الأوقاف: نفطنا الأبيض المبارك!
دعني أعترف لك بأن إطلاق وصف النفط الأبيض على الأوقاف قرأته لأول مرة في لقاء صحفي مع الشيخ راجس الشرافي أحد الذين ينافس الوقف لديهم النَّفَس وكل نفيس! وإذا أجرينا القياس على هذا الوصف فلربما نجد في بلادنا العزيزة من النفط ما يتجاوز الأسود والأبيض إلى ألوان عديدة، فالنخيل، والثروة الحيوانية، ورمال الصحارى، والممرات المائية والجوية والبرية، والمعادن، والأماكن السياحية، وفرص تعليم الشريعة واللغة العربية، كلها تشبه النفط في المرجو منه، دون نسيان قدسية الحرمين الشريفين وبركة وجودهما؛ فإليهما تهوي الأفئدة، وفيهما لا يُستكثر مال، ولا يتعاظم جهد، ولا يحسب وقت، وبلا إغفال الطاقة البشرية الشبابية زانها الله وزادها وعظّم نفعها.
ثمّ دعني أقول بأن قطاع الأوقاف قد دبّت فيه المزيد من نسائم الحياة، ونفحات النشاط، وبشائر التجديد، حينما سمي وزير المالية أ.محمد الجدعان رئيسًا لمجلس إدارة هيئة الأوقاف، فوزارة المالية من وزارات الحكومة القديمة والسيادية، ولا يكون وزيرها على رأس شيء إلّا وهو فائق الأهمية، وذو تقدمة وأولوية، وعلاوة على ذلك ترتبط كثير من آمال الأوقاف، وحلول إشكالاتها، وآفاقها المستقبلية، بمؤسسات وهيئات وبنوك وقطاعات ترتبط بوزارة المالية وبوزيرها بصورة أو أخرى.
لأجل هذا نلاحظ الاحتفاء الشديد بمؤتمر المدينة المنورة الأول للأوقاف الذي يعقد بتظافر أجهزة حكومية وخاصة يومي الأربعاء والخميس 26-27 من محرم عام 1444ويوافقهما 24-25 من أغسطس عام 2022م. فمن مزايا المؤتمر انعقاده في مدينة النبي الأكرم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وهو المؤتمر الأول بكثافته ومحتواه العلمي، ويشارك في حضوره عدد يتجاوز خمسة آلاف إنسان فيهم واقفون، ونظار، وأسر تجارية ووقفية، وعلماء، وأساتذة، وخبراء، ووزراء، ومشايخ وقضاة، وأمراء وغيرهم. ويحظى المؤتمر برعاية أمير المدينة الأمير فيصل بن سلمان، ويقام في قاعة مركز الملك سلمان الدولي للمؤتمرات أكبر قاعة مؤتمرات بالشرق الأوسط، وهو مؤتمر دولي مرخص، وفيه أكثر من ستين جناح، وعدد ضخم من الشركات والمؤسسات والجمعيات المشاركة.
أيضًا من مزايا المؤتمر ما يحتويه من ورش عمل للرجال والنساء تبدأ اليوم الثلاثاء، وتصف التحديات بوضوح، وتقترح الحلول بجرأة، وتتراءى المستقبل بتفاؤل، إضافة إلى جلساته الافتتاحية والعلمية، وأوراق العمل التي فيها، واللقاءات المفتوحة العامة، ومن الطبيعي جدًا أن يكون لهذا الحضور الضخم لقاءات فردية أو بينية، ومن المتوقع أن يصبح المؤتمر بما فيه من حوار صريح، وأسئلة عملية، ومقترحات ناضجة، وتوصيات وجيهة، من أرقى ما يطمح إليه المرء المحب لبلاده ومجتمعه وقطاعه، ويبقى العمل والتنفيذ الذي نثق بربنا أنه سيتم ولا بد، وأن الله سيعين المشاركين وأصحاب القرار على المضي قدمًا نحو الأداء الأوفق والأرشد، والمدينة خير بما فيها ومن فيها، هذا غير أننا نتفاءل بطلعة سهيل التي نغاث بعدها بفضل من الله ورحمة وأمر!
ومن ضمن جلسات المؤتمر جلسة بعنوان: الأوقاف والبيئة التنظيمية برئاسة عضو هيئة كبار العلماء الشيخ أ.د.سعد الشثري، وفيها أربعة أوراق عمل، ومنها جلسة ثانية عن التنمية والاستدامة يديرها رئيس جامعة طيبة د.عبدالعزيز السراني وتحتوي على أوراق أربعة كذلك. ثمّ يعقبهما في اليوم الثاني جلسة ثالثة حول التمويل والاستثمار ورئيسها الوزير د.بندر حجار وتشتمل على أربعة أوراق، وأخيرًا جلسة عن التقنيات الحديثة للقطاع الوقفي برئاسة الوزير أ.د.علي النملة وأوراقها ثلاثة، وهذه الجلسات الثمينة مقسمة على يومين، ويتخلل هذين اليومين جلسة افتتاح، ولقاء حواري مع أ.محمد القويز رئيس هيئة السوق المالية، إضافة إلى أوراق عمل مستقلة تقدم بين الجلسات.
