع المخاطر، وتمنى العمل على تثبيت يوم عالمي للأوقاف، على أن يكون في يوم من شهر سبتمبر الذي تمت فيه الهجرة النبوية إلى المدينة؛ إذ بدأت بعدها مسيرة الأوقاف المباركة إلى يومنا وإلى قيام الساعة.
ثمّ عرض م.صفوان المضيان ملخصًا عن مشروع مختبر التقنية الوقفية لحل التحديات المالية والتنظيمية بمشاركة مجتمعية واسعة؛ ولأن الفكرة عملية ولها تطبيقات ناجحة بادر بيت التمويل الكويتي إلى إعلان الاستعداد لتبني هذه الفكرة وتمويلها. وأبان أ.د.عبدالرزاق بالعباس عن رؤية شاملة لبناء مراكز بيانات تجلّي واقع الأوقاف وتوضح فرص التحسين والتجويد، وهذه الورقة مهمة كي تكون دافعًا لإنشاء مراكز معلومات وقفية؛ إذ أن المعلومة قوة وأمان وشفافية، ولعلها أن تكون طريقًا للمراصد، ومراكز الأبحاث والتفكير، وغرف اتخاذ القرار، وكم لهذه المراكز من آثار حميدة.
بينما أعلن د.علي البريدي عن تسجيله لمنصة تمويل جماعي للأوقاف وله في مثل هذا الشأن خبرة سالفة موفقة، ونجاح هذه المنصة فيه عون للأوقاف، وضمان لطول حياتها وإنقاذها من العثرات؛ لأن الأوقاف لا تمول محليًا، ولا يمكن أن تقترض من المصارف، ولا تجمع التبرعات مع أنه عمل رسمي مأذون به، ولا يحقّ لها أن توقع عقدًا طويل الأجل، ولا يمكن بيع عقارات الأوقاف، والصمود أمام الرسوم صعب، والحل الناجع في منصة تمويل جماعي منقذة للأوقاف، ولعلّ المهندس سلطان الدويش قد تفاعل بمداخلته مع هذه الأوراق والأفكار حينما طلب إقامة ملتقى للتمويل والاستثمار والهندسة المالية في الأوقاف.
وجاءت ورقة أ.إبراهيم الخميس بمشروع إستراتيجي لمعيار حوكمة الأوقاف، واحتوت ورقة العمل المقدمة من د.عبدالله اليحيى على معالم جوهرية لأولى التنظيمات الوقفية، وأشار المحامي عبدالكريم الشمري لضرورة إعادة النظر في لائحة النظار، وطالب د.إبراهيم الغفيلي بمنصة إفصاح لاستثمارات الأوقاف العامة كي تكون قدوة للأوقاف الخاصة، وهذه المقترحات التي أضاءت بها تلك الأوراق ستجد طريقها للتوصيات ولميدان العمل الفسيح بإذن الله.
وقد أعانت ورقة أ.أحمد كريري المستمعين على الإحاطة بمعالم الأوقاف في المملكة من خلال وصف بيئة هذا القطاع بما فيه من أجهزة تنظيمية، ومؤسسات علمية واستشارية، ومؤتمرات وملتقيات، وأصحاب اختصاص أو مشروعات وقفية، وهي ورقة لم تكتف بوصف الأوقاف فقط، وإنما فيها قدوة لمن شاء تكرار النموذج نفسه مع قطاعات أخرى؛ كي لا تغيب المعلومة الواقعية، وإن المعرفة والحصر هما أول خطوات العمل الصحيح نهجه، المبارك أثره، ولذا انبهر المستمعون حين علموا أن مركز طابة وواقف أصدرا سبعة آلاف (7000) وثيقة وقفية حديثة خلال سبع سنوات، ومثلهما مركز استثمار المستقبل وتسبيل الذين أصدرا الآلاف من الوثائق الوقفية الحديثة، وهذه أربعة مراكز فقط من أصل ستة وثلاثين مركزًا متخصصًا في المملكة، والقياس سنة متبعة، ومنهج علمي صائب، ومن خلاله ندرك الضخامة والجدية في محيط قطاعنا الوقفي المبارك.
إن هذا المؤتمر الدولي المنعقد في المدينة النبوية ليبرز للعالم تجربتنا السعودية في قطاع الأوقاف، وهي تجربة لا يقبل منها إلّا أن تكون الموجه لغيره والإمام الذي تتبع حركاته وسكناته، ولذا استخرج المؤتمر ثلاثمئة تأشيرة لوفود مشاركة من الخارج كي تطلع على منجزاتنا وترى ثمارنا وتنقل طريقتنا. وإنه لمؤتمر فيه رؤى إستراتيجية كما بيّن إمام الحرم الشيخ د.عبدالباري الثبيتي، وأوراقه العلمية دسمة ثرية ولذا رغب راعي المؤتمر نائب أمير المدينة الأمير سعود بن خالد الفيصل الحصول على نسخة من بعضها.
فجزى الله القائمين على المؤتمر كلّ خير أيًا كان نوع المشاركة ولو بكلمة لطيفة، أو عون إداري، والشكر يتعاظم لشركة ثلاث الدولية على تنظيمها ورعايتها، وأخص د.إيهاب أبو ركبة وَ م.محمود العوضي وَ أ.أحمد كريري، وعسى الله أن يجعل هذا العمل لهم ولمن ساهم معهم أحد الأعمال الباقية التي لا تنقطع أجورها للمرء بعد وفاته حسبما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة أنهم جعلوا اسم شركتهم مقتبسًا من هذا النص الشريف، وإن المؤتمر لخالد بأوراقه المحفوظة مكتوبة ومصورة، وخالد بآثاره التي سوف تشرق وتغرب حتى تشرق بها الدنيا ويشرق بها الشيطان تمامًا كما كانت دعوة الإسلام في انطلاقتها المدنية، ولربما أن الجميع سيردد مع د.عبدالعزيز الشاماني نائب رئيس لجنة الأوقاف بغرفة المدينة قوله محتفيًا بالمؤتمر ومختتمًا قصيدته:
ستَلْقَى الرِّبْحَ في يَوْمٍ عَسِيرٍ *** هُنَالِكَ فانْتَظِرْ زَفَّ البِشَارَهْ
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين الثاني من الشهر الثاني عام 1444
29 من شهر أغسطس عام 2022م