كما نلاحظ في الأوراق المقدمة داخل الجلسات أو بعدها أنها تشير إلى عناوين غير مسبوقة وتطرح لأول مرة في القطاع الوقفي، أو يُرجى منها الجديد العملي، مثل ورقة الأوقاف في الناتج المحلي، ومدخل في بناء معايير حوكمة الأوقاف، وتجربة وقف الملك عبدالعزيز، ووصف البيئة الوقفية بالمملكة بما فيها من كتل وأشكال، وعلاقة القضاء بالأوقاف، وقياس الأثر، وتجارب في الاستدامة والوقف الذري، مع عرض جهود أجهزة حكومية في النظارة والسلامة والاستدامة والتنظيمات، ويزينها أثر القيادات النسائية على الأوقاف، ويقويها شراكة العائلات التجارية مع الوقف.
كذلك تعرض في المؤتمر أوراق أخرى لها فضيلة السبق، والإبداع، أو منقبة المحاكاة والتحوير بما يخدم القطاع الوقفي دون التقليد الحرفي، أو الانحصار بالموجود تنظيرًا وتطبيقًا، مثل ورقة مختبر التقنية المالية على غرار المختبر في هيئة سوق المال، ومختبر البنك المركزي، وهذه المختبرات تلامس الاحتياج الفعلي، وتعالج التحديات التمويلية والتنظيمية، ومن فتوحها أن أسندت للمواطنين إمكانية المشاركة في إيجاد الحلول لمعالجة مشكلات التنظيم والتمويل على أن تُجرّب ثمّ ترخص وتصبح رسمية، وسياسة معمولًا بها، وكم في عقول أهلنا من قدرات ونماء، وكم في أرواحهم من نقاء وزكاء.
ومثلها أوراق التقنيات المالية، ومراكز البيانات، والهندسة المالية للتمويل، وتنويع المحافظ الاستثمارية من أجل توزيع المخاطر، وتحديد أفضل سبل الاستثمار الوقفي. ومن البديع ورقة بعنوان وقف تك التي تدرس إتاحة التمويل الجماعي للوقف بما يذيب إشكاليات التمويل، ويعطي عامة الناس الفرصة للمشاركة حتى لو لم يكونوا من ذوي الثراء، وفيها مصالح دنيوية ومجتمعية وأخروية لا تخفى، وهي تهب للمرء طاقة إيجابية، وترفع مستوى الفعالية وحس المشاركة لديه.
كما أني لا أغضّ الطرف عن تلك الثلة الكريمة النبيلة من المشاركين إن بالإدارة أو الحديث أو الحوار أو الاستماع أو التنظيم، ومجموعهم يتجاوز خمسة آلاف من ذوي الخبرة والعلم والمشاركة والتأثير والاهتمام، وفيهم أمراء ووزراء، وعلماء وقضاة، وأساتذة وخبراء، وباحثون في مراكز بحثية وجامعية، وأثرياء ووجهاء، ومهنيون ومفكرون، ومديرو شركات ومشروعات، ورواد وكتّاب، وبعضهم يتحدث من منطلق تجربة عاصرها حتى عصرها واستخلص لبابها، وفيهم من جمع الخبرة والممارسة مع البحث والدراسة، ومن المؤكد صدق النوايا وعظيم الحرص على الوقف والمجتمع -ولا نزكي على الله أحدًا- وهم قامات لا نُحصي ذكرهم، بيد أن الله يحصيهم وهو بهم أعلم، وهو سبحانه المتكفل لهم بحسن الأحدوثة، وأحسن الجزاء.
إن هذا المؤتمر بما فيها من علم متين، وعمل رشيد، وتنظير يجوده التطبيق، وتطبيق يقود إلى كمال التنظير، ليعزز مكانة المملكة العربية السعودية الريادية في مجال الأوقاف وما يخصّ شؤونها التشريعية، والتنفيذية، والاستثمارية، والتقنية، ويجلّي قدرات العاملين والمختصين بها من مواطني المملكة، هذا غير أنها تزيد من إقبال الأثرياء، ورجال الأعمال، والأسر الوقفية العريقة، نحو هذا الباب الزاهي من الخير الباقي، وإنه لمحفل يعظم الثقة، ويقرب بين الرؤى، ويعين على استجلاب البركات، ومراكمة الخيرات، ومجتمعنا بذلك حقيق جدير.
وإن هذا المؤتمر المبارك في مكانه وزمانه وموضوعه وحضوره ورعاته وموضوعاته ليفتح لنا أبواب الرجاء والأمل، بأن يكون المدخل الواضح، والقاعدة الأساس، لمعالجة أيّ إشكال في واقع الأوقاف، وإزالة العوائق، وربط العلائق بالأجهزة والمؤسسات المتقاطعة مع هذا الشأن المجتمعي الحيوي المهم، وبناء قنوات تواصل يمكن من خلالها الاقتراح، وإبداء وجهات النظر، والتوضيح، وابتكار الحلول، واغتنام الفرص، وإذابة أيّ جمود يعترض مسيرة نفطنا الأبيض؛ الذي يتدفق بفضل من الله ومنّة، ثمّ بجود من المحسنين، ورعاية من المديرين، وحنان من المراقبين، وهو خير في الدنيا والآخرة، وفي العاجل والآجل، ونحن بمثله جذلون سعداء آمنون، والشرف كلّ الشرف فيمن تهيأت له الفرصة حتى يكون معينًا غير معيق، مساعدًا غير معاسر، ويده وفكره وروحه مع هذا القطاع المبارك على المجتمع في حاضره ومستقبله.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 25 من شهرِ محرم عام 1444
23 من شهر أغسطس عام 2022م
One Comment
فتح الله عليك وزادك من فضله جليت الأمر وشوقتنا لهذا الملتقى والمحفل الكريم زادك الله من فضله يا الغالي